عمر أبو ليلى “وحدة كوماندوز فلسطينية”.. القصة كاملة
بقلم بكر السباتين
السماء تفتح حدقة الأفق على المشهد المهيب في قرية سلفيت بنابلس.. الزغاريد تشق عنان السماء احتفاءً بالطيور الخضر إذ ارتقى إلى العلا منفذ عملية سلفيت، ابن التاسعة عشر عاماً، البطل الشهيد عمر أبو ليلى على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، في اشتباك مسلح داخل أحد المنازل في قرية عبوين شمال مدينة رام الله بالضفة الغربية المحتلة، بعد دخول قوات خاصة لمنزل يتحصن به، على خلفية قيامه بتنفيذ عملية نوعية قام بها صباح الأحد الماضي قرب سلفيت قضاء نابلس.. مدينة جبل النار وبركانه الموعود.
من هنا أحذت التداعيات سياقها في العملية البطولية التي شغلت العالم ولم تزل.. فقد آثر عمر الصمت أثناء خروجه الواثق من بيته صباحاً بعد أن قبّل جبين جدته دون أن يودع والدته؛ خشية أن تأخذه العاطفة إلى النكوص، فتهمد ثورته.. وكان قبل أيام من موعد العملية التي استعد لها بكل ثقة، قد اقترب من أمه، فبدا كأنه قادم بطوله الفارع وملامح وجهه البهي من الأساطير الكنعانية.. وعلى غير العادة كما صرحت والدته، كانت تشعر في قرارة نفسها بذلك التغير الذي غشى ابنها وهو يقترب منها كطفل غرير يبحث عن ضالته في صدرها الرؤوم، كأن الربيع غافل اليباب في غير أوانه.. إذْ يورق فمه بابتسامة كنعانية في عبقها يفوح القيصوم والزعتر البري.
يقترب عمر من أمه أكثر وقلبها يهفو إليه. يلقي رأسه على حجرها هامساً بشقاوة ودلال:
“خللي شعري بأناملك يا أماه”
فتستجيب الأم لذلك وهي تسأله بحبور:
” في وجهك ارتياح على غير العادة يا عمر يتبدى لي حتى على ابتسامتك المشرقة”..
كأنها تنبأت بالطيور الخضر التي ستزفه إلى الفردوس بعد ايام.
وها هو عمر يخرج كالمارد من البيت حاملاً سكيناً اختطفها من خزانة المطبخ.. تجول في شوارع القرية قبل أن يغادرها حاملاً في قلبه كل ملامحها.. ثم يطوي ذاكرته مركزاً على شغله الشاغل “فلسطين”.. والتداعيات تمرر شريط وعيه المكتظ بالصور.. تستعرض له في لحظات كيف تغتصب بلاده عنوة في وضح النهار.. وكيف يتاجر بها العربان في مواخير الرياء.. يذكره الشريط بالمجازر التي اقترفها الجيش الإسرائيلي في غزة ومخيم جنين.. يتحاشى لفت انتباه رجال سلطة التنسيق الأمني المدججين بأسلحة العار، أو رجال الشاباك الإسرائيلي الذين يتجولون في الشوارع بأردية عربية ويرتادون المقاهي كأنهم غرباء جاءوا من القرى المجاورة.. ولكنهم مكشوفون حتى لقطط القرية وكلابها الضالة.. وحينما داهمته فكرة صفقة القرن بصقها جانباً وقلبه يهزأ من تفاصيلها وأركانها ورجالها الذين باعوا ضمائرهم للشيطان.. لم يكترث بترامب الذي نقل سفارة بلاده إلى القدس أو برئيس السلطة الذي لو علم بأمره سيأمر باعتقاله وسيقدم الاعتذار لنتنياهو.
كل أولئك لم يحركوا شعرة في رأسه.. تجاهلهم وهو يسير بثبات وهدوء حتى صار بالقرب من مفترق طرق مستوطنة “أرئيل” قرب سلفيت.. اقترب بهدوء من محطة الحافلات حيث كان الجنود في انتظار الحافلاتِ العسكرية.. ها هو يقترب أكثر من أحد الجنود.. يخرج المدية من طيّة معطفه.. يطوق عنقه بقوة: “خذها مني أيها القاتل” كأنه يجأر بصوته في وجه العالم الذي يغض الطرف عن جرائم المحتل الصهيوني.. ثم يستدير كالفهد متأهباً لمطاردة بقية الذئاب المسعورة فيناجزها بالسلاح المغتنم الذي شلحه من الجندي الإسرائيلي، وقبل أن ينسحب يجهز على الجندي الجريح فيرديه قتيلا والذي أخذ يتلوى أمامه جاحظ العينين، ثم يتوجه مسرعاً بذات السلاح الذي طالما استُخْدِم في إبادة الفلسطينيين ليقلب السحر على الساحر ويبدأ باصطياد الذئاب المتربصة بالحلم الفلسطيني.. وتمكن من الاستيلاء على إحدى السيارات ليتوجه بها إلى مكان آخر وأثناء ذلك كان يطلق النيران على بعض الجنود الإسرائيليين، ليجرح أربعة منهم.. وينسحب من مكان العملية بنجاح.. عملية متكاملة الأركان.. كأنها وحدة كوماندوز فلسطينية اجتمعت في مقاتل واحد باعتراف الصهاينة أنفسهم..
وكان من بين القتلى الحاخام العسكري المحرض على قتل الفلسطينيين، “احيعد اتنغر”، المسؤول في المدرسة الدينية العسكرية في مستوطنة عيلي، التي تخرج منها عدد كبير من القيادات العسكرية.. وقيل في مواقع التواصل الاجتماعي الإسرائيلية بأن أحد طلاب الحاخام هو “عوفر فنتور”، قائد لواء جفعاتي أثناء حرب غزة ٢٠١٤ والمسؤول عن مجزرة الجمعة السوداء في رفح والذي تباهى بتدمير المساجد.. فنتور يتقلد حاليا منصب مستشار نتنياهو العسكري.
وقد أثارت هذه العملية البطولية غضب الإسرائيليين وعلى رأسهم المجرم القاتل نتنياهو.. السيارات العسكرية أخذت تمشط المنطقة.. عيون الشاباك ترصد كل شاردة وواردة في المكان… رئيس السلطة الفلسطينية يشجب العملية ويتوعد الشاب الفلسطيني بالاعتقال.. عيون التنسيق الأمني تواصل الليل بالنهار لتحديد المكان الذي لجأ إليه الفدائي المنسحب.. (تصريحات إسرائيلية).
وفي حومة الوغى.. يصب الجيش الإسرائيلي جام غضبه على أي فلسطيني يمر من أمام دورياته.. ففي شمال نابلس حيث التداعيات الارتدادية للعملية، كانت السيارة الحمراء المجهولة قادمة باتجاه الحاجز الأمني الإسرائيلي، وتوقفت بغتة أمامه بحذر.. ربما تساءل الجنود الإسرائيليين بهستيريا: “عمر قادم إليكم” ودون تحقق من ركابها بعد أن تبين أنهما شابان عربيان أعزلان من السلاح، بادر الجنود الرعاديد إلى إطلاق أكثر من مئة رصاصة تجاه السيارة، دون مقاومة تذكر، بعدها اتجهت الجرافة الإسرائيلية وداست عليها بمن فيها عدة مرات، فيما كان الناس يسمعون صراخ الشباب قبل أن يسكت صوتهم تماما: “عمر ليس بينهم! لا بأس.. خذوا هذه الأشياء الممزقة بعيدا!” وبعد ذلك قامت الجرافة بتقليب السيارة عدة مرات، ثم أخرج الجنود الشابين منها وتركوهم على الأرض لأكثر من ساعتين، وأبلغوا مكتب الارتباط الأمني الفلسطيني بأنهم سيسلمون الجثث لهم بعد أن ينصرف المستوطنون من منطقة قبر يوسف، والشهيدان هما رائد هاشم محمد حمدان (21 عاما)، وزيد عماد محمد نوري (20 عاما).
المعركة لم تنته بعد.. فقد تمكن كل من الشاباك الإسرائيلي والمتواطئين من التنسيق الأمني من رسم معالم المواجهة الأخير حيث غوفل البطل عمر أبو ليلى مستحكماً في بيت حجري قديم، وبدأت نداءات وحدة الكوماندوز تطالبه بتسليم نفسه، لكنه أبى فاشتعل الجحيم في لحظات.. واستعرت المواجهة بين الطرفين حتى استشهاد البطل عمر أبو ليلى على يد القتلة المدججين بأسلحة متنوعة.. كأنهم يواجهون جيشاً جراراً..
وأخيراً كما يبدو فإن عمر لم يرتق دون أن يبلغ رسالته إلى نتنياهو وفحواها بأن المقاومة مستمرة حتى تحرير الأرض والإنسان، وأن الرهان على تحرير فلسطين منعقد على الأجيال الفلسطينية المتعاقبة.. هذا البطل الذي ارتقى بالروح المعنوية لدى الشباب بعد أن أثبت بأن المقاتل الفلسطيني يساوي جيشاً بأكمله لو أحسن النية فأوقد بذلك الطاقة الإيجابية لدى الفلسطينيين وأيقظ فيهم الحلم الفلسطيني الجميل بالتحرير.. كانت أمه تحلم بأن يصير عمر طبيباً أو مهندساً كما صرحت، إلا إنه آثر الاستشهاد في سبيل فلسطين التي تخلى عنها الجميع.. لذلك استقبلته شهيداً بالزغاريد ولسان حالها يقول:” أن تعود شهيداً فذلك أفضل عندي”.
إنه الرهان على جيل عمر حتى تحرير فلسطين من المحتل الصهيوني.. وتطهير العقل العربي من الخوف والرياء.. أما الخونة فمهما علا شأنهم فإلى مزبلة التاريخ.. هذه هي الطريق إلى فلسطين التي سيمر عبرها جيل التحرير..
20 مارس 3019