الرأسمالية والدين .. صراع أم تقاطعات وتحديات ؟!!
بقلم ياسر رافع
إن العلاقة بين الرأسمالية والدين علاقة وثيقة ، تتماهى على طول التاريخ الإنسانى بين الصراع داخل المجتمع ، وبين تقاطعات مصالح بين الأتباع ، وتحديات تجعل إتحادهم وثيقا من أجل خطر داهم يهددهما ، وهو ما أوجد علاقات إجتماعية متغيرة ومتجددة على الدوام ، تبعا لتغير الأزمنه والأنظمه السياسية وتغير المفاهيم الدينية على مر العصور .
لهذا شكلت العلاقة بين الرأسمالية والدين فى الموروث الدينى عاملا مهما فى تشكيل الوعى بالقيم السماوية ، ومدى تقبل المجتمعات لنتاج تلك العلاقة ، إما سلبا أو إيجابا !! كيف ذلك !!
……………………………………………………………………………….
مثلت العلاقة بين الرأسمالية والدين دورا مهما فى مسار الدعوة للأديان السماوية الثلاث ، حتى أنها سلكت فى دورها الأكبر مسارا تصادميا إستدعى تدخلا إلهيا لتحييد الرأسمالية من المشهد فى بعض الأحيان ،
فمنذ أن أرسل سيدنا ” موسى ” إلى فرعون مصر، وطلبه أن يخرج ببنى إسرائيل من مصر إلى أرض الميعاد ، هنا تشكلت حلبة صراع بين الرأسمالية والدين موازية للصراع بين الدين والكفر ، فقد كان ” قارون ” وهو من بنى إسرائيل ولكنه إنحاز إلى جانب فرعون ، ممثلا لسلطة مال عظيمه داعمه للسلطة الدينية والسياسية للفرعون فى مواجهة سيدنا موسي النبى المرسل ، حتى أنه أصبح بماله فتنه كبيرة لأتباع سيدنا موسى من بنى إسرائيل أنفسهم بنص القرأن ، قال تعالى ” فخرج على قومه فى زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم ” ، وقد بلغ من الثراء الفاحش ما جعله يساند فرعون فى طغيانه وجبروته ، وأمام هذا الجبروت الفرعونى المدعوم بسلطة الرأسمالية ، كان التدخل الإلهى حاسما لترجيح كفة الدين ، قال تعالى ” فخسفنا به وبداره الأرض فما كان من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ” .
وكذلك عنما أرسل السيد المسيح إلى اليهود ، سلكت العلاقة بين الرأسمالية والدين بعدا تصادميا حتى أنه عندما دخل الهيكل هو ووالدته وتلاميذه ” وكان فصح اليهود قريبا فصعد يسوع إلى أورشليم ووجد فى الهيكل الذين كانوا يبيعون بقرا وغنما وحماما والصيارف جلوسا ، فصنع سوطا من حبال وطرد الجميع من الهيكل الغنم والبقر وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم ، وقال لباعة الحمام ” إرفعوا هذه من هنها لا تجعلوا بيت أبى تجارة ” . وإستمرت العلاقة فى التدهور وصولا إلى واقعة صلب السيد المسيح .
وعندما أرسل سيدنا ” محمد ” إلى قبيلة قريش ، لم تختلف العلاقة التصادمية بين الرأسمالية والدين عما سبقها كثيرا ، فقد قوبلت دعوة الرسول ( ص) بالرفض فى بدايتها والإستهزاء بها ، حتى تدخل الرأسمال فى مسار الأحداث ، هنا كان الصدام حتميا ، لأن أساس الدعوة قائم على التوحيد والإيمان بإله واحد ، وهو ما يتصادم مع سلطة الرأسمالية التى تتكسب من تعدد الألهه المنصوبة حول الكعبة والقرى المحيطة بها ، والتى تدر مكاسب كبيرة وسطوه عظيمة ، وأن فكرة التوحيد ستقضى على تلك التجارة ، هنا فطنت سلطة الرأسمالية لحيله ، فعرضت علي الرسول (ص) الأموال بل وصولا لعرض تولى الملك عليهم ، ولكن الرسول (ص) رفض العرض متمسكا بدعوته ، فكان الصدام الخشن ومحاولة قتله وهو الأمر الذى عجل بهجرته للمدينه ويترك مكه .
ولكن بعد الدور الصدامى بين المال والدين ، هلى إستمر الصدام إلى النهاية ؟!
…………………………………………………………………………………..
على الرغم من البدايات التصادمية بين الرأسمالية والدين إلا أن هناك تقاطعات مهمه بينهما فعلى الرغم من صدام البدايات إلا أن العلاقة بينهما شكلت مسار الأحداث عبر التاريخ ، فالتعاليم الدينية السماوية أوجدت قواعد ونظم لتنظيم علاقة المال بالناس ، بين غنيهم وفقيرهم ، وكذلك إستخدام الدين لتبرير سلوك رأسمالى سلطوي معين داخل البلدان المختلفه ، وكذلك إستخدام الحركات الدينية المناهضة للحكم للرأسمالية لتمويل أنشطتها .
وأصبحت العلاقة فى وقتنا الحاضر أشبه فى توصيفها ” بمن يروض من ” ، فالرأسمالية تعزز الفوارق الإجتماعية والإقتصادية داخل المجتمعات ، وهو ما يتعارض مع جوهر الدين الذى يدعو إلى العدالة والمساواة ، كما أن القيم الرأسمالية تدعو إلى الفردية والإستهلاك وهو ما يزعزع القيم الروحية والأخلاقية داخل المجتمعات وهذا يتنافى مع قيم الدين ، لهذا أصبحت العلاقة بينهما معقدة تستلزم تأملا عميقا فى كيفية تأثير بعضهما على الأخر وهل يمكن إيجاد صيغة دينية تلجم سطوة الرأسمالية على المجتمعات التى تطبقها .
هل فكرة التعايش بينهما ممكنه ، ولماذا يصر كليهما على الإنتصار ؟!
………………………………………………………………………..
فى كتابه المعنون ” إقتصادنا ” الصادر عام 1961 ، يأخذنا الفيلسوف والسياسى العراقي السيد ” محمد باقر الصدر ” فى مقارنه بين الشيوعية والرأسمالية فى إطار بحث فى الإقتصاد الإسلامى ، وخرج بنتيجة أن النظام الرأسمالى هو الأخطر على الشعوب وليس النظام الإشتراكى ، لأنه ليس له قواعد فكرية ثابته وقائم على حركة السوق وتغيراتها المختلفه .
أى أننا أمأم حالة نظام رأسمالى سائل يتشكل حسب مصالحه ، وأنه قادر على تحويل الناس أو إستخدام معتقداتهم الدينية لتحقيق مآربه ، فإنتصار الدين بقيمة الروحية لا يعنى سيطرة كاملة على الناس ، فحركة المال قادرة على تحويل دفة الدين لصالحها ،
مثلا عندما خرج سيدنا ” موسى ” من مصر وذهب للقاء الله ، قام ” السامرى ” بجمع الذهب من قوم موسى وقام بإذابته وصنع عجل له صوت ليعبده الناس ، وعلى الرغم من وجود نبى مرسل وأيات ومعجزات إلا أن المال كان له كلمه ، وأنصاع لها كثيرا من الناس .
وكذلك عندما تم فتح المسلمون بلاد الشام ، إنحاز الحكام الجدد من نبى أمية إلى إتباع السلوك الرأسمالى ومظاهرة فى الحكم إتباعا لما كان قبلهم من حكام الروم ، وكذلك عندما فتح المسلمون بلاد فارس ، سرعان ما إنضمت طبقة البازار ( التجار ) الكبار من الفرس إلى الدين الجديد آملين فى تحقيق أرباح جديدة وقد كان لهذا السلوك أثرة على الدين الإسلامى فيما بعد .
لقد تلونت وتعايشت الرأسمالية مع الدين عبر التاريخ وأصبحا يشكلان فى عصرنا هذا مرتكزين أساسيين لحياة الناس ، وبات عليهما أن يواجها التحديات المطلوبة منهما من أجل إسعاد الناس وتلبية متطلباتهم الحيايته والدينية . فهل يستطيعان ؟!
……………………………………………………………………….
فى مصرالتى تدين بالأديان السماوية الثلاثة والتى شهدت مراحل الصدام والتقاطعات عبر تاريخها القديم والحديث أصبحت الأن راغبة أو مرغمه على التعايش بين الدين والرأسمالية ، فهل تشهد رأسمالية الدولة تعايشا بينها وبين الدين أم صراع متجدد ؟ أم تقاطعات ستستخدم فيها الرأسمالية كنعصر مرجح لتيار سياسى على آخر ؟ أم نشهد تحالفا يمثل تحديا لحل مشكلات المجتمع والبحث عن فكرة تعايش مستدام وفق رأسمالية إجتماعية تراعب البعد الدينى والإقتصادى للبلاد .
فهل نشهد عصر جديد على أرض مصر لتعايش الرأسمالية والدين ، أم تصبح صخرة عجل السامرى فى أرض سيناء التى سك فيها عجله الذهبى شاهده على مفترق الطرق بين الرأسمالية والدين ؟
إلى قادم الأيام ؟
2024-04-28