إنهاء الاستعمار في فلسطين في قرن ما بعد أمريكا!
توني كارون … ترجمة: غانية ملحيس
لماذا طرد سفير جنوب أفريقيا ؟
ولماذا لا تعود الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية؟
والمخاطر والاحتمالات التي تواجه دول الجنوب العالمي في الأشهر والسنوات المقبلة
لفهم أسلوب ترامب السياسي، من المهم إدراك أنه يرتكز على معايير المصارعة الاحترافية. إنه يتجاوز التحقق من الحقائق أو المنطق، لكن صداه يتردد.
إن الذين يسعون إلى العدالة العالمية وإنهاء الاستعمار لا يختارون الظروف التي يصنعون فيها التاريخ، بل يصنعهم هذا التاريخ.
لذلك، من الأهمية بمكان فهم التحولات التاريخية الأعمق التي تجلّت في اضطرابات النظام السياسي الجديد في الولايات المتحدة،
وكيف أعادت هذه التحولات تعريف العقبات
وشروط الاشتباك، والحدود والفرص الاستراتيجية للتقدم في كل مسارح وأبعاد هذا الصراع.
قد يكون من الصعب رؤية ذلك وسط الدراما اليومية الصاخبة، لكن لحظة ترامب تعكس تحولا تاريخيا دام قرابة عقدين من الزمن، ينفي الافتراضات القديمة، ولكنه يوفر إمكانيات جديدة.
ما يوضحه هذا هو أن الولايات المتحدة الأمريكية كما عرفها العالم على مدى السبعين عاما الماضية لم تعد موجودة. إنها أمريكا مختلفة تماما محليا ودوليا.
لقد هدم الرئيس دونالد ترامب بازدراء المبادئ الأساسية والمعايير والثوابت التي تحكم الهيمنة الأمريكية السارية منذ الحرب الباردة – سواء فيما يتعلق بحلفاء الناتو في أوروبا،
أو في برامج القوة الناعمة الإنسانية للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. ويشعر معظم حلفاء الولايات المتحدة بالحيرة، بعد أن فشلوا في رصد التحولات الجذرية البطيئة التي تُعيد تشكيل الأرض تحت أقدامهم.
إن فهم التحديات والإمكانيات التي تمثلها هذه التحولات أمر بالغ الأهمية، ليس لأسباب علمية، بل من أجل العمل بفعالية.
لطالما كانت الولايات المتحدة محور علاقات القوة التي حددت مسار الصراع على فلسطين، والنضال العالمي الأوسع من أجل العدالة، على مدى السبعين عاما الماضية.
ولذلك، من الأهمية بمكان فهم الاتجاهات طويلة الأمد في علاقة الولايات المتحدة بالعالم، والنظر في عواقبها على السعي لتحقيق الحرية الفلسطينية.
هل تمثل رئاسة دونالد ترامب الثانية انعطافة جذرية، أم نضوجا لعملية أطول؟
إن تغيير الأسلوب لا لبس فيه، كما يوضح ترامب من خلال إذلاله العلني المعتاد لحلفائه ووكلائه القدامى على جميع الجبهات.
وفيما يتعلق بفلسطين، فهو مستعد لقول الجزء المسكوت عنه بصوت عال. متخليا عن الشعارات الفارغة حول “حل الدولتين” لتمجيد تمكين الولايات المتحدة للاحتلال الإسرائيلي المتوسع وجرائم الحرب التي يرتكبها.
لكن ترامب لم يغير جوهر التعامل الأمريكي مع إسرائيل والفلسطينيين.
لقد اعترف ببساطة بما كان ينبغي أن يكون واضحا منذ فترة طويلة: إن تصرفات الولايات المتحدة على مدى العقدين الماضيين توضح أنها تخلت منذ زمن طويل عن هدف إنهاء احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، أو عن أي حل سياسي ذي معنى.
لا توجد ببساطة أي أدلة تدعم توقع أن الولايات المتحدة سوف تتخذ أي إجراء ذي معنى لكبح جماح الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ، والذي مكنته من التوسع النوعي والكمي، ناهيك عن عكس مساره.
لماذا؟
لأن الولايات المتحدة لا تملك أي حافز استراتيجي لإنفاق رأس مالها السياسي (المحلي) على فلسطين.
ردد فريق بايدن، كعادته، مصطلح “حل الدولتين”، جاعلين من الولايات المتحدة مركزا لوجستيا ودرعا عسكريا ودبلوماسيا ووسيلة علاقات عامة للإبادة الجماعية الإسرائيلية. فلماذا يكلف ترامب نفسه عناء الاهتمام بهذه المصطلحات ؟
بتأييده في ولايته الأولى لمطالبة إسرائيل بالقدس ومرتفعات الجولان ومستوطناتها في الضفة الغربية، كان ببساطة ينهي خرافة ما بعد الحرب الباردة القائلة بأن الولايات المتحدة ستتحرك لعكس استحواذ إسرائيل غير القانوني على الأراضي بالقوة.
بالمناسبة، (رفض بايدن التراجع عن تلك الخطوات، بل تبنى الاعتقاد الوهمي بأن تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل سينهي بطريقة ما النضال من أجل التحرير الفلسطيني).
ربما يكون ترامب قد أنهى هذا التظاهر الفارغ، لكن حتى أوباما وبايدن، بأفعالهما، سخرا بهدوء من أصحاب المصلحة الذين ما يزالون متمسكين بتوقعات عفا عليها الزمن، بأن واشنطن ستكبح جماح إسرائيل، في مرحلة ما، وتنتج نتيجة استعمارية جديدة مقبولة.
أكد الانزعاج والتشنج الجسدي الذي بدا على وجه العاهل الأردني الملك عبد الله خلال مؤتمره الصحفي في البيت الأبيض مع ترامب مدى الرعب الذي شعر به الحلفاء الجالسون على قواعد سياسية هشة، مصممة على أساس “صنع في الولايات المتحدة”، وهم يفكرون في نهاية فترة ما بعد الحرب الباردة.
ربما رأت الولايات المتحدة قيمة استراتيجية في أن ينظر إليها على الأقل على أنها تفرض حلا سياسيا على إسرائيل، في حين أن حسن النية الإقليمي تجاه الوجود الأمريكي أضاف، نظريا، طبقة من الحماية لعشرات الآلاف من القوات الأمريكية المنتشرة في جميع أنحاء المنطقة.
لكن أي حافز من هذا القبيل- على الرغم من محدوديته-
تبخر مع الانهيار الكارثي لمشروع “الشرق الأوسط الجديد” في العراق والانسحاب السريع للقوات الأمريكية من المنطقة. لطالما كانت إسرائيل، على مدى ربع القرن الماضي أو أكثر، قضية سياسية محلية أكثر منها شأنا استراتيجيا في واشنطن،
ولم تشهد أي حكومة أمريكية خلال تلك الفترة أي مصلحة وطنية ملحة في تجاوز المقاومة السياسية الداخلية الكبيرة لأي ضغط على إسرائيل.
وبدلا من ذلك، فإن التمكين الحزبي لإسرائيل من الجنون على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية هو ما يمكن أن نتوقعه من واشنطن في المستقبل المنظور.
ترامب هو نموذج ما بعد السلام الأمريكي، مستغلا عداء مئات الملايين من الناخبين من كلا الحزبين لإرسال الشباب الأمريكيين إلى ساحات معارك بعيدة، أملا عبثيا في إعادة تشكيل العالم وفق الشروط الأمريكية.
تمثل إعادة انتخابه هزيمة ساحقة للإمبريالية الليبرالية، سواء من طراز ريغان-بوش-بوش، أو من تجسيدها المزيف في عهد بايدن.
يجدر بنا أن نتذكر أن أوباما قد استخدم نفس النهج المناهض للحرب ليهزم هيلاري كلينتون، حليفة كيسنجر، في سباق الترشيح الديمقراطي عام 2008. ثم تراجع أوباما عن عقيدة الحرب الباردة الاستراتيجية التي استلزمت الحفاظ على الجيش الأمريكي على نطاق يسمح له بخوض حربين في وقت واحد في مسارح عالمية مختلفة.
قلص أوباما الهدف إلى القدرة على خوض حرب ونصف حرب رئيسية، بينما عدل ترامب، في ولايته الأولى، ذلك إلى حرب واحدة فقط.
لذا، فقد كان هذا الاتجاه واضحا منذ فترة.
فيما يتعلق بأوكرانيا، قد يكون أسلوبه وحشيا، لكن ترامب يُعيد النظر في الواقع (الذي تهرب منه بايدن، العالق في أوهام الحرب الباردة) – الأوروبيون ليسوا مستعدين للتضحية دفاعا عن سيادة أوكرانيا، وكذلك الأمريكيون. هذا ما تتطلبه عضوية الناتو، وهذا ما يتطلبه طرد روسيا من جميع الأراضي الأوكرانية. لن يحدث هذا. ترامب ببساطة يعلن ما هو بديهي بشأن شروط انتهاء تلك الحرب.
عندما يحدث ذلك، ستكون أوكرانيا – فوضى اقتصادية خانقة، وربما انتقاما قوميا عنيفا، وربما مصدرا متجددا للاجئين – مشكلة أوروبا، وليست مشكلة أمريكا.
وراء ريسلمانيا( عرض مصارعة احترافية )
ليس من الصعب فهم صدمة ورعب المؤسسة الليبرالية إبان الحرب الباردة من إحراق ترامب غير الرسمي لعقود من قناعاتها. يبدو الأمر كما لو أن دولة الأمن القومي التي شيدت بعد الحرب العالمية الثانية، بكل عملياتها السياسية ومعاييرها الإمبريالية وشعاراتها وأعرافها، قد استوعبت فجأة محاكاة عالمية غريبة، كما لو أن طفلا أمسك بجهاز التحكم عن بعد في التلفزيون وانتقل من سي إن إن إلى عرض ريسلمانيا /مصارعة احترافية/.
إن صعود ترامب من خلال ارتباطه بمصارعة المحترفين أمر جدير بالدراسة بالنظر إلى أسلوبه. فهو يدرك بوضوح أن عدد الأمريكيين الذين يشاهدون برامج منظمة أمريكية للمصارعة المحترفة يفوق عدد مشاهدي سي إن إن في أوقات الذروة بعشرة أضعاف.
الفكرة الأساسية هنا هي أن جمهور مصارعة المحترفين يعلم أنه يتعرض للتنمر، لكنه لا يكترث. مباريات المصارعة لا تخضع لتدقيق الواقع. إنها مجرد أداء مصمم لتضخيم وإشباع خيالات جمهورها الساذج. إن “التدقيق” الانعكاسي للحقائق الذي يرتكبه الإعلام الليبرالي في كلمات ترامب، مثل التوسلات الجادة للحلفاء والحكام الذين صفعهم، يغفل جوهر الموضوع. هذه ليست محادثة جادة. لا يكترث جمهور ترامب المستهدف بأن الكثير مما يقوله غير صحيح، تماما كما لا يكترث جمهور المصارعة المحترفين بأن معظم القتال الذي يشاهدونه في الحلبة هو عرض منفذ بمهارة لا يصاب فيه أحد بأذى خطير.
ولكن بينما كان يركب موجات السخط الشعبي على متن سفينة مبنية على مصطلحات المهرجين في المصارعة الاحترافية، فإن ترامب مشغل جاد للغاية يسعى لإعادة تشكيل القوة الأمريكية.
أفعاله لا تدع مجالا للشك في أن افتراضات حقبة الحرب الباردة وما بعدها لم تعد سارية.
كيف إذن نفهم ديناميكيات اللحظة التاريخية الجديدة التي نعيشها؟
ما هي الإمكانيات والتحديات التي يطرحها ما بعد الحرب الباردة أمام كل من يسعى إلى عالم أفضل – وهو مشروع يتعارض بالضرورة مع أشكال الهيمنة الغربية السائدة؟
النضال من أجل فلسطين في التاريخ العالمي: حقبة الحرب الباردة
تعد المستعمرة الاستيطانية الصهيونية نتاجا لإعادة صياغة النظام الإقليمي العثماني من قِبل الإمبريالية البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى.
وقد عكس اكتمالها كدولة قومية بعد الحرب العالمية الثانية خجل القوى الغربية من فشلها في منع القتل الجماعي ليهود أوروبا، إلى جانب رفضها المستمر، بدافع معاداة السامية، قبول معظم الناجين – وازدرائها الاستعماري.
العنصري للفلسطينيين.
ولعل من المفارقات أن المستعمرة الإستيطانية الصهيونية حققت دولتها القانونية في لحظة تراجع فيها الاستعمار في كل مكان آخر.
لم تستطع القوى الاستعمارية الأوروبية، المنهكة من الحرب، التمسك بممتلكاتها في أفريقيا وآسيا طويلا في مواجهة نضالات التحرير الوطني، مما أدى إلى ظهور عالم ثالث يضم دولا قومية تخلصت من نير الاستعمار (ولكن ليس من إرثه الإفقاري) ساعية إلى العمل باستقلالية عن قوى الحرب الباردة.
كانت موازين القوى المتغيرة ضمن هذا المخطط هي التي شكلت الأمم المتحدة ومؤسساتها متعددة الأطراف، وحولتها جزئيا.
على الرغم من أن الولايات المتحدة ظلت، بلا منازع، أقوى قوة عسكرية واقتصادية، إلا أن قدرتها على نشر تلك القوة كانت محدودة بسبب القدرات العسكرية للكتلة السوفيتية.
وبدأت دول العالم الثالث، المتحدة بروح حركة عدم الانحياز، في الدفع نحو إعادة تنظيم الشؤون العالمية (قبل أن تتعثر في وجه الواقع المرير المتمثل في أن ما أسماه الغاني كوامي نكروما “استقلال العلم” الذي حققته هذه الدول لم يُترجم إلى سيطرة سيادية على اقتصاداتها).
وضعت الحرب الباردة إسرائيل والدول العربية المجاورة لها على رقعة شطرنج اللعبة الإمبريالية الكبرى، حيث تبدلت التحالفات على مر السنين. (لم تصبح إسرائيل الحليف المقرب للولايات المتحدة في المنطقة إلا بعد حرب 1967، وحتى ذلك الحين، احتاجت واشنطن إلى إخراج دول مثل مصر وسوريا والعراق من المعسكر السوفيتي).
لكن الفلسطينيين لم يكونوا جزءا من تلك الرقعة. جسدت اتفاقيات كامب ديفيد للسلام بين إسرائيل ومصر انتصارا للولايات المتحدة في الحرب الباردة – إذ نقلت مصر إلى المعسكر الأمريكي من خلال تنسيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المصرية مقابل السلام بين البلدين، متجاهلة تماما أي تفاعل جاد مع القضية الفلسطينية.
أعاد ظهور كتلة العالم الثالث التوازن إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة: شكل خطاب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في تشرين الثاني /نوفمبر/ 1974 علامة فارقة في مسيرة الاعتراف الفلسطيني.
ومع ذلك، تزامن ظهور المقاومة الوطنية الفلسطينية المستقلة، خارج سيطرة الدول العربية، مع تنامي نفوذ كتلة العالم الثالث، مما ساهم في اصطفاف الفلسطينيين مع نضالات التحرير الوطني في جميع أنحاء العالم. وفتح، على وجه الخصوص، آفاقا للاعتراف الوطني في الأمم المتحدة. (تذكروا، قبل سبعينيات القرن الماضي، لم تسم جميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين الفلسطينيين قط، بل أشارت ،فقط، بشكل مبهم إلى الدول العربية). في تشرين الثاني/نوفمبر/ 1974، اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”، ومنحتها صفة مراقب: كان ذلك انتصارا دبلوماسيا هائلا ودائما، ترجم لاحقا إلى مقعد “دولة فلسطين” الذي ما تزال منظمة التحرير الفلسطينية تشغله. ولوحظ آنذاك أن القرار، الذي اعتمد بشكل شبه كامل على دول العالم الثالث والعالم الثاني، كان مؤشرا على تنامي نفوذ ما نسميه اليوم “الجنوب العالمي” على الساحة الدولية.
بعد نحو عام ، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة الصهيونية “شكلا من أشكال العنصرية” – ولكن إذا كان هذا القرار يعكس توازن أصوات الحرب الباردة في الجمعية (72 مؤيدا، 35 معارضا، و32 ممتنعا عن التصويت)، فإن تصويت عام 1991 على إلغائه عكس اللحظة الجديدة أحادية القطب للهيمنة الأمريكية (111 مؤيدا، 25 معارضا، 30 ممتنعا عن التصويت).
عندما أخطأ صدام حسين في فهم نوايا داعميه الأمريكيين وغزا الكويت، طرد عسكريا على يد تحالف مفوض من الأمم المتحدة ضم تسع دول عربية بالإضافة إلى بنغلاديش وباكستان والفلبين والسنغال.
“نهاية التاريخ”…
أوجدت نهاية الحرب الباردة عام ١٩٩٠ واقعا عالميا جديدا:
فقد أزال انهيار الاتحاد السوفييتي أي تحد من القوى العظمى النظيرة لواشنطن في إعادة تشكيل النظام العالمي، تاركا الولايات المتحدة وبنوكها حرة في استغلال أعباء ديون ما بعد الاستعمار في العالم الثالث لعولمة نظام اقتصادي نيوليبرالي “لا بديل عنه”، كما أعلنت تاتشر.
كما حفز زوال منطق الوكالة الذي سادت الحرب الباردة وصعود نظام دافوس جهودا متضافرة لتهدئة عدد من الصراعات الإقليمية وحركات التمرد طويلة الأمد:
اجتاحت موجة من محاولات التفاوض على حلول سياسية جنوب أفريقيا، وأيرلندا، وتيمور الشرقية، وآتشيه( مقاطعة إندونيسية شبه مستقلة تقع في الطرف الشمالي الغربي لجزيرة سومطرة) وأمريكا الوسطى، والشرق الأوسط.
ثم جاءت قضية فلسطين، التي لم تضمن مكانتها على الأجندة العالمية لما بعد الحرب الباردة بفضل منظمة التحرير الفلسطينية المنفية (التي عزلت بشكل خطير بسبب دعمها لغزو العراق للكويت)، بل بفضل الانتفاضة الشعبية المستمرة في الضفة الغربية وقطاع غزة .
وبغض النظر عن الوضع المتدهور لمنظمة التحرير الفلسطينية في المنفى، فإن المقاومة الشعبية على الأرض جعلت الاحتلال العنصري يبدو غير قابل للاستمرار، وتهديدا محتملا للهيمنة الأمريكية في المنطقة العربية، بل وحتى للأمن الداخلي للدول المتحالفة معها.
محطة أوسلو النهائية
إذا كان النظام الأمريكي لما بعد الحرب الباردة – وخاصة مع تدخل الولايات المتحدة في العراق والكويت – يتطلب حلا سياسيا في فلسطين، فقد كانت أوسلو هي الحل الذي اختارته القيادة الإسرائيلية. تطلب هذا قبولا بتسوية إقليمية، ترسخ كيانا فلسطينيا ضمن منظومة أنظمة المخابرات العربية، على جزء من أراضي عام 1967 التي اندلعت فيها الانتفاضة (وخاصة المدن)، مع ترسيخ مكاسب إسرائيل من النكبة وحتى من حركتها الاستيطانية (غير القانونيّة).
أثبتت منظمة التحرير الفلسطينية أنها شريك نشيط، إذ تخلّت عام 1988 عن هدف عكس مسار النكبة بتحرير فلسطين كاملة، وركزت بدلا من ذلك تحقيق الدولة على حدود العام 1967. أنشأت اتفاقيات أوسلو السلطة الفلسطينية، وهي هيئة إدارية وأمنية مؤقتة من شأنها أن تخفف عن الاحتلال عبء الشرطة وحكم مدن الضفة الغربية وغزة، بينما تفاوضت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق الوضع النهائي الذي كان من المقرر الانتهاء منه بحلول أيار /مايو/ 1999. ولكن إذا بدأت أوسلو بخوف رابين مما قد تطلبه واشنطن من إسرائيل في عهد بوش، فقد تم استبداله في غضون ثلاث سنوات بنتنياهو، الذي كان فهمه أكثر دقة للديناميكيات التي تشكل الدور الأمريكي:
إن عبارة نتنياهو الشهيرة “أمريكا شيء يمكن تحريكه بسهولة” تعكس إدراكا بأن سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل كانت تتشكل من خلال السياسة الداخلية أكثر من الاستراتيجية الكبرى. (وذلك لأن نهاية الحرب الباردة، على الرغم من الخطاب السياسي الذي يزعم العكس، قد ألغت أيضا قيمة إسرائيل المحدودة بالفعل كأصل استراتيجي للولايات المتحدة). وكانت السياسة الداخلية بمثابة أرض برزت فيها قوة الضغط التي تمثلها لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك) والقوة المتنامية للمسيحية الإنجيلية التي احتضنت التطرف الصهيوني مما أعطى إسرائيل ميزة ساحقة.
ليس هدفنا هنا تحليل أسباب فشل أوسلو في تحقيق النتيجة المعلنة. يكفي القول إنه حتى في أفضل سيناريوهات المفاوضات، اعتمدت على الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل لدفعها للامتثال.
لقد أدت صدمة هجمات 11 أيلول /سبتمبر/ عام 2001 والأحداث التي أشعلتها فعليا إلى إنهاء أي انخراط أمريكي يتجاوز الإيماءات الاستعراضية في الملف الفلسطيني – فقد أقر نتنياهو في خطاب ألقاه عام 2008 بمدى فائدة الهجمات في تحويل الرأي السياسي الأمريكي لصالح إسرائيل.
نهاية” نهاية التاريخ”
عززت اللحظة الأمريكية أحادية القطب التي أعقبت الحرب الباردة “عملية سلام” مصممة لاحتواء التطلعات الوطنية الفلسطينية داخل قطعة صغيرة من فلسطين المقسمة، والتي ستغلقها دولة العلم بالنظام الإقليمي للحكام الأمريكيين الاستبداديين. حتى هذا الاحتمال المحدود انتهى إلى حد كبير مع حلول القرن الواحد والعشرين. ما تلا ذلك كان فترة مطولة من مكافحة التمرد الإسرائيلي بدعم أمريكي.
تخبط منظمة التحرير الفلسطينية التعيس في إضفاء الشرعية على دور السلطة الفلسطينية في ترسيخ الاحتلال. وأشكال مختلفة من المقاومة المسلحة والسياسية من قبل حماس والفصائل الأخرى. توازن عنيف، إذا، لم يكن من الممكن القضاء على المقاومة الفلسطينية فيه، بل تم احتواؤها إلى حد كبير.
كانت هزيمة الولايات المتحدة في العراق الرمق الأخير للسلام الأمريكي. كان أوباما صريحا في تقليص الوجود الأمريكي في المنطقة، وتشجيع “إعادة التوازن” التي تشمل اتفاقيات مع إيران، وتشجيع على الاكتفاء الذاتي الأمني الإقليمي في ظل “التوجه الأمريكي نحو آسيا“.
افتتح رئاسته بخطاب ألقاه في القاهرة عام 2009، أعلن فيه بفخر التزام أمريكا بالسعي لتحقيق العدالة للفلسطينيين – لكن لم يكن هناك أي تحرك فعلي وراء هذه العبارات الفارغة (وهي سمة مميزة لرئاسة أوباما)، لأن الولايات المتحدة كانت قد تجاوزت ذلك بحلول تلك المرحلة. لم ير أوباما أي قيمة في استثمار رأس المال السياسي المحلي في تشكيل نتيجة صراع لم تعد الولايات المتحدة تملك أي مصلحة استراتيجية ملحة في حله. كانت القوات الأمريكية تُقلل من وجودها في المنطقة، وتعتمد بشكل أكبر على عمليات القوات الخاصة الصغيرة وضربات الطائرات بدون طيار. وباسم “نقل” التدخل الأمريكي في المنطقة إلى الخارج، تفاوض أوباما على اتفاق نووي مع إيران، وأرسل إلى إسرائيل مساعدات عسكرية أكبر من أي رئيس سابق، متجاهلًا توسيع إسرائيل لمستوطناتها وقصف غزة. كان هدفه هو استقرار الوضع الراهن في المنطقة والحد من خطر تورط الولايات المتحدة في المزيد من التعقيدات.
وكان مفهوم “السلام الأمريكي“، على الصعيد العالمي، يتقلص باستمرار وتراجعت واشنطن فعليا عن دورها في الشرق الأوسط، الذي ادّعت أنه كان قاضيا في التسعينيات. ولم يعد لدى الولايات المتحدة أي حافز استراتيجي للضغط لإنهاء احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.
بعد ثلاثة عقود من أوسلو، ما تزال السلطة الفلسطينية قائمة، تعمل في خدمة الاحتلال الإسرائيلي المتوسع دون أي وهم يذكر بتحقيق شكل من أشكال الدولة. في غياب “الأفق السياسي” الذي شيدت من أجله، لم تستطع السلطة الفلسطينية النجاة من مصير حكومة فيشي فلسطينية، حاكم بالوكالة لقطعة صغيرة من الأرض، حيث يتمثل دورها الأمني في حماية المحتل من مقاومة الشعب الخاضع للاحتلال.
القيادة الفلسطينية التي راهنت بكل قوتها على أمريكا، وعملت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي لقمع المقاومة على أمل واه بأن التعاون مع المحتل سيحقق في النهاية استقلال العلم، وجدت نفسها متروكة لمصيرها، غائبة ومحتقرة بشكل متزايد في نظر شعبها ومهانة بشكل متوافق عليه من قبل الإسرائيليين. وزعيمها محمود عباس تحول إلى نوع من الخائن المُستعبد.
ربما يكون السابع من تشرين الأول/أكتوبر/2023 قد دفن أي أوهام متبقية من إطار أوسلو، لكن ما هو أقل وضوحا هو التحول التاريخي الأعمق:
فقد انتهى عصر الهيمنة الأمريكية أحادية القطب الذي ولّد أوسلو قبل سنوات.
ترامب هو أحد أعراض تراجع الهيمنة الأمريكية، وليس سببه – القدرة على قيادة الآخرين بإقناعهم بأن المصالح الأمريكية هي المصلحة المشتركة – وهو ببساطة يعيد ضبط الشروط التي ستمارس بموجبها القوة القسرية الأمريكية الهائلة. لن يكون هناك عودة إلى الوراء، ليس بسبب تفضيلات ترامب، بل لأنه يعكس تحولا جذريا مستمرا منذ سنوات عديدة.
كان تراجع أوباما الاستراتيجي في الشرق الأوسط بمثابة نذير تفكيك ترامب الأكثر شمولا لدولة الحرب الباردة.
قد نقول إن بايدن قد غفل عن التاريخ، لو لم يكن هذا الوصف يبدو وكأنه مرافعة خاصة لتخفيف وطأة قضية تمكين الإبادة الجماعية التي يجب أن يحاكم عليها في لاهاي. لم يعد الأمريكيون اليوم يتصورون مجتمعهم الوطني حول إجماع الحرب الباردة، أو أي إجماع على الإطلاق. (يجد الجمهوريون المحاربون في الحرب الباردة اليوم موطنهم السياسي الطبيعي في الحزب الآخر، كـ”ديمقراطيي تشيني”).
تفسر عوامل متعددة مؤثرة في الاقتصاد السياسي الأمريكي هذه التحولات، ويجدر بالذكر تفتت المشهد الإعلامي (وهو الشرط الأساسي لتصور الهوية الوطنية): تزامنت بداية الحرب الباردة مع دخول التلفزيون إلى معظم المنازل الأمريكية، مما سمح لثلاث شبكات بسرد إجماع وطني. شهدت التسعينيات النيوليبرالية اختفاء القنوات الثلاث الكبرى أمام وسيلة الترفيه، أي قنوات الكابل الإخبارية، مما أتاح للمشاهدين قدرا من تخصيص عوالمهم المعلوماتية. وفي غضون عقد من الزمان، تلاشى حتى عالم الكابل أمام الانتشار السريع لمنصات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة، مما قضى على أي أمل في الحفاظ على هوية أمريكية مشتركة. لم تعد الانقسامات السياسية في أمريكا تتعلق باختلافات في السياسات، بل تعكس حقائق متخيلة مختلفة.
إن أميركا الليبرالية في زمن الحرب الباردة، التي تتآمر على ترامب لإلقائه أوكرانيا تحت الحافلة، لا تعتبر حتى أميركية بشكل صحيح في نظر عشرات الملايين من الأميركيين الذين هم على استعداد للاعتقاد بأن الطائرات تتحطم بسبب التنوع في ممارسات التوظيف في مراقبة الحركة الجوية.
ببساطة، لا توجد بنية تحتية معلوماتية يُمكن من خلالها إعادة بناء أي نوع من التوافق بين مواطني أمريكا المترامية الأطراف. وفي المستقبل المنظور، ستظل الولايات المتحدة غير مستقرة سياسيا، عاجزة عن ترسيخ نظامها الوطني وتهدئته، ناهيك عن نظام عالمي.
لقد سحب البساط من تحت أقدام اللاعبين الإقليميين والدوليين الذين يسترشد تقاعسهم في مواجهة الإبادة الجماعية، سواء اعترفوا بذلك أم لا، بتوقعات بـ”سلام أمريكي” يكبح جماح إسرائيل في نهاية المطاف. لقد غادر الحكم الملعب منذ سنوات، والإسرائيليون أحرار في إشعال الشرق، حتى مع تزويدهم بالمحرقات اللازمة – مع أنهم وجيرانهم العرب سيضطرون إلى العيش في النيران. ومع ذلك، من الصعب تصور أي منهم يتصرف على نحو يتعارض مع الولايات المتحدة (وهو ما كان محظورا في “حقبة “السلام الأمريكي لكبح جماح إسرائيل.
ماذا نتوقع إذن من قوة عظمى أمريكية ما بعد الهيمنة؟
ان ممارسة الرقابة الامبرياليه هو مهمة حمقاء في نظر ترامب. فالتصرف خارج نطاق القانون الدولي كان منذ فترة طويلة محل إجماع أمريكي بين الحزبين . لكن ترامب يستغني حتى عن أي حاجة للبحث عن الشرعية، ناهيك عن موافقة حتى من حلفاء الولايات المتحدة المقربين.
إن أولويته المعلنة دون خجل هي :-
· إثراء 1٪ من أمريكا (لم يحدد أي فئة سيتم إثراؤها، لكن مقترحات السياسة لا لبس فيها) على حساب الجميع،
· وخفض الإنفاق العام في الداخل والخارج فجأة وبقسوة مروعة
· وفرض تعريفات جمركية تزعزع استقرار شبكات التجارة العالمية التي بنتها الولايات المتحدة على مدى العقود السبعة الماضية.
والهدف : توليد ايرادات قدرها 5 تريليونات دولار يخطط ترامب لمنحها لمليارديرات أمريكا في شكل تخفيضات ضريبية هائلة.
ستفعل الولايات المتحدة الآن كل ما تسمح به قوتها (بدلا من القانون أو الشرعية) لإثراء مليارديراتها، وإجبارهم على الامتثال عندما يكون هذا الإثراء مهددا، على سبيل المثال من خلال الحديث عن إلغاء الدولرة، أو سعيا وراء موارد مرغوبة (قناة بنما أو غرينلاند). لكن أمريكا ما بعد العولمة التي يرأسها ترامب لا تملك أي حافز للسعي وراء نتائج جيوسياسية في بيئات لا تهدد مشروعها التجاري بشكل ملموس. وكما أوضحت ثورته في وجه زيلينسكي، “ليس لديك أية أوراق” فهذه أمريكا ستفرض شروطها على كل من يفتقر إلى القدرة على مقاومة إملاءاتها.
خلال الحرب الباردة، وكذلك في فترة ما بعد الحرب الباردة النيوليبرالية، أعطت الولايات المتحدة الأولوية للهيمنة العالمية – أي القدرة على فرض إرادتها على الدول الأخرى دون استخدام الإكراه أو التهديد به، ولكن من خلال ترسيخ منطق أيديولوجي سليم ينظر فيه إلى مصالح واشنطن على أنها الصالح العام. كانت مستعدة للاستثمار قليلا في بناء النوايا الحسنة، وكسب القلوب والعقول في الجنوب العالمي من خلال تمويل مشاريع تساعد أفقر الفئات وأكثرها ضعفا. لكن ترامب لا يرى أي قيمة في مثل هذا الاستثمار.
وسواء كان ذلك ردا على فشل أمريكا في فرض إرادتها عسكريا على العراق وأفغانستان، أو إخفاقات نظامها الاقتصادي العالمي المالي ، والتعددية القطبية المتنامية التي أوجدتها مراكز القوى الناشئة المستقلة عن السلام الأمريكي بعد الحرب الباردة، فإن تراجع الهيمنة الأمريكية يتسارع ويتضح بشكل متزايد.
إن الازدراء الوحشي للحياة الفلسطينية ، الذي ينعكس في الأسلحة الأمريكية، والإفلات من العقاب المضمون الذي كفله القانون للإبادة الجماعية الإسرائيلية. يتردد صداه في خفض برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي وفرت دعما حيويا لمرضى فيروس نقص المناعة البشرية من الأفارقة. إن النوايا الحسنة التي قد تولّدها هذه البرامج لا تستحق تقليص تخفيضاته الضريبية للمليارديرات.
في تفكير ترامب يجب أن تخشى أمريكا في عهده، لا أن تحب.
سيكون من الحماقة بمكان التصرف على أمل استعادة إجماع أمريكا ما بعد الحرب الباردة بطريقة سحرية – فترامب ليس مجرد كابوس أو حالة شاذة. والإجماع السياسي والاقتصادي الغربي النيوليبرالي (الذي يمثله الديمقراطيون ونظرائهم الوسطيون في أماكن أخرى) يتفكك على نطاق واسع.
لقد أدرك ترامب تراجع الهيمنة الأمريكية و”النظام العالمي الليبرالي” الذي تجسدت من خلاله. وبدلا منه، استبدله بالإكراه الموجه نحو المصلحة الذاتية – فهو لا يأمل في إقناع معظم العالم بأن سيطرة الولايات المتحدة على جرينلاند أو قناة بنما تصب في مصلحتهم – تماما كما لا تستطيع الولايات المتحدة إقناع معظم العالم بأن تمكين إسرائيل من الإبادة الجماعية هو من أجل الصالح العام. لا يهم. فالمسألة تتعلق بالقوة، وليست بالقواعد أو العدالة أو الشرعية.
لقد استخدم منشارا كهربائيا لتدمير المؤسسات الرئيسية لإبراز القوة الإمبريالية الأمريكية – الجيش ونظام الاستخبارات والأمن. من الواضح أن خيارات ترامب لقيادة تلك الوكالات الرئيسية مكلفة بتعطيل استمراريتها وإعادة تشكيلها بما يتناسب مع احتياجاته السياسية الداخلية. ينذر نهجه العام في الحكم بنهب مستمر ومدمر لتلك المؤسسات – مما يضعف تماسكها الداخلي ومعنوياتها، ويضعف عمدا فعاليتها كأدوات للهيمنة العالمية، ويحول تركيزها إلى أهداف قومية ضيقة.
يريد ترامب نشر جيشه على الحدود الجنوبية لأمريكا لصد “غزو” المهاجرين الذي يلوح في الأفق في خيال حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، وليس لدعم الجناح الشرقي لحلف الناتو. كانت الديماغوجية القبيحة الموجهة ضد المهاجرين ورقة رابحة في العام 2024، وقد وعد ترامب بالوفاء بوعوده بترحيل ملايين المهاجرين غير المسجلين. لقد عين بالتأكيد مسؤولين رئيسيين سيواصلون هذه المهمة بحماس أيديولوجي، وهناك دلائل على أن لديه أسبابا أقوى للشعور بثقة أكبر في قدرته على تجاوز القيود المؤسسية – سواء من المحاكم أو السلطة التشريعية أو المؤسسة الأمنية – لتنفيذ وعده.
لقد أحدث ترامب بالفعل اضطرابا هائلا في الحكم المحلي، مسببا دمارا اقتصاديا ستكون له آثار سلبية متزايدة وملموسة على معظم ناخبيه. ومن المحتمل أن تشعل حملاته ضد المهاجرين صدمة اقتصادية واضطرابات سياسية واجتماعية في العديد من البلدات والمدن الأمريكية. وقد أعلن ترامب عن نيته استخدام الجيش أو القوات العسكرية التابعة له (مثل الحرس الوطني) في هذه الحملة. وكما كان متوقعا، فقد أطلق العنان لقيود فاشية متزايدة على الاحتجاج الداعم لفلسطين – وهو ما يعد إضافة قوية لقاعدته السياسية المحلية، التي تضم الكثير من أصحاب الجيوب العميقة المؤيدين لإسرائيل.
في حين قد يكون من المريح أن نتخيل رد فعل عنيف من شأنه أن يعيد النظام القديم في غضون دورتين انتخابيتين، إلا أن هذا يبالغ إلى حد كبير في تقدير القوة الديمقراطية للناخبين الأميركيين. ويفترض أيضا وجود معارضة شعبية ذات مصداقية ــ وهو ما لا وجود له. فقد كان الحزب الديمقراطي يفتقر بشكل أساسي إلى رؤية أو برنامج اجتماعي واقتصادي للبلاد منذ أن وضعه بيل كلينتون في أوكار الراكليت في دافوس في التسعينيات، مما جعله حزب ماكينزي لمستشاري الإدارة.
سيتم التعامل مع العلاقة الأمريكية الصينية من منظور تجاري تنافسي، حيث تتغذى الصين على نصيب أمريكا المتراجع من الصناعة، بدلا من تغيير النظام/الديمقراطي/ الذي يفضله الديمقراطيون. إن حديث ترامب عن “عظمة” أمريكا هو عن أمريكا متحررة من التشابكات والقوانين والقواعد والاتفاقيات الخارجية – وليس وهم “الأمة الأطلسية التي لا غنى عنها” . هل يهتم بمن يحكم تايوان أو كيف تحكم هونغ كونغ؟
الجنوب العالمي في قرن ما بعد أمريكا
إن التخلي عن العديد من انشغالاتها الإمبريالية التقليدية جعل الولايات المتحدة حليفا أكثر صعوبة في التنبؤ بسلوك شركائها الرئيسيين، وركيزة غير مستقرة فجأة للنظام العالمي الذي أقامته في فترة ما بعد الحرب الباردة. قد يوفر هذا فرصة أكبر بكثير مما يبدو واضحا للوهلة الأولى:
إن الإنهاء المفاجئ لمعظم تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية يجبر الحكومات في جميع أنحاء الجنوب العالمي على التعويض، لإعادة النظر في تخصيص مواردهم وكيفية رعاية مواطنيهم. ولإعادة النظر في علاقتهم بأمريكا ومكانتهم في النظام العالمي، مما يُجبرهم على بناء روابط أفقية أكثر عبر الجنوب العالمي، متجاوزين الولايات المتحدة.
قد يسرع ترامب- عن غير قصد- من وتيرة إنهاء الاستعمار.
– وقد تكون إسرائيل، بصفتها تابعة رئيسية له، الخاسر الأكبر.
لا يمكن لإسرائيل أن توجد بدون الولايات المتحدة،
لكن الجنوب العالمي، وحتى أوروبا، مُجبرون على إدراك أن العالم سيضطر إلى رسم مستقبل بدون الولايات المتحدة. من نواح عديدة تقف إسرائيل على الجانب الخطأ من التاريخ.
شهدت فترة ما بعد الحرب الباردة إسناد مصير فلسطين، من قبل النظام الدولي، إلى الولايات المتحدة – التي فشلت في حلّها. تعيد فترة ما بعد الحرب الباردة تحديد مصير فلسطين في تمرد أوسع من أجل نظام عالمي أكثر عدلا. وهذا صراع يكتسب زخما على جبهة متنامية، من فلسطين إلى تغير المناخ، وغيرها. لذا، فبينما لم تعد فلسطين تشكل أهمية لأمريكا ، فإن قدرة امريكا على تحديد الأجندة العالمية تتضاءل باضطراد.
ومن خلال قطع معظم دول الجنوب العالمي عن أنظمة التبعية الراسخة، قد تسهل الولايات المتحدة على بعض هذه الدول اتخاذ مواقف أقوى ضد إسرائيل، التي لم تعد ترهبها تهديد سحب أكبر داعميها لرعايته، لأن هذا لا يشكل نفوذا إذا كان قد فعل ذلك بالفعل.
لنأخذ حالة جنوب إفريقيا كمثال: تعد اتهامات ترامب السخيفة بـ”الإبادة الجماعية البيضاء” مادة دسمة لقاعدته الشعبية. فالجميع يعلم أن سبب رغبة الولايات المتحدة في معاقبة جنوب إفريقيا هو جهودها لمحاسبة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وربما كتحذير من تحدي دول البريكس للهيمنة المالية الأمريكية. ومع ذلك، فإن شكل العقوبة – إنهاء تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، الذي أضر بعلاجات فيروس نقص المناعة البشرية وغيرها من برامج الصحة العامة، ورفض مراجعة اتفاقية التجارة التفضيلية (أغوا) – يندرج ضمن التقشف العام المفروض على جميع المساعدات الخارجية وقيود التجارة التفضيلية. لذا، لا يمكن لقادة جنوب إفريقيا، مهما بلغ قدرهم من التواضع، أن يلغوا هذه الإجراءات. حتى إغلاق قضية محكمة العدل الدولية لن يُعيد تلك الإجراءات. فقد تخلت الولايات المتحدة عن أي حاجة للشرعية، وأولويتها اليوم هي تمويل تخفيضات ضريبية ضخمة لطبقة المليارديرات. إن إعادة سفير جنوب افريقيا إلى الوطن، هو خطوة من منظمة أمريكية لمصارعة المحترفين مصممة لإرضاء القاعدة الشعبية. ما يوضحه هذا هو أن الولايات المتحدة لا تقدم أي سبيل للكرامة أو العقلانية من خلال التواصل الدبلوماسي معها – فدورهم في عرض ريسلمانيا (مصارعة محترفة ) هو دور أشرار كرتونيين يذلون بشكل طقسي من قبل شخصية هولك هوغان (Hulk Hogan)، (مصارع محترف وممثل أمريكي) حتى لو استسلموا.
ربما، بالنظر إلى الإطار الزمني التاريخي الكبير الذي بنينا عليه هذه الحجة، يجدر بنا أن نأخذ في الاعتبار أن تخلي الولايات المتحدة عن يقينيات الحرب الباردة وما بعدها، يعادل أيضا نوعا من إنهاء الاستعمار. لقد هدمت الافتراضات المتعلقة بالعدالة والإنصاف والمساواة في النظام العالمي لما بعد الحرب (مهما بدت فارغة)، ما وضع الولايات المتحدة في علاقة عدائية صريحة مع معظم البشرية.
لطالما كان من الواضح أن حقوق الفلسطينيين يجب أن تحقق رغما عن الولايات المتحدة، وليس بمساعدتها.
والآن، بات جليا أكثر من أي وقت مضى أن الولايات المتحدة قد ضاعفت من نهجها الاستعماري الاستغلالي تجاه بقية العالم. لا أحد في دول الجنوب العالمي، أو حتى بين القوى الغربية، يستطيع إخفاء حقيقة أن الولايات المتحدة لا تنوي تحقيق أي نوع من الاستقرار الدائم في الشرق الأوسط – فتحالف الأنظمة الاستبدادية العربية الهشة مع إسرائيل لن يحقق ذلك، لكن ترامب يظهر في جوهره عدم اكتراث، دون أن يتظاهر بحقيقة أنه يترك لإسرائيل تقرير مصير فلسطين.
هل سيدعم ترامب توسيع إسرائيل للاستيطان في الأراضي المحتلة بشكل غير قانوني؟
على الأرجح، فقد تجاهل بايدن وأوباما الأمر.
هل سيكبح احتمال تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل؟ هل ستمنح إسرائيل السعوديين ما يحتاجونه لإبرام مثل هذه الصفقة؟
الأمر غير واضح، وما هو الحافز الذي يدفع الرياض لمساعدة إسرائيل على الخروج من المأزق الذي حفرته لنفسها في غزة؟
مع ذلك، فإن نهاية المشروع الأمريكي للهيمنة تُتيح فرصة، تحديدا لأنها تنهي الأمل الزائف لواشنطن وشركائها وحكامها في تحقيق أي نوع من الحل السياسي المستدام في فلسطين، ناهيك عن الحرية.
تمر إسرائيل بأزمة عميقة، مما دفع البعض إلى اعتبار المشروع الصهيوني في مراحله الأخيرة.
أوافق على أن المشروع الصهيوني في صورته التي تعود إلى القرن العشرين قد انتهى إلى حد كبير.
لكنه نجح في بناء دولة قومية مسلحة نوويا وخطيرة، ومجتمع وطني دائم يدعمه. لذا، حتى لو تم تهميش النخب اليهودية الأشكنازية “الليبرالية” ذات التوجه الغربي، وسيغادر عدد أكبر منها إلى أوروبا أو الولايات المتحدة في السنوات القادمة مقارنة بالذين سيهاجرون ، فإن الذعر بشأن التدفق الصافي لليهود من وإلى إسرائيل قد يكون إلى حد كبير من بقايا صهيونية القرن العشرين. سيترك المهاجرون وراءهم دولة عدوانية هائجة، ترعاها الولايات المتحدة في ظل حصانة مضمونة وتؤمن إفلاتها من العقاب ويهتدون بشعور بالقدر المحتوم، مع مراعاة ضئيلة للشرعية العالمية (باستثناء راعيها الأمريكي، الذي أظهر انحيازا عميقا وثنائي الحزبية مع المشروع الاستعماري الاستيطاني).
تخيّل جابوتنسكي وهو يتعاطى الكوكايين.
مع ذلك، فإن مخزونه ليس بلا حدود – فتاجره يبدو مضطربا بعض الشيء، ربما منتشيا من مخزونه. حتى على المدى القصير، قد تواجه إسرائيل صعوبة في حشد القوى البشرية اللازمة لمواصلة حروبها المفتوحة التي تخوضها.
على المدى الأبعد، يقترب النظام العالمي الذي دعم إسرائيل من نهايته. إنها لحظة بالغة الخطورة، لكنها واعدة جدا في آن واحد في تقلباتها.
على نطاق أوسع، في جميع أنحاء الجنوب العالمي، تعاني الحكومات الآن من التراجع المفاجئ لآليات الاعتماد على الولايات المتحدة، وتواجه واقعا يجبرها على شق طريقها من خلال بناء علاقات وتحالفات ومسارات جديدة لتلبية احتياجاتها في عالم ما بعد أمريكا، إنها لحظة محفوفة بالمخاطر والاحتمالات.
17/3/2025