وعد بلفور في القانون الدولي!
بقلم د. أنيس فوزي قاسم
إن ما يسمى بـ”وعد بلفور” لم يصدر من فراغ، بل كانت له أسبابه ومبرراته السياسية، وربما العقائدية والتي كتب عنها بإسهاب وتفصيل وقيل فيها الكثير . وما زالت تحظى هذه الوثيقة باهتمام أكاديمي متواصل وتشغل بال العديد من الأكاديميين الذين يعملون بنشاط في الحفر في الأرشيف البريطاني لاستكناه مغزى هذا “الوعد” وأسبابه . ولا يخفى على الباحثين أن بريطانيا في ذلك العصر كانت الإمبراطورية الاستعمارية الأكبر والأكثر تأثيراً، وتمثل قمة الاستكبار الدولي، وتعبّر عن أعلى وأعتى مراحل العنصرية. إلاّ أنه ليس مبالغة القول إن هذه الوثيقة لم تحظَ بما تستحق من المناقشة والتقييم القانوني اللازم ، لا سيّما وأن هناك مطالبات فلسطينية رسمية طرحت مؤخراً وتنادي بإقامة دعاوى قضائية ضدّ بريطانيا لإصدارها هذا “الوعد”.
ففي القمة العربية المنعقدة في نواكشوط في 25/7/2016، طالب الرئيس محمود عباس في أثناء إلقاء خطابه الأمانةَ العامةَ لجامعة الدول العربية “مساعدتنا لإعداد ملف قانوني لرفع قضية ضدّ الحكومة البريطانية لإصدارها وعد بلفور” ، الذي أدى إلى تشريد الشعب الفلسطيني. وكرر الرئيس عباس مطالبته، وأضاف إليها مطالبة بريطانيا بالاعتذار في مناسبات عديدة . وكرر وزير خارجيته السيد رياض المالكي المطالبة بقوله إنه يجب مجابهة الوقف البريطاني بإجراءات فلسطينية مضادة عن طريق الجانب القانوني برفع دعاوى قضائية ضدّ الحكومة البريطانية سواء في المحاكم البريطانية أو الأوروبية على ما تمّ ارتكابه من جرائم ضدّ الشعب الفلسطيني . وأكّد أن هناك تعليمات صدرت من الرئيس عباس لتحريك دعاوى قانونية في المحاكم البريطانية ضدّ جريمة بلفور . وانضم نبيل شعث إلى الحملة المؤيدة لمقاضاة بريطانيا بسبب هذا التصريح، وذلك أمام المحاكم البريطانية أو الأوروبية أو الدولية وطلب التعويض عن أثاره، وأكد أن لجنة قانونية تدرس “بالتفصيل الإجراءات القانونية الممكن اتباعها لمقاضاة الحكومة البريطانية” .
وبالمقابل، فإن الحكومة البريطانية وعلى لسان رئيسة وزرائها، تيريزا ماي، قالت “إننا نشعر بالفخر من الدور الذي لعبناه في إقامة دولة إسرائيل”، ونشعر كذلك بـ”الفخر” بالذكرى المئوية لصدور “وعد بلفور” . وأقامت احتفالاً مهيباً بهذه المناسبة بحضور رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وقد أصدرت الحكومة البريطانية بياناً ردّت فيه على المطالبين بالاعتذار عن إصدارها ذلك التصريح بقولها: “إن تصريح بلفور هو بيان تاريخي، ولا تعتزم حكومة صاحبة الجلالة الاعتذار عنه، نحن فخورون بدورنا في خلق إسرائيل” . وذكرت الحكومة أن التصريح صدر في الحرب العالمية الأولى، وفي فترة أفول نجم الإمبراطورية العثمانية، “وفي هذا السياق فإن تأسيس وطنٍ قوميٍ للشعب اليهودي في الأرض التي لهم بها علاقة تاريخية ودينية قوية كان عملاً صائباً وأخلاقياً أيضاً” . إلا أن الحكومة لم تشرح لماذا كان صائباً أو أخلاقياً إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بالذات وفي تلك الفترة التاريخية. ولم تتردد الحكومة البريطانية في ردها أن تذكرنا أن تصريح بلفور قد طالب بحماية الجاليات غير اليهودية في فلسطين “ولا سيّما حقهم في تقرير مصيرهم” إلا أنها لم تحلل لنا الأسباب التي فشلت فيها بريطانيا من إنجاز هذه الحماية لا سيّما وهي دولة الانتداب في تلك الفترة.
لا شكّ أن ما نسميه “وعد بلفور” هو إحدى أشدّ الوثائق الاستعمارية فظاظة واستخفافاً بالسكان الأصليين، ذلك أن فلسطين آنذاك لم تكن أرضاً خالية من السكان، ولم تكن مستعمرة بريطانية، وليست أرضاً محتلة من قبل القوات البريطانية، ولم تكن الجهة المخاطبة بتلك الوثيقة محدّدة المعالم ومعرّفة تعريفاً جامعاً مانعاً . وعلى الرغم من الفظاظة الشديدة لهذه الوثيقة إلا أنها ربما كانت الأكثر ذكاءً والأشد دهاءً، لا سيّما وأن الفترة التي استغرقتها صياغة هذه الوثيقة والمسودات التي تمّ تبادلها امتدت نحو ثلاثة أعوام.
ولمناقشة هذه الوثيقة من الناحية القانونية نبدأ أولاً بالتسمية التي نطلقها عليها وهي “وعد بلفور”، وهذه التسمية الدارجة هي ترجمة غير دقيقه لمسمى هذه الوثيقة وهو “The Balfour Declaration”، أي “تصريح بلفور” وهذه ترجمة أكثر دقّة. وربما كان الميثاق الوطني الفلسطيني الوحيد الذي يستخدم هذه الترجمة الدقيقة.
والتصويب بين “وعد” و”تصريح” ليس مجرد تصويب في الترجمة فحسب، بل إنه ينطوي كذلك على مغزى قانوني. فالوعد في القانون ملزم لصاحبه ، وهو تعهّد يفرضه الشخص على نفسه لصالح غيره. وهو عمل مضاف إلى المستقبل. وأفضل مثال للوعد هو حين توجِّه مؤسسة أو شركة للجمهور وعداً بأنها سوف تمنح مبلغاً من المال عن أفضل ابتكار في مجال الطب أو الهندسة أو علم الوراثة، أو عن مؤلف في مجال الفلسفة أو التاريخ. وهذا الوعد ملزم لتلك المؤسسة أو الشركة عند تحقق المطلوب . وإذا تمثلنا هذه العناصر فإن أياً منها لا ينطبق على ما نسميه “وعد بلفور”، ذلك أن كلمة “وعد” لم ترد لا في عنوان الوثيقة ولا في نصّها، وكل ما ورد في مطلع هذه الوثيقة أن حكومة صاحب الجلالة “تنظر بعين العطف…”، وهي جملة لا تنطوي على أي التزام، أو تعهد، أو وعد.
كان حاييم وايزمن هو المفاوض الرئيسي والممثل للحركة الصهيونية مع الحكومة البريطانية. وكان المشروع الأول الذي قدمته الحركة الصهيونية قد صاغه وايزمن، واللورد روتشايلد ونعوم سوكولو، وهم من قادة الحركة الصهيونية البارزين. وقد نصّ على “أن يتم الاعتراف بفلسطين كوطن قومي يهودي، مع حرية هجرة اليهود من جميع الأقطار والذين يتمتعون بحقوق سياسية ومدنية كاملة، وأن يمنح الميثاق لشركة يهودية، ولحكومة محلية مسؤولة عن الجالية اليهودية، وأن يتم الاعتراف باللغة العبرية” . ويبدو من المناقشات التي جرت بين مسؤولي وزارة الخارجية البريطانية والحركة الصهيونية، أن هذا النص كان طويلاً ويتضمن تفصيلات غير مرغوب فيها. وعرضت الحركة الصهيونية مشاريع أخرى على اللورد بلفور، إلا أنه رفضها جميعها. وأخيراً، بعث اللورد روتشايلد النص التالي إلى بلفور:
تقبل حكومة صاحب الجلالة مبدأ أن يتم إعادة تأسيس فلسطين، الوطن القومي اليهودي، للشعب اليهودي.
- وسوف تستخدم حكومة صاحب الجلالة كل مساعيها لضمان إنجاز هذا الهدف، وسوف تبحث في الوسائل والأدوات الضرورية مع المنظمة الصهيونية العالمية .
من مطالعة هذا النص، فإنه ينطوي، أولاً، على “قبول” بريطانيا لمبدأ “الوطن القومي اليهودي”، والقبول يتضمن التزاماً وتعهداً من قبل بريطانيا. ثم جاء النص على “إعادة تأسيس فلسطين”، وهذا ينطوي، ثانياً، على الاعتراف بالأسطورة التي تقول إن هناك علاقة تاريخية بين اليهود وفلسطين، وهي أسطورة دينية لا علاقة لها بالتاريخ. وينطوي، ثالثاً، على أن “كل فلسطين” ستكون هي “الوطن القومي”. ولم يرد أي ذكر أو اعتبار لآثار إقامة ذلك “الوطن القومي” على السكان الأصليين في فلسطين. وينطوي النص، خامساً، على التزام بريطانيا بالعمل لكي يتم الوصول إلى هذا الهدف وتحقيق إنشاء “الوطن القومي”. وأخيراً، فإن البحث والتفصيل في آليات الوصول إلى الهدف يتم بحثها والتنسيق بشأنها مع المنظمة الصهيونية العالمية التي تعني بالضرورة الاعتراف الرسمي البريطاني بها.
قُدّم هذا المشروع لمجلس الوزراء البريطاني في 3/9/1917 للمناقشة. وقد صدف أن غاب بلفور ورئيس الوزراء، لويد جورج، عن ذلك الاجتماع. ولحسن الحظ، أن كان مجلس الوزراء يضم الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة وهو السيد إدوين منتاجيو، والذي كان معروفاً بعدائه للحركة الصهيونية. لقد أعلن اعتراضه في المجلس على إصدار ذلك التصريح، وأفرغ كلمته في مذكرة تمّ توزيعها بعد بضعة أيام حيث شرح وجهة نظره. وكانت آراء مونتاجيو تتلخص في أنه لا يوجد هناك “شعب يهودي”، وأن مثل هذا التصريح إذا صدر فإنه سوف يؤثر على وضعه كيهودي إنجليزي، إذ سوف يقال ماذا يفعل يهودي إنجليزي في الحكومة البريطانية بينما يجب أن يكون مواطناً تركياً (حين كانت فلسطين خلال المفاوضات جزءاً من الدولة العثمانية) . وقد حذّر من أن فلسطين ستكون “جيتو العالم” .
كانت تلك الملاحظات للوزير مونتاجيو ذات تأثير كبير على مجلس الوزراء، مما أدى إلى رفع الجلسة. وما أيدّ موقفه أن الرئيس الأمريكي، ويدرو ويلسون، لم يكن مستعداً لتقديم التزام للمشروع الصهيوني، وإن كان متعاطفاً معه. مع العلم أن الرئيس ويلسون فوّض القاضي اليهودي، لويس براندايس Louis Brandeis، أن يكتب رسالة مفصلة للحكومة البريطانية. وللعلم فإن برانديس كان ذو تأثير كبير على ويلسون في الوقت الذي كان فيه برانديس، واعتباراً من سنة 1916، رئيساً للمنظمة الصهيونية الأمركية ورئيس اللجنة التنفيذية فيها .
وعقد مجلس الوزراء البريطاني اجتماعين بعد ذلك، حيث كان الأول في 4/10/1917، والثاني في آخر ذلك الشهر، حيث تمّ اعتماد النص الذي نعرفه حالياً. وبمقارنة النص الذي قدمته الحركة الصهيونية مع النص الذي نعرفه حالياً، نجد أن الأخير رفض كل الأطروحات الصهيونية، ذلك أن بريطانيا “لم تقبل” بل نظرت “بعين العطف”، وهو تعبير غامض لا ينطوي على التزام أو قبول. وبريطانيا لم تقبل بالعلاقة التاريخية بين اليهود وفلسطين، وذلك على ما شرحه إدوين مونتاجيو، وأيده في ذلك الديبلوماسي البريطاني المشهور اللورد ناتان كيرزون. ورفضت بريطانيا تحويل “كل فلسطين” إلى “وطن قومي يهودي”، بل نظرت بعين العطف على إقامة هذا الوطن “في فلسطين” وليس كل فلسطين. كما رفضت أن تكون العلاقة مع الحركة الصهيونية علاقة تنفيذية، والبحث في سبل تنفيذ ذلك المشروع. بل يجب التذكير بأن النص الأخير تضمن على نحو قاطع وصريح من أن إقامة هذا “الوطن القومي” في فلسطين سوف لن يؤثر على الحقوق المدنية والدينية للجاليات المسلمة والمسيحية في فلسطين، ولا على الأوضاع السياسية لليهود في الأقطار الأخرى. وهذان الشرطان أضيفا إلى النص بإلحاح من المعارضين للتصريح، وذلك صيانة لليهود خارج فلسطين، وحفظاً لغير اليهود في فلسطين. ويلحظ أن هذين الشرطين جاءا بنص صريح وقاطع من “أنه لمن المفهوم بوضوح…” ومقارنة هذا النص بمطلع التصريح “عين العطف” ندرك ضبابية الأولى وصراحة الثانية .
حين خرج سكرتير مجلس الوزراء البريطاني من قاعة الاجتماع حاملاً ورقة يلوح بها للدكتور وايزمن الذي كان ينتظر قرار الحكومة في رواق المجلس، وينادي: “د. وايزمن: إنه ولد،… إنه ولد”. يسجل الدكتور وايزمن في مذكراته ويقول، إنه حين قرأ ذلك التصريح لم يكن هذا الولد الذي كان ينتظره. لقد شعر بالخيبة الشديدة حين قرأ ذلك النص الذي لم يتضمن أياً من العناصر التي أرادها في مشروعه .
وهكذا يمكن القول إن تصريح بلفور، كما صدر في 2/11/1917، لم يحمل أي وزن قانوني، وليس له أي قيمة قانونية، ذلك أنه لم يتضمن أي قبول أو تعهد أو وعد، ولم يكن إلا مجرد تعبير عن تعاطف أو مشاعر عاطفية، ولا يمكن لأي قاض أن يناقش هذا التصريح على أنه ينطوي على التزام قانوني. وهذه النتيجة لا تنفي أو تقلل من قيمته السياسية والدعائية التي أجادت الحركة الصهيونية استغلالها إلى الحد الأقصى.
لقد تمّ إدراج نصّ تصريح بلفور في مقدمة صكّ الانتداب على فلسطين وليس في صلبه، ومن هنا يمكن النظر إليه على أنه أصبح وثيقة دولية معترفاً بها في ظلّ الشرعية الدولية التي صاغتها عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى. والتصريح بهذه الصفة، يجب أن يقرأ مع نصوص صكّ الانتداب على فلسطين، ولا يقرأ على استقلال وقد أصبح جزءاً لا يتجزأ منه. إن فكرة الانتداب، كما صاغها الجنرال الإنجليزي يون سمتس Jan Smuts، وأيده في ذلك الرئيس الأمريكي ويدرو ويلسون ، هي تمكين شعوب المناطق التي تمّ سلخها عن الإمبراطوريات التي هزمت في الحرب الأولى ، ومنها الإمبراطورية العثمانية، من الوصول إلى حكم نفسها بنفسها، أي إنجاز الاستقلال وممارسة حقّ تقرير المصير، وهذا هو ما كانت تعدُّه عصبة الأمم “الوديعة المقدسة في عنق الحضارة”. وقد أيدت هذا التفسير محكمة العدل الدولية في أكثر من قضية، بما في ذلك قضية جدار الفصل العنصري الصادر في سنة 2004 . فالذي وقع تحت الانتداب هو الإقليم الفلسطيني والشعب الفلسطيني، وهو الذي سوف ينتهي به الحال إلى ممارسة حقّ تقرير المصير والاستقلال باعتباره “عهدة مقدسة في عنق الحضارة”. من الثابت كذلك أن صكّ الانتداب هذا والخاص بفلسطين جاء مثقلاً بإقامة “وطن قومي يهودي” فيها، إلا أنه جاء مشروطاً بعدم المسّ بالحقوق المدنية والدينية للفلسطينيين، ومشروطاً كذلك —وكما نصت المادة الخامسة من صكّ الانتداب— بالمحافظة على الوحدة الإقليمية لفلسطين، حيث التزمت سلطة الانتداب بعدم تجزئة أو تأجير أي جزء من الإقليم الواقع تحت الانتداب. أي أن “الوطن القومي اليهودي” يجب أن يقام ضمن الوحدة الإقليمية لفلسطين، ولا يجوز —طبقاً لنص الانتداب— اجتزاء جزء من فلسطين لإقامة هذا الوطن. وهذا يعني أن “الوطن القومي اليهودي” قد يكون قرية، أو مدينة، أو مقاطعه ضمن الإقليم الفلسطيني.
وبغض النظر عن مشروعية شرط إقامة “وطن قومي يهودي” في فلسطين، فإنه بلا شكّ جاء استثناءً لمبدأ “الوديعة المقدسة في عنق الحضارة”، ذلك أن تعريفاً قانونياً محدداً لما يسمى بـ”الوطن القومي اليهودي” لم يرد في أدبيات عصبة الأمم، أو دولة الانتداب، أو الوكالة اليهودية التي أنشئت بموجب صكّ الانتداب . وظلّ الأصل العام في صكّ الانتداب واضحاً ومحدداً، وهو حقّ تقرير المصير، بينما جاء الاستثناء، أي إيجاد “وطن قومي يهودي”، غامضاً غير محدد المعالم. وهذا يعني أن تحقيق “الاستثناء” يجب أن يكون مشروطاً بإنجاز متطلبات “الأصل”.
من اللافت للنظر، أن سلطة الانتداب، وهي الحكومة البريطانية، قامت بالإخلال بكل التزام رئيسي ورد في صكّ الانتداب تجاه الأصل، أي الإقليم الفلسطيني والشعب الفلسطيني، في الوقت الذي قامت برعاية الاستثناء، وهو “الوطن القومي اليهودي”. وهنا تقع المسؤولية القانونية لبريطانيا. أي أن مسؤوليتها القانونية تقوم على الإخلال بالتزام دولي على نحو مقصود ومبرمج وهادف ، وهو أنها قامت بكل ما من شأنه حرمان الشعب الفلسطيني من تطوير مؤسساته، ومصادرة وبناء قدراته الذاتية والانتاجية لكي يكون قادراً على ممارسة حقّ تقرير مصيره ؛ وفي الوقت ذاته، عدّلت قوانين الأراضي لتسهيل انتقال الملكية العقارية إلى المستوطنين الأوروبيين، وشرّعت قوانين للهجرة والجنسية والإقامة لتمكين المستوطنين من اكتساب الجنسية الفلسطينية والإقامة فيها مع حقّ التملك والعمل، وسهّلت لهم تطوير مؤسساتهم العسكرية والاقتصادية والإدارية التي كانت جاهزة للانقضاض على مؤسسات الدولة، حين غادرت سلطة الانتداب الإقليم الفلسطيني. إن تصرفات سلطة الانتداب كان سلوكاً يتناقض مع التزاماتها بالمحافظة على الحقوق المدنية والدينية، والحقوق الأخرى للجاليات غير اليهودية في فلسطين .
إن الدعوة لمقاضاة بريطانيا على أساس إصدار تصريح بلفور، هي دعوة لا تحمل جديّة ولا تدلل على تقدير قانوني سليم، بينما كان تقدير الموقف القانوني على أساس مخالفة بريطانيا لالتزاماتها بموجب صكّ الانتداب أكثر صواباً وجديّة، ذلك أن بريطانيا لم تلتزم بشيء بموجب تصريح بلفور، بينما فرض عليها صكّ الانتداب التزامات قانونيه محددة وصريحة، وأخلّت بها جميعها بقصد وتدبير.
ودون إخلال بما ورد أعلاه، فإن الأمانة تقتضي التساؤل مع الذين يطالبون بريطانيا بالاعتذار عن إصدار تصريح بلفور، بل وتحريك دعاوى قضائية ضدها، من أنه نسي هؤلاء أن الميثاق الوطني الفلسطيني قد أعلن عند صياغته بطلان تصريح بلفور وصكّ الانتداب، ثم عَدَل المجلس الوطني الفلسطيني عن ذلك حين صوّت على تعديل الميثاق في جلسته المنعقدة في غزة في سنة 1996، وشطب تلك المواد التي قالت بالبطلان. أليس في هذا الموقف إقرار من أن ما ورد في الميثاق كان غير صحيح، وأن الفلسطينيين بإلغاء هذه المواد قد صوّبوا الوضع في مؤتمر غزّة؟ هل اعتذر الفلسطينيون الآن عن التصويب ويطالبون بريطانيا بالاعتذار، بل ومقاضاتها؟! ألا ينطوي هذا الموقف على تناقض واضح، بل تهاتر بيّن؟!
ألم يكن أجدى للشعب الفلسطيني، ولا سيّما ذلك الجزء الرازح تحت نير الاحتلال لخمسين عاماً متواصلة، من صرف الجهد والمال في ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام محكمة الجنايات الدولية، بدلاً من نبش قبر بلفور والتسكع أمام محاكم غير محددة المعالم والصلاحية التي سوف تقام الدعاوى بخصوص تصريحه.
إن القهر الذي يعانيه الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال أولى بالاهتمام، ذلك أن المعاناة قائمة يومياً، والمحكمة محددة ومعرّفة ومعروفة العنوان والطريق، والمطلوب قرار سياسي بتحريك هذه الدعاوى دون وجلٍ أو خوف من أن الإدارة الأمريكية سوف تحجب مساعداتها المالية، والتي أصبحت هي أقرب إلى الرشوة منها إلى المعونة .
2024-11-02