هل الخيانة أو التطبيع وجهة نظر؟
الطاهر المعز
نشرت وكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) يوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2017 خبر مُقاضاة المخرج اللبناني “زياد الدويري” الذي اختار الجنسية الفرنسية، ليُعَرِّفَ بنفسه كفرنسي في معظم الأحيان، وسافر إلى فلسطين المحتلة (أراضي الإحتلال الأول 1948) بجوازه الفرنسي. لم تورد وكالة الصحافة الفرنسية هذه “التفاصيل والجُزْئِيّات” في برقيتها، ونقلت عنها الصحف خبر “الإعتقال التّعَسُّفِي” للمخرج المبدع الذي حصل على جائزة في مهرجان البندقية السينمائي، كما ادّعى المخرج (ووكالة الأنباء والصّحف التي نقلت عنها) انه جاء إلى لبنان (مساء الأحد 10/09/2017) لتقديم شريطه “الإهانة” وحضور العرض الأول، وإنه يجهل تمامًا التهم الموجهة له، رغم توقيفه لفترة قصيرة في مطار بيروت واستجواب الشرطة له بشأن سفره إلى فلسطين المحتلة عدة مرات ولقاءاته هناك مع الصهاينة ومشاركة بعضهم في مختلف مراحل إنجاز الشريط، وتصوير جزء من أحداث شريطه في الجزء المحتل سنة 1948 من فلسطين، وتقرر إحالته على المحكمة العسكرية بموجب القانون اللبناني…
هذه ليست الحادثة الأولى، فقد سبق لنفس الشخص السفر إلى فلسطين المحتلة لتصوير أجزاء من شريط “التّفجير” عن كتاب الضابط السابق في المخابرات الجزائرية محمد مولسهول الذي يُوَقِّعُ كتاباته تحت إسم “ياسمينة خضرا”، ويتهمه بعض المثقفين الجزائريين بأنه عميل مزدوج لفرنسا والكيان الصهيوني، إضافة إلى علاقاته التي لا تزال متواصلة مع المخابرات الجزائرية، وسبق للمثقفين والصحافيين اللبنانيين ومناهضي التطبيع القيام بحملة لمنع عرض شريط “التفجير” سنة 2013، وهو شريط تطبيعي شكلاً وموضوعًا وتمويلاً، وطلب منه مثقفون وصحافيون لبنانيون “الإعتذار” لأنه أهان الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني (الذي عانى من العدوان والقصف الصهيوني)، ولكنه أَصَرّ على تكرار التطبيع الثقافي، ما يُبَيِّنُ أن المذكور يرتزق من التّطبيع ويبحث عن الشهرة من خلال الخيانة، ولذلك فإن مطلب الإعتذار خاطئ، لأنه يُبَرِّأُهُ من تعمّد التطبيع بل والإصرار على ذلك، رغم حظْرِ القانون اللبناني زيارة فلسطين المحتلة والإتصال بالمُسْتَعْمرين الصهاينة…
رغم هذه السّوابق، زعم “زياد الدويري” أن اعتقاله كان تعسّفِيًّا وأنه يجهل (بعد استجوابه وبعد خروجه من محلات الشرطة) سبب حجز جوازات سفره (لأنه يمتلك أكثر من واحد) وسبب إحالته على المحكمة، بل واتهم اللبنانيين باللؤْم وبالجحود لأن سيادته جاءهم بجائزة إيطالية عن شريط “الإهانة” ويمثل هذا الشريط إهانة بالفعل من المخرج تجاه الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني، ما يُبَيِّنُ أن منح الجوائز في مثل هذه المهرجانات هو موقف سياسي وعقائدي، وليس بالضرورة مكافأة لإبداع فَنِّي وثقافي، وهو ما حصل مع مُطَبِّعِين عديدين في مجالات الكتابة أو السينما أو الموسيقى، سواء في المهرجانات المختصة أو جائزة “نوبل” وغيرها…
لم تُولَدْ هذه الحادثة من فراغ، بل هي حَلَقَة من سلسلة أحداث تتعلق بالتطبيع الثقافي، كان آخرها دعوة صهاينة ومُطَبِّعين لتسميم العقول في مهرجانات عريقة في تونس ولبنان، وإصْرار ممثلي الأنظمة القائمة على استقدامهم، ليس لقيمة فنية اتسمت بها أعمالهم ولكن لتقديم الولاء للإمبريالية وللصهيونية التي اعتمدتها الإمبريالية وكيلا لها في المنطقة، وسبق أن أَصَرَّ مخرجون سينمائيون عرب، كانوا في عداد التقدميين، على المشاركة في فعاليات ظاهرها ثقافي وباطنها سياسي بل وعقائدي، في تل أبيب (النوري بوزيد ونادية الفاني من تونس) وشارك كتاب “عرب” في فعاليات ثقافية قاطعها مثقفون من البلدان الإمبريالية، وأصروا على ذلك لأنهم اعتقدوا أنها طريقهم الوحيدة إلى الشّهرة، بسبب معرفتهم المسبقة بضحالة إبداعهم الفني والأدبي، وبقيمته الحقيقية التي لن ترقيَ إلى مستوى إبداع عظماء العرب (والعجَم) في مجالات الشعر والنثر والإخراج المسرحي أو السينمائي وغيرها من الفنون…
اعتبر أنو السادات (حاكم أكبر بلد عربي) إن مشكلتنا مع الإحتلال الصهيوني هي مشكلة وهمية ويكفي أن يُكْسَرَ “الحاجز النّفْسِي” لوضْع حدٍّ لأصل المُشكلة، فكان توقيع اتفاقيات “كمب ديفيد” (السادات وبيغن) بإشراف الإمبريالية الأمريكية مُحَفِّزًا لبعض التطبيع “المُحْتَشَم”، ولكن توقيع اتفاقيات أولو بين عرفات (وقيادة منظمة التحرير) والجنرالات المجرمين الصهاينة فتح الباب أمام التطبيع العلني، بل حثّت قيادة منظمة التحرير على التطبيع مع الكيان الصهيوني، فتبادلت الدول العربية البعثات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، تحت إسم مكاتب رعاية المصالح أو مكاتب الإتصالات وغير ذلك من الخِدع اللغوية، بين 1996 و 2002 ولكن العدو الصهيوني يعرف جيدًا ويُعْلِن “إن الصراع وجودي وليس عرضي أو ظرفي أو حُدُودِي”، فضاعف الإنفاق على استيطان الأراضي المُحتلّة سنة 1967 في الضفة الغربية والقدس، وتسارعت عمليات هدم المباني والمساكن وطرد أصحاب البلاد من أراضيهم، بالأخص في القدس والأراضي الخصبة في “غور الأردن”، وغير ذلك من عمليات تكريس الإحتلال التي بدأت مع بدايات الحركة الصهيونية…
هذه صورة أو لمحة موجزة عن ظروف تسارع عمليات التطبيع الثقافي، في ظل هيمنة أكثر الحكومات العربية تَخَلُّفًا على الجامعة العربية، وفي ظل عودة الإحتلال المُباشر للبلدان العربية وتوظيف أموال النفط لاحتلال وتقسيم البلدان العربية، بينما يتوسع نفوذ الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وفي جميع البلدان العربية تقريبًا، ما شَجَّع المُتخاذلين والإنتهازيين على ممارسة التطبيع العلني، لأنهم اعتقدوا كما اعتقد السادات (مُعَلِّمُهم ومُلْهِمُهُمْ) إن 99% من حلول مشاكل هذا العالم بيد أمريكا والصهاينة، ولذلك اعتبروا أنه من المُسْتَحْسن تقديم آيات الولاء لمن يحكم العالم، بدل الإكتفاء بالحكام الصغار لدول العرب، ودخل البعض ميدان التطبيع والخيانة عبر “المجتمع المدني” أو “المنظمات غير الحكومية” الممولة أجنبيا والمُخْتَصّة في كتابة التقارير عن المجتمعات المحلية، ولكن البعض الآخر الذي اكتسب بعض الشهرة دخل ساحة التطبيع من الباب الكبير، ومنهم من ذكرنا (ومن لم نذكر) من الكتاب والمُخْرِجين السينمائيِّين والمُغَنِّين… لذلك كانت خطوات المخرج (الفرنسي أو اللبناني) “زياد الدويري” محسوبة وكان يعرف أنه يحظى بمساندة أحزاب وقادة الطوائف اللبنانية، وهي المساندة التي حُرِم منها المناضل “جورج إبراهيم عبدالله” الذي يقبع في السجون الفرنسية من 34 سنة، وترفض الدولة الفرنسية إطلاق سراحه رغم الحكم القضائي لصالحه، فيما تتخلّى الدولة في لبنان عن الدفاع عن المواطن اللبناني… وشَكَّلَ إخلاء سبيل رمز التطبيع، دون توجيه تهمة له تشجيعًا مباشرا من الدولة (القضاء العسكري) لعمليات التطبيع وانتصارًا لسمير جعجع الذي طَبّع مع العدو وذبح الفلسطينيين واللبنانيين بإشراف صهيوني وانتصارًا ل”بشير جمَيِّل” ولأبيه “بيار” في قبريهما، وسيكون الشريط المُقبل لهذا المخرج عن “الشهيد” بشير جميل، بتمويل مشبوه، إن لم يكن صهيوني، وانتصارًا للكيان الصهيوني، يفوق في قيمته الإنتصارات العسكرية، لأنه انتصار على ذاكرتنا الجمعية وعلى مقاومتنا للعملاء داخل صفوفنا، وزرع للفتنة الداخلية بعد أن كان الصراع، في ظاهره على الأقل، بين “العرب” والصهاينة…
في ظل هذا الوضع أصبح الإعلام الغربي والمَحَلِّي أيضًا يقدّم المًطَبِّعين كأبطال حرية الرّأي والتعبير وكأبطال الدفاع عن “حقوق الإنسان”، ويُكَرِّمُ المُشرفون (المُمَوِّلون) على المهرجانات بعض المُطَبِّعِين ليفرض علينا “احترامهم” بل “تقديرهم وتكريمهم”، أما من يمارس دوره في النقد والمُساءلة فهو مُحَنّط ومُتَحَجِّر ومتخلّف، أي من “أهل الكهف”، وبالتالي فلا داعي لمناقشة أفكاره ومقارعته بالحجة والدليل والمَنْطِق، وفي حال تواصل مثل هذا الوضع، قد نُساق يومًا ما إلى المحكمة بتهمة مقاومة الإستعمار المباشر أو غير المباشر، عسكريا أو ثقافيا أو فكريا، بدعوى الحسد والحقد الشخصي.
إن التطبيع الفكري والثقافي أخطر من التجسس العسكري، لأنه يستهدف العقول والذاكرة الشعبية (الجَمَاعِية)، ويحُثّنا على تَفَهّم المُسْتَعْمِر والتّسامح معه وعدم معاملته كعدو، رغم احتلاله أرضنا وحرماننا من قُوتِنا، وتهجير شعبنا واستيراد أشخاص من مختلف بلدان العالم ليستمتعوا (بالمجان) بأرضنا ومنازلنا التي تشكل لنا وطنًا فيما لا تُمثل لهم غير “مكان” للعيش أفْضَل من المكان الذي جاؤوا منه…
إن ما يُمَيِّزُ المناضلين من أجل حرية الشعوب والمُدافعين عن حقوق الفقراء والكادحين هو قناعاتهم الراسخة وتَطَوُّعُهُم من أجل انتصار قناعاتهم وتحقيق أو إنجاز البديل الثوري أو التقدمي، وهذه ميزة لا يَعْرِفُها الإنتهازيون الذين يرتزقون من قاتِل شعبهم (أي ذويهم) فلا هم حازوا احترام مُشَغِّلِيهم ومُمَوِّلِيهم الذين يعتبرونهم “خوَنة” لشعوبهم، ولا هم حازوا احترام الشعوب التي أنفقت على تربيتهم ورعايتهم وتعليمهم… تبقى مسألة الوقت فنحن (الثوريون) نؤمن أن من لا يرى لحظة الإنتصار بعيْنَيْهِ سَيراها بعيني رفيقه أو أبنائه أو أحفادِه، ومن هذه القناعات البسيطة نستمد قُوَّتَنا وتفاؤُلَنا وقناعتنا بحتمية الإنتصار، إن عملنا بِجِد ولم نتهاون في مكافحة الأعداء، من أجل مجتمع أو عالم أَفْضل…
2017-09-14
عن نشرة كنعان