جماعة رفحاء: امتيازات غير مستحقة وإرث يثقل كاهل الاقتصاد العراقي!

بقلم: البروفيسور وليد الحيالي
منذ العام 2003، شهد العراق موجةً من التشريعات والقرارات السياسية التي أرادت أن تردّ شيئًا من الجميل لفئاتٍ من الشعب تعرّضت للظلم والقمع في حقبة النظام البعثي، إلا أن هذه السياسات اتخذت طابعًا انتقائيًا وامتداديًا غير متوازن، ومن أبرز مظاهر هذا الانحراف القانوني والأخلاقي ما يُعرف اليوم بـ”امتيازات جماعة رفحاء”، وهم مجموعة من العراقيين لجأوا إلى السعودية بعد انتفاضة 1991 وسكنوا في معسكر رفحاء قرب الحدود العراقية السعودية.
هؤلاء، وبموجب قوانين صدرت لاحقًا، جرى تصنيفهم على أنهم “سجناء سياسيون”، ليحصلوا بذلك على امتيازات مالية وصحية وتعليمية ومعيشية تفوق بكثير ما يحصل عليه السجين السياسي الفعلي الذي قضى سنوات في زنازين النظام أو تعرض للتعذيب أو الإعدام.
أولا: الإطار القانوني والتمييز الفاضح
صنّف قانون مؤسسة السجناء السياسيين الصادر بعد 2003، المعدل في عامي 2006 و2014، جماعة رفحاء ضمن المشمولين بالحقوق والامتيازات الممنوحة للسجناء السياسيين. هذا التصنيف تم بشكل عام دون الأخذ بعين الاعتبار معيار “السجن داخل العراق” أو “الحرمان من الحرية بسبب النشاط المعارض”، بل استُند إلى مجرد “الإقامة في معسكر رفحاء”، التي هي في جوهرها حالة لجوء إنساني مؤقت، لا ترتقي إلى صفة السجن السياسي لا من حيث الماهية ولا من حيث الظروف.
تمت مكافأتهم برواتب تقاعدية كبيرة، ورعاية صحية مجانية داخل العراق وخارجه، ومعونات سكنية وتعليمية، فضلاً عن أولوية التعيين لأبنائهم وحقهم في الجمع بين راتبين. كل هذا، دون أن يكونوا قد قضوا يومًا واحدًا في زنازين النظام أو تعرضوا للمحاكمة أو التعذيب.
ثانيا: الآثار الاقتصادية والمالية
أحدثت امتيازات جماعة رفحاء ضغطًا كبيرًا على خزينة الدولة العراقية. تُقدّر الأعباء السنوية لصرف رواتب وامتيازات هذه الفئة بعشرات الملايين من الدولارات، في وقتٍ يعاني فيه الاقتصاد العراقي من عجز مزمن، واعتماد شبه كلي على واردات النفط، وتضخم القطاع العام، وتراجع الإنفاق على البنية التحتية والخدمات العامة.
من المفارقات العجيبة أن بعض أبناء هؤلاء الأفراد وُلدوا بعد 2003، ورغم ذلك يحصلون على امتيازات بدعوى “أنهم من أبناء السجناء السياسيين”! إن هذه السلسلة من الامتيازات الوراثية تُخالف كل منطق العدالة الانتقالية وتحوّل التعويض من أداة إنصاف إلى ريع دائم يستنزف الدولة.
ثالثا: الغبن والتذمر الاجتماعي
أثارت هذه الامتيازات ردود فعل غاضبة من شرائح واسعة من العراقيين، لا سيما من:
• الفقراء والكادحين الذين لم يحصلوا على أبسط حقوقهم في العمل والسكن والخدمات.
• السجناء السياسيين الحقيقيين الذين ذاقوا مرارات التعذيب ولم يُنصفوا بنفس المستوى.
• الشباب العاطلين عن العمل، الذين يرون أنفسهم محرومين من أي فرصة في ظل هيمنة الامتيازات الوراثية والمحسوبية.
لقد عمّق هذا الخلل من مشاعر الإحباط والتمييز ووسّع الفجوة بين الدولة والمواطن، وأضرّ بثقة الناس في جدوى المشاركة السياسية أو الإصلاح الديمقراطي.
رابعا: الأسباب الكامنة وراء هذا التميز
يمكن تلخيص الأسباب الرئيسة في:
1. النفوذ السياسي والديني: كثير من جماعة رفحاء أو ممثليهم ينتمون إلى تيارات سياسية نافذة في العراق الجديد، خصوصًا من الإسلام السياسي الشيعي، ما منحهم مظلة حماية قوية.
2. الشعور بالاستحقاق المعنوي: لقد تم الترويج لرواية أن كل من لجأ إلى رفحاء كان متمردًا على نظام صدام، وبالتالي فهو مناضل يستحق المكافأة، دون التحقق من فردانية الحالات أو ظروفها.
3. ضعف مؤسسات العدالة الانتقالية: بدلًا من سن تشريعات شاملة قائمة على الإنصاف والمعايير الدولية، تم تفصيل القوانين على مقاسات سياسية آنية.
خامسا: نحو مقاربة عادلة وشاملة
لا يمكن إصلاح العراق دون إعادة النظر الجذرية في مفهوم العدالة الانتقالية ووقف النزيف المالي الناتج عن الامتيازات غير المستحقة. وهنا نوصي بـ:
1. إعادة تقييم ملفات رفحاء فرديًا وليس جماعيًا.
2. إلغاء الامتيازات الوراثية التي تخل بالمساواة.
3. توحيد المعايير بين السجناء السياسيين الفعليين و”لاجئي رفحاء”.
4. تحويل جزء من الأموال المخصصة إلى مشاريع تنموية تخلق فرص عمل وتعزز العدالة الاجتماعية.
خاتمة
لقد آن الأوان لأن يتوقف العبث بمفهوم السجين السياسي، وأن يُعاد الاعتبار لمن ضحوا حقًا، بدلًا من أن يتحول اللجوء المؤقت إلى مصدر دائم للامتيازات. إن استمرار هذا الخلل يشوّه العدالة، ويعوق التنمية، ويعمّق التوتر الاجتماعي. ولأجل عراق عادل وقادر على النهوض، لا بد من إعادة رسم حدود الإنصاف… بلا رياء سياسي، ولا مزايدات.
2025-06-30