كيف باع غورباتشوف صدام حسين؟ الحلقة الرابعة . سلام مسافر . سرد ” مبعوث غورباتشوف” في كتاب؛ تفاصيل مهمته الصعبة، بين موسكو وبغداد وعواصم غربية وعربية، بحثاً عن مخرج من أزمة احتلال العراق للكويت. وقبل أن يتوجه الى بغداد، طلب من رامي الشاعر،ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في موسكو، سابقا،ان يكتب مقالاً يوضح جوهر الموقف السوفيتيّ من غزو الكويت. وحدثني الشاعر، الذي يعمل مستشاراً في عدد من المؤسسات الروسية، أن مبعوث غورباتشوف؛ كان يسعى لتوصيل رسالة، الى صدام حسين، مفادها، أن موسكو، ترفض بشكل قاطع، احتلال الكويت. واختار بريماكوف، شخصية فلسطينية ، معروفة، وقريبة من أجهزة السلطة السوفيتيّة، لإيصالها، عبر مقال، نشر على الصفحة الاولى، من ” ازفيستيا ” لسان حال الحكومة السوفيتيّة، وتحت عنوان مُلفت” الملاكمة الحرة”. ركز المقال الذي حمل توقيع” رامي الشاعر – كاتب فلسطيني” على أن غزو العراق للكويت؛ أدى إلى سابقة، تشجع إسرائيل ؛ أكثر على خرق القوانين والقرارات الدولية، وتمنحها الذريعة للعربدة في المنطقة، ما دامت الدول العربية؛ لا تحترم حدودها ولا تلتزم بالمواثيق المبرمة بينها. ولعل مبعوث غورباتشوف، أراد أن يقول من خلال المقال، في ثاني أكبر صحيفة سوفياتية بعد ” برافدا” أن تلويح القيادة العراقية بمطلب، الانسحاب المتساوق؛؛ إسرائيل من الاراضي الفلسطينية، و العراق من الكويت،ربط قسري،لا تاخذه موسكو ، كما عواصم القرار الاخرى على محمل الجد. رجل المهمات الصعبة ———————- يتميز يفغيني بريماكوف؛ بالحذر الشديد، والغموض في مواقف مفصلية، بحكم أنه ومنذ صعوده المبكر في سلم العمل الصحفي، كان مرتبطاً بجهاز أمن الدولة السوفيتيّة الذي يحرص منتسبوه على التكتم. ومع أن بريماكوف بدء حياته السياسية الطويلة، مراسلاً صحفيا في القاهرة وبيروت، ثم ترقى في المناصب الأكاديمية ، والحكومية، إلا أنه كان يتحاشى التحدث الى الصحفيين، فلعله كان يخشى قراءة مواقف لا يريد لها ان تظهر بوضوح، أو الانزلاق في تصريحات، تفسد مهامه الخارجية التي غالبا ما تتسم بالخصوصية والسرية. المفارقة انه حين عمل مراسلا لصحيفة ” برافدا ” في القاهرة، ستينيات القرن الماضي، كان يعتبر المصدر الوحيد للمراسلين الأجانب، الباحثين عن معلومات توضح بعض مواقف الحكومة السوفيتيّة من مختلف الاحداث. ووفقا الدبلوماسي الفرنسي إيريك رولو الذي عمل في تلك السنوات مراسلا لصحيفة لوموند في مصر ، فإنه وزملاءه كانوا يسمعون آراء وتحليلات تختلف عن اللغة الخشبية للبيانات السوفيتيّة من يفغيني بريماكوف. وواضح فإنّ السياسي المخضرم، كان يقوم ، بدور النافذة الصغيرة على القاعة المعتمة للمؤسسة السوفيتيّة الحاكمة، حقبة بريجنيف التي دخلت التاريخ على أنها ” فترة الجمود”. الجنرال الملا —————- بريماكوف الشاب، خريج معهد آسيا وأفريقيا، كان مبعوث القيادة السوفيتيّة مطلع ستينيات القرن الماضي إلى زعيم الحركة الكردية ملا مصطفى البارزاني، وتفاهم معه على إسداء المعونة السوفيتيّة للحركة الكردية عقابا لعبد الكريم قاسم الذي قلب ظهر المجن للشيوعيين في العراق. وكانت إحدى أهم لقاءاته مطلع العام 1963،بعد إنقلاب شباط في العراق. فقد قررت موسكو مضاعفة الدعم العسكري للجنرال في جهاز أمن الدولة السوفيتيّة(كي جي بي) منذ العام 1947 الملا مصطفى البارزاني. وفقا لمذكرات ، أحد أبرز قادة الجهاز اللواء بافيل سودوبلاتوف،الذي نفذ عملية اغتيال الزعيم البلشفي المنشق ليف تروتسكي في المكسيك بأمر من ستالين. وكان سودوبلاتوف أشرف بنفسه على تدريب الملا مصطفى اثناء اقامته في الاتحاد السوفيتيّ. موساد الملا ——————- يروي الدبلوماسي والكاتب الصحفي الفرنسي إيريك رولو المولود في مصر لعائلة يهودية لبرنامج ” رحلة في الذاكرة ” اعداد وتقديم الزميل خالد الرشد على RTarabic ، كيف انه التقى بريماكوف في ديوان الملا مصطفى، بعد ان وصل الى مقر الزعيم الكردي في أعالي الجبل متسلسلا من إيران، مع مرافق كوردي على البغال لإجراء مقابلة مع الملا لصحيفة لوموند الفرنسية. ويذكر رولو تفاصيل مثيرة عن اللقاء-بغير ميعاد- مع بريماكوف في اعالي جبال كوردستان. ولعلّ الأكثر اثارة في رواية رولو (1926-2015 ) بأنّ ضابط موساد اسرائيليا أبلغ صحفياً اميركياً بعد أربعة عقود بأن حياة الصحفي الفرنسي الشاب، إريك رولو كانت معرضة آنذاك لخطر الموت لولا تدخل الملا وبريماكوف. فبعد أن أنهى رولو مقابلته مع البارزاني، أثناء توديعه، طاف بنظراته بوجوه البيشمركة المتحلقين حول الزعيم الكردي، ولاحظ اختلاف سحناتهم. واعتقد ضباط الموساد الذين كانوا يعملون مع الملا مصطفى؛ انه اكتشف أمرهم . فقرروا قتله عن طريق اسقاط البغل العائد به الى إيران في الوادي. الا ان البارزانى رفض بشكل قاطع، الاعتداء على ضيفه، وان بريماكوف أيده بقوة. ونجا الصحفي الفرنسي من موت محقق على يد ضباط الموساد الذين توقعوا، كما يبدو، ان الصحفي من أصول يهودية ، اكتشف بحكم الجينات الدماء التي تسري في عروقهم! تجدر الاشارة الى ان رولو داعم ومؤيد لحقوق الشعوب العربية و للحق الفلسطيني. وكان مقربا من قادة الحركات الفلسطينية ومن عرفات.تماما مثل علاقات بريماكوف القوية والمتشعبة مع القادة العرب وكبار المسؤولين وزعماء الحركات الثورية. بيد ان بريماكوف، وبعد ان اصبح مديرا لمعهد الاستشراق التابع لاكاديمية العلوم السوفيتيّة، وحصوله على ألقاب علمية رفيعة، وقربه الشديد من القيادة السوفيتيّة، صار متحفظا، لا يصادق الصحفيين، ويحرص على إبعادهم، لمنع التشويش على مهماته السرية. المخضرم ————— لقد تحاشى السياسي المخضرم الذي عمل مع خمسة قادة سوفيت مختلفي النهج، الظهور كثيرا في وسائل الاعلام ،وربما كان ينظر الى الصحفيين من زاوية انهم جزء من أجهزة الاستخبارات. ومصدر أساس لمعلوماتها،بحكم تجربته الشخصية وحرص على الابتعاد عن العدسات مفضلا العمل في الكواليس . يذكر أن بريماكوف، شغل بعد انهيار الاتحاد السوفيتيّ منصب مدير جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية، قبل ان يصبح وزيرا للخارجية ثم رئيسا للوزراء. وعلى مدى الحقب السوفيتيّة، منذ عهد خروتشوف وحتى غورباتشوف، حافظ على موقع الصدارة في مؤسسة الحكم، وأجهزته الحزبية والامنية، ولم يفقد الصدارة أبان حكم يلتسين وبوتين إلى أن توفي صيف العام 2015 عن 86 عاما، وجرت له مراسيم تشييع فخمة، لم تشهدها قاعة الاعمدة، منذ العهد السوفيتيّ. إتفاق آذار ———- وبعد سنوات من التنسيق والاتصالات السرية،مع ملا مصطفى البارزانى،ودعم حركات الكورد المسلحة ضد بغداد، عاد بريماكوف للعب دور الوسيط بين الحكومة العراقية والأكراد ، بعد وصول حزب البعث الى الحكم بإنقلاب عام 1968، وتولى صدام حسين، بصفته نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة ادارة المفاوضات مع الملا، و أسفرت عن توقيع اتفاق الحكم الذاتي العراقي الكوردي في آذار عام 1970. قد منح الاتفاق أكراد العراق حقوقا لم يحصلوا عليها طوال عقود من الاقتتال. وتكرس دور بريماكوف في خارطة المنطقة على أنه وسيط ناجح، وممثل كفء لدولة عظمى، كانت تفرض إرادتها على القطب الأمريكي، وتدير الصراعات في مختلف مناطق العالم وفقا لمصالحها. وإذا كانت القيادة العراقية، اصغت لنصائح ” الأصدقاء السوفيتي” مطلع سبعينات القرن الماضي، لإنهاء القتال مع الأكراد ، و استقبلت بترحاب بريماكوف ، فإنها مطلع التسعينات، لم تكن مستعدة لتقديم تنازلات في ملف الكويت. المهمة المستحيلة ————- لم تحقق مهمة ” مبعوث غورباتشوف” هدف درء الحرب لاخراج القوات العراقية من الكويت . لكن رحلات بريماكوف المكوكية نجحت في اخراج زهاء خمسة الاف مواطن سوفيتي ، كانوا يعملون في العراق، قبل ان يتحولوا الى رهائن مع الوف الغربيين والأمريكان، كما هدد صدام حسين، في محاولة لمنع التحالف الدولي من شن ما سميت حينها “حرب تحرير الكويت” او “حرب الخليج الثانية”. ساهمت العقبات التي وضعها وزير الخارجية إدوارد شيفردنادزه في طريق “مبعوث غورباتشوف”، بإفشال مهمة بريماكوف الذي لم يحظ بالقبول التام هذه المرة في بغداد، خلافا للترحيب بمهمته السابقة وسيطا مع الأكراد. سلام مسافر يتبع … في الصورة مقال “ازفيستيا “ الشاعر مع بريماكوف