مذكرات من تحت الأرض….!
ديفيد ريمينيك – تقديم وترجمة : غانية ملحيس*
تقديم: لفتني الكاتب والأديب الصديق عادل الأسطة صباح اليوم في يوميته رقم 308 للمقتلة والمهلكة وحرب الإبادة المتواصلة للشهر الحادي عشر في قطاع غزة المعنونة “صباح الخير يا غزة . خربشات عادل الأسطة” إلى مقال تحليلي مهم لمحرر النيويوركر ديفيد ريمينيك ، يتناول فيه حياة زعيم حركة حماس في غزة يحيى السنوار، الذي انتخب حديثا رئيسا للمكتب السياسي خلفا للقائد الشهيد إسماعيل هنية بعد أن اغتالته إسرائيل في العاصمة الإيرانية /طهران/ بتاريخ 31/7/2024، وبات يشغل العالم بأسره باعتباره قائد موقعة طوفان الأقصى، والمقاومة الفلسطينية ضد حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المتواصلة للشهر الحادي عشر على التوالي في قطاع غزة.
وكان الصديق عادل الأسطة قد انشغل خلال الأيام القليلة الماضية بمتابعة آراء القراء الفلسطينيين والعرب فيما يكتب حول الموضوع ، محاولا فهم المجتمع الفلسطيني والمزاج الشعبي ومستوى التفكير وطريقة التعبير واللغة والوعي والثقافة. ما تسبب في إحباطه بسبب افتقار معظم الآراء والتعليقات إلى المعرفة الموجبة لإبداء الرأي والتعقيب عليه. قائلا “ إن ذهني – اعتمادا على قراءتي نصوص الأدب الفلسطيني منذ العام 1920 وأسئلة أصحابها والجدل حولها ، واعتمادا أيضا على ما نمر به في فلسطين – يكاد ينفجر “. وأوصاني بترجمة
مقال ديفيد ريمينيك محرر نيويوركر المنشور في 3/7/2024 تحت عنوان “مذكرات من تحت الأرض حياة يحيى السنوار، زعيم حماس في غزة للغة العربية. “علنا نتعلم قليلا من العالم، حيث يقوم الكتاب بتكوين رأيهم حول السنوار بالاعتماد على جهد بحثي معمق حول نشأته وتاريخه وقراءة متفحصة لسيرته ورصد الصور المتعددة من خلال استطلاع آراء زملائه ورفاقه وسجانيه والمحللين والمراقبين الإسرائيليين والفلسطينيين واليهود والمؤرخين بشكل عام. والقراءة المعمقة لروايته المعنونة” الشوك والقرنفل” التي كتبها في السجن عام 2004 ولخطبه ومقابلاته وتعليقاته، لفهم وتعريف القاريء الغربي بما يجري في عقل الرجل، والظروف التي قادت حركة حماس إلى إطلاق طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر/ 2023
ترجمة المقال :
“مذكرات من تحت الأرض
حياة يحيى السنوار، زعيم حماس في غزة“.
توجد وثيقة في أرشيف المحاكم العسكرية الإسرائيلية، مكونة من ست صفحات مكتوبة بخط اليد باللغة العبرية، تسجل استجواب يحيى إبراهيم حسن السنوار، زعيم حركة حماس في قطاع غزة. الوثيقة، المؤرخة في 8 شباط /فبراير/ 1999، تعطيه رقم الهوية 955266978. كان السنوار ،آنذاك، يبلغ من العمر ستة وثلاثين عامًا، وكان محكوما بالسجن لمدة أحد عشر عاما.
وكان قبل سجنه يقود وحدة حماس “ الجهاد والدعوة، أو المجد “- وهي فرقة تنفيذية تعاقب أولئك الذين تعاونوا مع إسرائيل أو ارتكبوا جرائم ضد الأخلاق الإسلامية المحافظة، بما في ذلك المثلية الجنسية، والخيانة الزوجية، وحيازة المواد الإباحية.
كان السنوار يقضي أربع أحكام بالسجن مدى الحياة في منشأة في صحراء النقب لإعدامه فلسطينيين متهمين بالعمل مع العدو. وكما سجل المحقق معه، وهو رقيب يدعى ديفيد كوهين، فقد اعترف أيضا بارتكاب جريمة أخرى: ففي العام السابق، تآمر من داخل السجن للتخطيط لاختطاف جندي إسرائيلي.
وكان شريك السنوار في المؤامرة زميلا له في السجن، وهو القائد الحمساوي محمد الشراتحة.
أصبح الاثنان زملاء في الزنزانة في العام 1997، عندما كان الشراتحة في منتصف حكم طويل. كجزء من قوة أمنية تابعة لحماس تسمى الوحدة 101، شارك في اختطاف وقتل جنديين إسرائيليين. لم يكن نادما بشكل خاص على العملية (قال لاحقا: “لقد فعلت ما فعلته، ولا أشعر بالندم عليه“)، لكنه كان قلقا بشأن شيء ما. كما كتب السنوار في اعتراف مدرج في ملف الاستجواب، “شعرت أنه حزين معظم الوقت“. في النهاية أوضح الشراتحة مصدر يأسه: أخته، في غزة، كانت تسيء إلى الأسرة بإقامة علاقة خارج نطاق الزواج.
هل يمكن أن يساعد السنوار في إيجاد طريقة لمعاقبتها بشكل مناسب؟ وعد السنوار بإبلاغ شقيقه محمد، العضو البارز في الجناح العسكري لحماس في غزة. (كان سجناء حماس يهربون الرسائل بشكل روتيني من خلال الزوار). تشير سجلات الاستجواب إلى أن الفعل تم إنجازه قريبا من قبل أحد أشقاء الشراتحة: تم العثور على أختهم ميتة في القطاع.
منذ البداية، اعتبر السنوار السجن الإسرائيلي “أكاديمية“، ومكانا لتعلم لغة وعلم نفس وتاريخ العدو. ومثل العديد من الفلسطينيين الآخرين الذين تم تصنيفهم على أنهم “سجناء أمنيون“، أصبح السنوار يتقن اللغة العبرية، ويقرأ الصحف ويتابع البث الإذاعي الإسرائيلي، إلى جانب قراءة الكتب عن المنظرين الصهاينة والسياسيين ورؤساء المخابرات.
وعلى الرغم من طول مدة عقوبته، كان يستعد للإفراج عنه واستئناف المقاومة المسلحة.
في الواقع، حتى في السجن واصل معركته.
في العام 1998، اتفق هو والشراتحة على أن هناك أملا ضئيلا في الفوز بالإفراج عن السجناء الفلسطينيين بالوسائل السياسية، لذلك وضعوا خطة: سيدفعون لخاطفين في الخارج للقبض على جندي إسرائيلي. وفي مقابل إطلاق سراح الجندي، سيطالبون بالإفراج عن ما لا يقل عن أربعمائة سجين.
ولكن كما قال السنوار لمحققه، “لقد اختطف جنود وقتلوا من قبل، ولم يحصلوا على أي شيء في المقابل“. وبدلا من ذلك، خططوا لتهريب الجندي عبر الحدود إلى مصر، “حتى لا يتمكن الإسرائيليون من تحريره من خاطفيه”.
ذكر الشراتحة أن أحد إخوته، عبد الكريم، كان مرتبطا بعصابة من اللصوص الذين سرقوا السيارات في إسرائيل وقادوها إلى مصر. ربما يمكنهم إنجاز المهمة.
قام السنوار بتهريب رسالة مكتوبة إلى شخصية مهمة في غزة: مؤسس وزعيم حماس الروحي الشيخ أحمد ياسين. طلب مباركته ومائة وخمسين ألف دولار لتمويل عملية الاختطاف. ووافق ياسين.لكن المؤامرة فشلت عندما ألقت الشرطة الإسرائيلية القبض على شقيق آخر لشراتحة ، وهو عبد العزيز، أثناء محاولته العبور إلى مصر لوضع الأساس لعملية الاختطاف. وفي السنوات التي تلت ذلك، تم نسيان المؤامرة إلى حد كبير.
ومع ذلك، فإن قراءة سجلات الاستجواب تجعل المرء يرتعد خوفا مما كان ينتظره. ويمكننا بسهولة أن ننظر إلى الخطة الفاشلة باعتبارها نذيرا للأحداث التي أدت إلى الحرب الحالية، وهي الفصل الأكثر دموية في تاريخ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. ففي العام 2006، قاد جنود حماس غارة عبر الحدود من خلال نفق من غزة. وفي موقع عسكري إسرائيلي بالقرب من قرية كرم أبو سالم / كيرم شالوم/، قتلوا جنديين واختطفوا ثالثا، وهو عريف يبلغ من العمر تسعة عشر عاما من الجليل يدعى جلعاد شاليط. واحتجزت حماس شاليط أسيرا في غزة عاما بعد عام، وطالبت بمئات السجناء في المقابل. وفي إسرائيل، كانت هناك وقفات احتجاجية بالشموع ومناقشات مريرة حول ما إذا كانت حياة جندي واحد تستحق إطلاق سراح هذا العدد الكبير من السجناء الفلسطينيين. وفي النهاية تم إطلاق سراح شاليط في العام 2011، في مقابل أكثر من ألف سجين فلسطيني ــ بما في ذلك يحيى السنوار ومحمد الشراتحة.
سرعان ما صعد السنوار إلى زعامة حماس في غزة، وفي 7 تشرين الأول/أكتوبر/2023، أطلق مع المسؤول العسكري لحماس، محمد ضيف، طوفان الأقصى على إسرائيل ، وهو الهجوم الأكثر تدميرا في نصف قرن. وتستمر الحرب التي تلت ذلك حتى اليوم ، والتي قتلت أربعين ألف فلسطيني، وأشعل فتيل السياسة في العالم.
يعتقد أن يحيى السنوار يقضي الأيام منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر/ 2023 في شبكة واسعة من الأنفاق التي تمتد عميقا تحت المدن والبلدات ومخيمات اللاجئين في قطاع غزة.
أخبرني مسؤولون أمنيون في إسرائيل والولايات المتحدة، إلى جانب مصادر فلسطينية مستقلة، أنهم واثقون من أن السنوار على قيد الحياة، وما يزال لاعبا حاسما في المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار المحتمل، وإطلاق سراح الرهائن المتبقين.
في البداية، كان يُعتقد أن المقر الرئيسي تحت الأرض للسنوار يقع في مدينة خان يونس الجنوبية، حيث ولد. وبعد ذلك، ومع اقتراب قوات الدفاع الإسرائيلية، فربما فر جنوبا إلى مجمع تحت الأرض في رفح. لم يعد يثق في الاتصالات الإلكترونية، خشية أن يكتشف جيش الدفاع الإسرائيلي مكانه ويقتله. وبدلا من ذلك، يعطي ملاحظات ورسائل شفوية إلى أشخاص موثوق بهم، ينقلونها إلى قادة حماس.
عندما استولى جيش الدفاع الإسرائيلي على مجمع حماس في خان يونس، وزعوا على الفور لقطات من غرفته: حمامات بها دش، وخزانة مكتب مليئة بالدولارات والشيكلات الملفوفة بالسيلوفان. كما أصدروا مقطع فيديو يعتقدون أنه يظهر السنوار وزوجته وأطفالهما وهم يسرعون عبر نفق.
في السابع من تشرين الأول/أكتوبر/2023 ، اختطفت يوشيفيد ليفشيتز، وهي ناشطة سلام تبلغ من العمر 85 عاما من كيبوتس نير عوز. وبعد إطلاق سراحها، أخبرت صحيفة دافار الإسرائيلية أنها ورهائن آخرين واجهوا السنوار في الأنفاق، بعد أيام قليلة من وصولهم. وقالت: “سألته كيف لم يخجل من فعل شيء كهذا لأشخاص دعموا السلام طوال هذه السنوات“. “لم يجبنا. كان صامتا“. وما يزال عوديد ليفشيتز، زوج يوشيفيد البالغ من العمر 84 عاما، في الأسر. ومن غير المعروف ما إذا كان ما يزال على قيد الحياة.
كما تذكرت أدينا موشيه، وهي رهينة أخرى تم إطلاق سراحها، لقاءاتها مع السنوار في الأنفاق. وقالت للقناة 12: “إنه قصير، كما تعلمون، كان جميع حراسه أطول منه. كان من السخف رؤيته على هذا النحو. كان واقفا هناك. ولم يرد عليه أحد عندما قال :”شالوم! كيف حالك؟” “هل كل شيء على ما يرام؟” نظرنا جميعا إلى الأسفل.
لقد جاء مرتين، بفارق ثلاثة أسابيع تقريبا. في كل مرة، كان يقول “شالوم! كيف حالك؟” لا أحد يجيب، ويغادر“.
منذ بداية قصف غزة، أشارت حكومة الحرب الإسرائيلية إلى السنوار وكبار مساعديه باعتبارهم “رجالا موتى يمشون“. قتل العديد من القادة العسكريين والقادة السياسيين لحماس. فالجهد العسكري الإسرائيلي لا هوادة فيه. في 13 تموز /يوليو/، ضربت القوات الجوية مجمعا لحماس في المواصي، غربي خان يونس، حيث حددت المخابرات الإسرائيلية أن محمد الضيف كان يجتمع مع زعيم آخر لحماس. محمد الضيف ، الذي يقال إنه مسؤول عن مئات القتلى الإسرائيليين على مر السنين، أثبت في السابق أنه بعيد المنال لدرجة أن الصحفي أنشيل فيفر أطلق عليه لقب “زهرة الكزبرة القرمزية” لحماس، “بطل شبح للمقاومة“. بعد الضربة، أعلن جيش الدفاع الإسرائيلي أن الضيف قد قتل . لكن حماس لم تؤكد ذلك.
إن ما لا جدال فيه هو أن الهجوم ـ الذي وقع بالقرب من موقع كان يعيش فيه آلاف النازحين الفلسطينيين في خيام ـ أسفر عن مقتل تسعين شخصا آخرين، نصفهم من النساء والأطفال، وفقا لوزارة الصحة في غزة.
وفي الحادي والثلاثين من تموز /يوليو/، أعلنت السلطات الإيرانية أن إسرائيل اغتالت إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. وذكرت صحيفة التايمز أن قنبلة تم تهريبها إلى دار الضيافة في طهران حيث كان هنية يقيم ـ وهو العمل الذي يهدد باندلاع حرب أوسع نطاقا في الشرق الأوسط.
إن صورة السنوار ــ الشعر الرمادي القصير واللحية، والأذنان البارزتان، والنظرة الثاقبة ــ معروفة لدى كل إسرائيلي وفلسطيني تقريبا. وهناك صورة واحدة على وجه الخصوص: في العام 2021، بعد أحد عشر يوما من القتال ضد الإسرائيليين، التقطت صورة للسنوار وهو جالس على كرسي بذراعين، وساقاه متقاطعتان، وهو يبتسم ابتسامة نادرة متحدية. وهو محاط بالأنقاض التي كانت ذات يوم منزله. وسرعان ما ظهر على وسائل التواصل الاجتماعي العديد من سكان غزة وهم يجلسون على الكراسي خارج منازلهم المدمرة.
حتى العام 1948، عاش والدا السنوار وأجداده في المجدل، وهي بلدة تقع شمال غزة والمعروفة الآن بعسقلان. وخلال الحرب ضد دولة إسرائيل الوليدة ــ وهي فترة من المعاناة والنزوح تُعرف باللغة العربية باسم النكبة ــ فرت الأسرة جنوبا إلى قطاع غزة. وُلد السنوار عام 1962، ونشأ في عائلة كبيرة في مخيم خان يونس للاجئين. ويمكن العثور على تصور للمشهد السياسي والعاطفي لشباب السنوار في رواية سيرة ذاتية كتبها في العام 2004، بينما كان ما يزال في السجن، بعنوان “الشوك والقرنفل“. ووفقا للمقدمة، عمل زملاء السجن “مثل النمل” لتهريب مخطوطته و“إخراجها إلى النور“. في كانون الأول / ديسمبر/ الماضي، بدأت أمازون في تقديم ترجمة إنجليزية. ووعدت النسخة الترويجية بأن الرواية ستوفر للقراء فرصة نادرة “لاجتياز ممرات عقل السنوار ، ربما حيث تم زرع بذور عملية” طوفان الأقصى “.
أزالت أمازون الكتاب بعد أن استاءت عدة مجموعات مؤيدة لإسرائيل وحذرت الناشر جيف بيزوس من أن بيعه قد يكون انتهاكا لقوانين مكافحة الإرهاب البريطانية والأمريكية، ولكن ما يزال من الممكن العثور على نسخة رقمية عبر الإنترنت.
إن تصوير السنوار الخيالي لحياته في غزة يجعل روايات الواقعية الاشتراكية السوفييتية تبدو سائلة وخيالية مثل “دون كيشوت“. الكتاب عبارة عن رواية تعليمية جامدة ومخططة، لكنها تكشف عن الطريقة التي يفكر بها السنوار : كصورة للحياة الفلسطينية والمقاومة المسلحة.
تبدأ القصة في حزيران/يونيو/ 1967، خلال ما أصبح يعرف بحرب الأيام الستة. أحمد، الراوي الشاب والأنا البديلة للسنوار، لجأ مع عائلته من القتال بين مصر وإسرائيل، والذي كانوا يعتقدون أنه سينتهي بتحرير فلسطين. لكن سرعان ما اتضح لأحمد أن الإسرائيليين سوف يسودون. كان المعلقون على محطة إذاعة صوت العرب يصدرون بفرح تصريحات حول “إلقاء اليهود في البحر“؛ الآن نبرتهم حزينة. استولى الإسرائيليون على غزة وسيناء من مصر . ومرتفعات الجولان من سوريا. والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، من الأردن.
في إسرائيل، هناك نشوة. وفي عالم أحمد، هناك حزن، وعار، وإذلال:
“بدأت أحلامنا بالعودة إلى أوطاننا التي نفينا منها تنهار مثل قلاع الرمل التي اعتدنا أن نبنيها عندما كنا أطفالا“. ويعتقد أن والد أحمد قد مات في القتال. وتركت والدته، وهي شخصية صارمة من المتدينين، لتجميع الأسرة معا. وعلى خلفية من القمع المتزايد، يلعب أحمد وأصدقاؤه في المدرسة دور العرب واليهود، بدلا من رعاة البقر والهنود. ويهيمن الجيش الإسرائيلي على القطاع. وهناك حظر تجول واستجوابات واعتقالات وجنود يقتحمون المنازل ويضايقون الناس كما يحلو لهم. وردا على ذلك، يرمي الفلسطينيون الحجارة وقنابل المولوتوف.
وكما من الواضح أن أحمد من المفترض أن يمثل المؤلف، فإن أفراد عائلته هم نماذج لفصائل المقاومة المختلفة: أحدهم ماركسي، وآخر قومي، وآخر إسلامي متحمس. ويزعم شقيقه القومي أن التسوية مع الإسرائيليين ممكنة: دولتان لشعبين. لا يستطيع ابن العم الإسلامي أن يتقبل وجودا يهوديا في أراضي الوقف، وهي الأراضي الإسلامية التي وهبها الله للمسلمين والتي تمتد من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. وفي نهاية المطاف، سوف يصبح أحمد أيضا إسلاميا .
في السادس من تشرين الأول /أكتوبر/ 1973، تذيع إحدى محطات الراديو نبأ اندلاع حرب أخرى. فقد فاجأ المصريون والسوريون، العازمين على الانتقام للخسارة المهينة التي لحقت بهم في العام 1967، الإسرائيليين في يوم الغفران المقدس عند اليهود، الأمر الذي أدى إلى تأجيج المزيد من “أحلام النصر والعودة“. ولكن بعد عدة أيام تبددت هذه الآمال. وبعد أربع سنوات، عندما قام الزعيم المصري أنور السادات بزيارته التاريخية إلى القدس وأعلن لأعضاء الكنيست، البرلمان الإسرائيلي، أنه مستعد للسلام، وصف أحمد تلك اللحظة بأنها “كارثة“، وخيانة للقضية الفلسطينية.
ويخلص أحمد إلى أن كل تفاعل مع الإسرائيليين إما أن يكون عنيفا أو مستهجنا أخلاقيا. فالرجال الغزيون الذين يجدون عملا داخل الخط الأخضر، في المدن الإسرائيلية، ينغمسون دائما في الملذات الخليعة في تل أبيب. وبعضهم يواعد نساء يهوديات. ولكن عندما تنتهي هذه العلاقات ويعود الرجال إلى حياتهم القديمة في غزة، فإنهم يصبحون أرواحا ساقطة. ويعود أحد أبناء عم أحمد، حسن، إلى البيت بعد هذه المغامرة السيئة، فيرى أحمد أنه “أصبح أقرب إلى اليهود منه إلى شعبه“. ويصر ابن عم أحمد المتدين إبراهيم على ضرورة قتل حسن. ويقترح أحمد بدلا من ذلك “أن ننصب له كمينا ونكسر ساقيه حتى يظل طريح الفراش في ذلك المنزل ويتوقف عن إيذاء الآخرين“.
ويشعر أحمد بارتباط متزايد بالجماعات الشبابية الإسلامية المزدهرة في غزة. وفي أحد الأيام، يذهب هو وبعض زملائه الطلاب في رحلة ميدانية إلى إسرائيل. ويمرون بأنقاض المساجد والقرى التي كانت ذات يوم فلسطينية ، ويصلون أخيرا إلى المسجد الأقصى في القدس، أحد أقدس الأماكن في الإسلام. يروي أحمد ” سرت قشعريرة في جسدي“. وفي طريق العودة إلى المنزل، يفكر في موقع آخر، منبر صلاح الدين ــ البطل المسلم في القرن الثاني عشر الذي هزم الصليبيين ــ الذي دمره متطرف مسيحاني في العام 1969. يفكر أحمد في “الأيدي اليهودية الخاطئة” التي تحكم القدس ويتساءل، “هل هناك صلاح الدين في هذا العصر؟“.
في الرواية، يتحول أحمد بعد لقاء مع شيخ يصفه بأنه مرشد روحي وسياسي.
عندما كان السنوار شابا، التقى بالشيخ أحمد ياسين، الذي كان في ذلك الوقت أحد أكثر القادة الإسلاميين نفوذا في غزة. كان ياسين، عضو جماعة الإخوان المسلمين، شخصية كاريزمية غير متوقعة. كان محصورا على كرسي متحرك، نتيجة لإصابة في العمود الفقري تعرض لها في حادث رياضي عندما كان صبيا، وكان يتحدث بصوت مرتفع. ومع ذلك فقد بنى أتباعا متحمسين. في السبعينيات والثمانينيات، وباعتباره مؤسس المجمع الإسلامي، أنشأ المساجد والمجموعات الشبابية والمدارس والعيادات. وفي العام 1984، ألقي القبض عليه بتهمة تجميع الأسلحة.
قال لي ديفيد هاشام، العقيد المتقاعد في جيش الدفاع الإسرائيلي الذي أمضى ثماني سنوات في غزة، ونصح سبعة وزراء دفاع إسرائيليين في الشؤون العربية: “كان الشيخ ياسين عبقريا. التقيت به عشرات المرات. عندما تراه، ترى رجلا ضئيلا مشلولا. بالكاد يتحرك، لكن عقله كان يعمل دائما“.
في الثمانينيات، بينما كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تعمل من تونس، كان ياسين قادرا على تعبئة الناس بشكل مباشر، وخاصة الشباب في غزة المحبطين من مصيرهم والمتعطشين للتوجيه. أصبح السنوار، الذي درس اللغة العربية في الجامعة الإسلامية في غزة، قريبا بشكل متزايد من الشيخ أحمد ياسين، حتى بات مساعدا له في نهاية المطاف.
في كانون الأول/ديسمبر/ 1987، اندلعت انتفاضة عفوية في غزة ــ ثم في مختلف أنحاء الضفة الغربية ــ عرفت بالانتفاضة الأولى. وقد اندلعت شرارتها بعد أن صدمت سيارة إسرائيلية أربعة رجال من غزة وقتلتهم أثناء عودتهم إلى ديارهم من عملهم اليومي في إسرائيل. وكان العديد من الشباب الفلسطينيين مقتنعين بأن الحادث كان عملا متعمدا من أعمال العدوان، فخرجوا إلى الشوارع، وألقوا الحجارة وأشعلوا النار في الإطارات. وفي اليوم التالي للحادث، جمع الشيخ احمد ياسين مجموعة من زملائه في منزل متواضع في مخيم الشاطئ للاجئين في مدينة غزة، وبعد مناقشات طويلة محمومة، أسسوا حركة حماس كبديل إسلامي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وبحلول ذلك الصيف، أصدرت حماس ميثاقا مكتملا بعزم معلن على القضاء على إسرائيل و“نازية اليهود“. كان وصف الميثاق للتاريخ اليهودي مليئا بنظريات المؤامرة المعادية للسامية المألوفة حول مؤامرة للهيمنة العالمية مأخوذة من نص من عصر القيصرية “بروتوكولات حكماء صهيون“. كانت حماس، منذ البداية، مكرسة للجهاد – وهو صراع كان عقائديا وعسكريا. وفقا لطارق باقوني، مؤلف كتاب “حماس محاصرة“، “كان يفهم شن الجهاد على أنه طريقة للوجود، كوجود في حالة حرب أو تبني علاقة عدائية مع العدو“.
لترسيخ الانضباط الداخلي والاستقامة الأخلاقية، أنشأ ياسين فرقة “المجد” واختار يحيى السنوار للمساعدة في قيادتها . يُقال إن السنوار، الذي تولى مسؤولية جنوب غزة لصالح المجد، قام بواجباته بكفاءة جليدية ودون أثر للندم. قال محقق الشاباك الذي استجوب السنوار لصحيفة هآرتس: “لقد رأى ضحايا القتل كأشخاص يحتاجون إلى الموت“. “لقد قتل حلاقا بوحشية. لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟” لأن هناك شائعة مفادها أن الرجل لديه مواد فاحشة في صالون الحلاقة وكان أحيانا يظهرها من خلف الستار لعملائه بهدوء .
ولكن المسؤولية الرئيسية التي كان يتحملها السنوار كانت فرض الولاء ومعاقبة الخيانة. ويكتب زكي شهاب، وهو صحافي نشأ في مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، في كتابه “داخل حماس“، أن تعليمات ياسين كانت محددة: “أي مخبر فلسطيني يعترف بالتعاون مع السلطات الإسرائيلية ــ اقتلوه على الفور“. وأخبرني حاخام أن مهمة السنوار كانت تعذيب المتعاونين وترهيب أي شخص في المجتمع يفكر في العمل مع الإسرائيليين. وقال: “كان يفعل ذلك بأقسى الطرق. كان يقطر الزيت المغلي على رؤوس الناس ليجعلهم يعترفون بالتعاون. وكان الناس يخافونه“. وقال لي مايكل كوبي، الضابط السابق في أجهزة الأمن الإسرائيلية الذي استجوب السنوار في السجن، إنه كان أبرد رجل قابله على الإطلاق. وقال كوبي: “لقد وصف لي بدقة شديدة كيف قتل الناس. أخرج ساطورا وقطع رؤوسهم. “وضع أحد المشتبه بهم في التعاون في قبر ودفنه حيا.”
إن من الصعب تأكيد مثل هذه القصص المروعة عن السنوار– قطع الرؤوس والزيت المغلي ــ ومن المؤكد أن حماس ترفض تصديقها. ولكن كما أشار تقرير لمنظمة العفو الدولية صدر العام 2009 بعد إحدى عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة، فإن الرجال والنساء المشتبه في عملهم كمخبرين للإسرائيليين كانوا يتعرضون بشكل روتيني للاختطاف والتعذيب والإعدام و“التخلص منهم في مناطق معزولة، أو العثور عليهم في مشرحة أحد مستشفيات غزة“. والواقع أن إسرائيل جندت الآلاف من المتعاونين الفلسطينيين لتقديم معلومات استخباراتية، بما في ذلك أماكن تواجد قادة حماس. فقد قتل الشيخ أحمد ياسين في غارة جوية إسرائيلية في آذار/مارس/ 2004. وبعد شهر واحد فقط، لقي خليفته عبد العزيز الرنتيسي نفس المصير. وبعد اعتقال السنوار وإرساله إلى السجن في العام 1988، لم يبد أي خوف من سجانيه. “يتذكر محقق الشاباك أن السنوار قال له: “أنت تعلم أنه في يوم من الأيام ستكون أنت الشخص الذي يخضع للاستجواب، وسأقف هنا بصفتي الحكومة والمحقق“. بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر/، قال المسؤول: “لو كنت أعيش في مجتمع بالقرب من قطاع غزة، لربما وجدت نفسي مقابل ذلك الرجل في نفق . أتذكر تماما كيف قال لي ذلك، وعيناه حمراوين، كوعد. كيف قال ذلك؟ “ستنعكس أدوارنا. سينقلب العالم رأسا على عقب من أجلك“.
يصر قادة حماس وأنصارها على أن الإسرائيليين يحتاجون إلى شرير ضخم، ولذلك صنعوا واحدا من السنوار. يزعمون أن جماعات المقاومة، مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي، كانت تعاقب المتعاونين دائما كضرورة للحرب. عندما سألت باسم نعيم، أحد أعضاء قيادة حماس، عن لقب السنوار بين السلطات الإسرائيلية – جزار خان يونس – قال لي: “أعتقد أن هذا هراء. هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذا على الإطلاق“.
لقد أخبرني خالد الحروب، وهو فلسطيني كتب كتابين عن حماس، أنه على الرغم من أن السنوار يحظى بالاحترام على نطاق واسع باعتباره “منظما عظيما“، فإن الحديث عن قسوته لم يثبت . “قبل السابع من أكتوبر، لم أسمع كل هذه القصص الرهيبة. لقد سمعت بعضها. أعتقد أن بعض هذه القصص جاءت لإكمال صورة السنوار الشرير. إنه حاسم، هذا صحيح، وربما بدأ الناس في الاستدلال من ذلك وإضفاء بعض التوابل عليها“.
لقد حذرني جيرشون باسكين، كاتب عمود وناشط سلام عمل أحيانا كحلقة وصل مدنية مع قادة حماس، وخاصة في مفاوضات تبادل الأسرى، “سيخبرك كل هؤلاء الخبراء الإسرائيليين وأفراد الشين بيت والمحققين أنهم يعرفون بالضبط ما يعرفه السنوار ويعتقده. لكنهم لا يستطيعون أن يعرفوا. من الواضح أن ديناميكية الاجتماع مع شخص هو سجينك محفوفة بالمخاطر“. ومع ذلك، فقد اعترف بأننا نعرف قدرا لا بأس به عن السنوار: “خلال فترة كوفيد، تحدث عن كيف سيكون أمرا فظيعا إذا مات بسبب كوفيد، ولم تسنح له الفرصة ليكون شهيدا ويقتل الكثير من الأعداء في نفس الوقت“.
يوفال بيتون، طبيب أسنان متقاعد في أواخر الخمسينيات من عمره، رجل طويل القامة ومتثاقل وله مظهر حزين. لغته الإنجليزية جيدة، لكنها ليست بطلاقة مثل لغته العربية (والديه مهاجران من المغرب) أو لغته الرومانية (درس في بوخارست). يعيش في منزل صغير في كيبوتس شوفال، على بعد مسافة قصيرة بالسيارة من غزة. ثلاجته ورفوفه مغطاة بصور لأطفاله الثلاثة.
في صباح حار، شغل مكيف الهواء ووضع القهوة والكعك. نشأ يوفال بيتون في بئر السبع، في جنوب إسرائيل. في العام 1996، بعد مسيرة مهنية قصيرة في الممارسة الخاصة، قبل عرضا للعمل في عيادات الأسنان في سجنين في النقب. ووجد نفسه يعالج أعضاء حماس وفتح والجهاد الإسلامي الفلسطيني، الذين سجنوا بتهمة ارتكاب جرائم مختلفة تتعلق بالإرهاب. وكان من بينهم السنوار.
قال “لا ، إنه ليس عدوانيا. لكنه ليس لطيفا أيضاً ” .
في البداية، كان عدد السجناء الأمنيين متواضعا نسبيا. فقد تم إطلاق سراح المئات منهم كجزء من اتفاقيات أوسلو للسلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. أما أولئك الذين بقوا فقد اعتُبِروا من أكثر السجناء تشددا ، كما وصفتهم السلطات، “بأيديهم دماء يهودية”. ولكن الانتفاضة الثانية، التي بدأت في العام 2000، جلبت موجة وحشية من التفجيرات الانتحارية والتوغلات الإسرائيلية في المدن والبلدات الفلسطينية، وكانت هناك زيادة حادة في الاعتقالات. يقول بيتون: “احتفظ السجناء بهيكل المنظمات التي جاؤوا منها. إذا كانت حماس، فقد عاشوا معا كمجموعة، فتح مع فتح. لقد احتفظوا بحياة شبه عسكرية. وكانوا صارمين للغاية”. كان السجناء يعقدون انتخابات قيادية دورية، وفي العام 2004، أصبح السنوار “أميرا” لسجناء حماس.
يتذكر يوفال بيتون أن السجناء الأمنيين كانوا في زنازينهم لأكثر من عشرين ساعة في اليوم. كان سجناء حماس متقشفين بشكل خاص، حيث كانوا يتجمعون من أجل “العد” – نداء الأسماء – في الساعة الخامسة صباحا ثم يؤدون صلواتهم الصباحية. خلال فترات التمرين القصيرة، كان السنوار يركض ويقفز بالحبل. لاحظ بيتون صلابة السنوار وسلوكه، ورفضه التحدث شخصيا مع سجانيه، وطريقته القاسية في فرض الانضباط بين سجناء حماس الآخرين.
في السنوات التالية، أمضى بيتون مئات الساعات في التحدث مع السنوار، الذي بدا أنه ليس لديه أي اهتمام بإخفاء ماضيه أو نواياه للمستقبل. عندما سأله بيتون عما إذا كان تحقيق أهدافه يستحق أرواح العديد من الأبرياء، الإسرائيليين والفلسطينيين، أجاب السنوار: “نحن مستعدون للتضحية بعشرين ألفا، وثلاثين ألفا، ومائة ألف“. لم تختلف رواية بيتون، التي قدمها للعديد من الزوار، كثيرا عن روايات الفلسطينيين الذين تحدثت معهم. أخبرني مخيمر أبو سعدة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر في غزة، “أن تكون من مخيم للاجئين ليس أمرا فريدا في غزة. “إن أغلبنا من هنا. إن ما جعل السنوار هو ما هو عليه الآن هو أمران :-
أولاً، بمجرد أن تقتل شخصا ما، يصبح الأمر أسهل في المرة الثانية والثالثة. كان السنوار على دراية بالقتل والإعدامات. لقد قتل المتعاونين الفلسطينيين خلال الانتفاضة الأولى.
ثانيا، تركت حياته في السجون الإسرائيلية بصمة دائمة على شخصيته. لقد أصبح زعيما هناك“. وأضاف أن السجن بالنسبة للسجناء الفلسطينيين “ليس لقضاء الوقت – بل للتعرف على المجتمع الإسرائيلي، واللياقة البدنية، وعقد مجموعات نقاش صغيرة“.
لقد عبر باسم نعيم، زعيم حماس، عن الأمر على هذا النحو: “كل من يتم اعتقاله وسجنه، منذ اليوم الأول، سيواجه خيارين – إما الاستمرار في الشكوى حول سبب وجوده هنا، وحول أولئك الذين أوصلوه إلى هذه المحطة في حياته، إلى السجن،
أم قبولها كحقيقة في حياته ومحاولة تحقيق أقصى استفادة من هذا الوضع الجديد.
كان السنوار أحد أولئك الذين اختاروا الخيار الثاني. لقد شرع في تحويل هذا التحدي إلى فرصة“.
بيد دقيقة، كان السنوار يدون ملاحظاته حول قراءاته، ويملأ آلاف الصفحات في المجلات. وبعد سنوات، قال لمحاوره: “السجن يبنيك، وخاصة إذا كنت فلسطينيا، لأنك تعيش وسط نقاط تفتيش وجدران وقيود من كل الأنواع. فقط في السجن تلتقي أخيرا بفلسطينيين آخرين، ويكون لديك الوقت للتحدث. أنت تفكر في نفسك أيضا. في ما تؤمن به، والثمن الذي أنت على استعداد لدفعه“.
زار إيهود يعاري، الصحفي المعروف منذ عقود في إسرائيل كخبير في السياسة في الشرق الأوسط، عددا من السجناء الأمنيين الفلسطينيين، بما في ذلك السنوار.
في لقائهما الأول، بدأ يعاري يتحدث باللغة العربية.
قال له السنوار. “لا تحدث العبرية، أنت تتحدث العبرية أفضل من السجانين“. كان السنوار قد رأى يعاري على التلفزيون الإسرائيلي، وربما أراد أن يتعلم منه.
قال لي يعاري: “إنه رجل صريح، لا هراء، لا خطابة، مباشر، متحسب للغاية، ماكر بوضوح”. وكان السجناء يحصلون على إذن بشراء الطعام من المقصف والطهي في زنازينهم. ودعا السنوار يعاري لتناول الطعام معه. ويتذكر يعاري: ” كان يطعمك وفقا لأفضل التقاليد العربية”.
ولكن الدفء توقف عند هذا الحد.
في أوائل الألفين ، نقل السنوار إلى الجناح رقم 4، وهي منطقة شديدة الحراسة في سجن بئر السبع، إلى جانب قادة آخرين من حماس والجهاد الإسلامي وفتح، أكبر مكون في منظمة التحرير الفلسطينية. سرعان ما اكتشف يوفالبيتون، وهو مراقب محترف، كيفية التمييز بين رجال حماس وأعضاء فتح: أسنانهم أفضل. حماس جماعة متدينة للغاية. أعضاؤها لا يدخنون، وهم حريصون على ما يأكلونه. حتى في السجن، كانوا دقيقين بشأن عاداتهم، ينامون في الساعة 9 أو 10 مساء. فيما كان العديد من رجال فتح يبقون مستيقظين حتى وقت متأخر، يدخنون، ويثرثرون، ويشاهدون التلفزيون.
بالإضافة إلى كونه طبيب أسنان، تدرب يوفال بيتون في رومانيا في الطب العام، وكان يساعد أطباء السجن أحيانا. بعد ظهر أحد الأيام العام 2004. رأى السنوار، – الذي كان يعاني من آلام شديدة في مؤخرة رقبته– . في البداية، لم يتعرف عليه، ثم قال إنه فقد توازنه عند النهوض من الصلاة. اعتقد يوفال بيتون أنه ربما يعاني من سكتة دماغية، وأعرب لأطبائه عن قلقه. تم إرسال السنوار إلى مركز سوروكا الطبي، حيث خضع لعملية جراحية طارئة في المخ لإزالة ورم قاتل محتمل. بعد بضعة أيام، توقف بيتون في المستشفى لرؤية السنوار. يتذكر بيتون: “قال إنه مدين لي بحياته“.
قال يوفال بيتون إنه ساعد في التوسط في مقابلة بين السنوار ويورام بينور، مراسل التلفزيون الإسرائيلي، حيث اعترف السنوار بالقوة العسكرية الإسرائيلية وأبقى على إمكانية الهدنة، وهي هدنة يمكن أن تستمر لجيل كامل. بعد المقابلة، أخبر السنوار بيتون أنه واثق من أن إسرائيل لا تستطيع الاعتماد على قوتها إلى الأبد. فهي هشة بطبيعتها.
في العام 2007، قبل يوفال بيتون عرضا ليصبح ضابط استخبارات سجن بدوام كامل. وفي هذا المنصب الجديد، أمضى أيامه في سجن كتسيعوت، وهو سجن كبير ومشهور بقسوته في النقب. وفي العام 2009، يتذكر بيتون أنه انخرط بشكل كبير في المفاوضات المحيطة بجلعاد شاليط، الجندي الإسرائيلي الذي اختطف قبل ثلاث سنوات وكان محتجزا كرهينة في غزة. وكان الإسرائيليون على استعداد للتخلي عن مئات من سجناء حماس وفتح في المقابل، لكنهم كانوا مترددين في إطلاق سراح أي شخص أدين بقتل إسرائيليين بعد بدء الانتفاضة الثانية.
وكان من المؤكد تقريبا أن يكون السنوار من بين المفرج عنهم. ويقول بيتون: “بعد كل شيء، لم تكن يداه ملطختين بدماء اليهود” ــ بل بدماء فلسطينية فقط.
سرعان ما اتضح أن السنوار كان صوتا متطرفا في المحادثات، وأصر على إطلاق سراح حتى أولئك الذين ارتكبوا أخطر الجرائم. سمع بيتون، الذي شارك أيضا في المفاوضات، أحد زعماء حماس في الضفة الغربية يدعى صالح العاروري ، أن السنوار كان يعطل المحادثات.
في النهاية، تم وضع السنوار في الحبس الانفرادي حتى يمكن إتمام الصفقة بدونه.
في 18 تشرين الأول/أكتوبر/ 2011، كان السنوار واحدا من مئات السجناء الفلسطينيين الذين تم تحميلهم في حافلات متجهة إلى غزة والضفة الغربية. كان الجميع تقريبا في قيادة حماس يعرفون أن إسرائيل تدفع ثمنا باهظا مقابل شاليط.
وقال أحمد الجعبري، أحد قادة الجناح العسكري للحركة، لصحيفة الحياة إن السجناء مسؤولون جماعيا عن مقتل خمسمائة وتسعة وستين إسرائيليا.
اعتقد بيتون أن إطلاق سراح السنوار فكرة رهيبة، فكرة ستعود لتطارد إسرائيل. قبل مغادرة الحافلات، طالب مسؤولو الأمن الإسرائيليون السجناء بالتوقيع على إقرارات يتعهدون فيها بعدم الانخراط في أعمال إرهابية مرة أخرى. ووقع أعضاء حماس من ذوي الرتب الأدنى. فيما رفض السنوار.
اعتاد السنوار ،كشاب، أن يقول أنه ليس بحاجة إلى زوجة. فهو متزوج من القضية الفلسطينية. ولكن في غضون شهر من إطلاق سراحه، وفقا لصحيفة يديعوت أحرونوت، تزوج من امرأة أصغر منه بثمانية عشر عاما تدعى سمر. نشأت في عائلة ثرية وتقية نسبيا من مدينة غزة، كانت معروفة بدعمها للمقاومة الفلسطينية، وحصلت على درجة الماجستير في الدين من الجامعة الإسلامية في غزة. لم يجد السنوار عروسه بمفرده. اختارتها شقيقاته أثناء حجّه إلى الأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية. ترتدي سمر النقاب التقليدي لتغطية وجهها. ولديها من السنوار ثلاثة أطفال. وبحلول العام 2007، حلت حماس محل السلطة الفلسطينية باعتبارها الوجود السياسي المهيمن في غزة – أولا من خلال الانتخابات التشريعية، ثم من خلال الانتصار في حرب أهلية دموية . وقد دفعت سمعة السنوار كزعيم سجن إلى أعلى مراتب حماس بمجرد عودته تقريبا. أصبح صانع قرار حاسما في القطاع وكان على اتصال متكرر بإسماعيل هنية، الذي كان في ذلك الوقت الزعيم السياسي الرئيسي لحماس في غزة. ومحمد ضيف، القائد العسكري. وحلفاء أجانب مهمين، بما في ذلك قادة حزب الله، في لبنان. في العام 2012، سافر إلى طهران للتشاور مع الجنرال قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
كما ظل السنوار متورطا في معاقبة المتعاونين. ففي العام 2015، قاد جهودا لمعاقبة قائد حماس محمود اشتيوي، الذي كان مشتبها به في الاختلاس والمثلية الجنسية، وبالتالي كان عرضة للاختراق. ويقال إن خالد مشعل، الذي كان آنذاك الزعيم السياسي الرئيسي لحماس، حاول تهدئة الموقف، لكن السنوار كان متشددا. ويقول أقارب اشتيوي إنه علق من السقف وتعرض للجلد لأيام. وكتب اشتيوي، وفقا لوثائق يزعم جيش الدفاع الإسرائيلي أنه عثر عليها في غزة خلال الحرب الحالية، والتي تم اقتباسها في صحيفة هآرتس: “لقد تعرضت لتعذيب لم يتعرض له أحد في فلسطين، ليس من قبل السلطة الفلسطينية، ولا حتى على أيدي اليهود، ولكن من قبل الأمن الداخلي لحماس“. وأدين اشتيوي من قبل محكمة دينية وحكم عليه بالإعدام. وكتب رسالة أخيرة لزوجته: “أطلب أن أموت عند قدميك وأنا أقبلهما“. كانت هذه الكلمات إشارة إلى اقتباس من النبي محمد: “الجنة تحت أقدام الأمهات“.
لدى حماس أربعة مراكز للسلطة – غزة، والضفة الغربية، والشتات، والسجون – ومكتب سياسي حاكم يصنع السياسة. في العام 2017، تمت ترقية هنية إلى رئيس المكتب السياسي، وانتخب السنوار رئيسا عاما لحماس في غزة. في السنوات الأولى من حكمه، قدم السنوار أحيانا وجهة نظر أكثر دقة حول أيديولوجية حماس. لقد أصر على لغة المقاومة والادعاء بأن إسرائيل كيان يهودي غريب على أرض موروثة للإسلام. ومع ذلك،ألمح في لحظات إلى التسوية.
في العام 2018، زارت صحفية إيطالية تدعى فرانشيسكا بوري غزة ورتبت لمقابلة السنوار. أخبرتني بوري أن السنوار أراد إرسال رسالة مفادها أنه يفضل “الهدوء مقابل الهدوء“، وهو توقف مؤقت للأعمال العدائية المسلحة مع إسرائيل. قال لبوري: “الحقيقة هي أن الحرب الجديدة ليست في مصلحة أحد. بالتأكيد، إنها ليست في مصلحتنا. من الذي يرغب في مواجهة قوة نووية بالمقاليع؟“
أشاد السنوار بالشباب “اللامعين” في غزة، الذين تمكنوا من الإبداع على الرغم من سيطرة إسرائيل القاسية.
قال لبوري: “باستخدام أجهزة الفاكس القديمة وأجهزة الكمبيوتر القديمة، قامت مجموعة من الشباب في العشرينات من العمر بتجميع طابعة ثلاثية الأبعاد لإنتاج المعدات الطبية المحظورة من الدخول“. “هذه هي غزة. نحن لسنا مجرد أطفال محرومين وحفاة. يمكننا أن نكون مثل سنغافورة، مثل دبي. ولنجعل الوقت يعمل لصالحنا. نداوي جراحنا“. كما قال إن اليهود كانوا ذات يوم “أشخاصا مثل فرويد وأينشتاين وكافكا. خبراء في الرياضيات والفلسفة. والآن أصبحوا خبراء في الطائرات بدون طيار والإعدامات خارج نطاق القضاء“.
وعندما طلبت بوري من السنوار مقارنة حياته في السجن بحياته كزعيم في غزة، قال: “لقد غيرت السجون فقط. وعلى الرغم من كل ذلك، كان السجن القديم أفضل بكثير من هذا. كان لدي ماء وكهرباء. وكان لدي الكثير من الكتب. غزة أكثر صعوبة بكثير“.
في السنوات التي تلت ذلك، وضع بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، ما يُعرف الآن على نطاق واسع باسم “المفهوم“، وهي مجموعة من التكتيكات التي تهدف إلى احتواء حماس مع إضعاف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وخنق أي حديث عن مفاوضات السلام. سمح لقطر بتوجيه مليارات الدولارات إلى غزة، من المفترض للمشاريع المدنية والحكم، على الرغم من أنه كان يعلم أن السنوار كان يستنزف الكثير من الأموال لشراء الأسلحة وتوسيع “مترو غزة“، نظام الأنفاق والمخابئ.
بمرور الوقت، فقد السنوار وبقية قادة حماس الإيمان بإمكانية تحقيق أي تقدم مع إسرائيل.
وبعد الانتفاضة الثانية، أصبحت المؤسسة السياسية الإسرائيلية، وخاصة تحت قيادة نتنياهو، أكثر وقاحة في ازدرائها للمصالح الفلسطينية، وتحدثت عن ضم الضفة الغربية. وساعدت إدارة ترامب، بقيادة جاريد كوشنر، في صياغة اتفاقيات أبراهام ، التي تهدف إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول التي يحكمها السنة، وخاصة المملكة العربية السعودية، مما أدى إلى تهميش الفلسطينيين مرة أخرى.
لقد بدأ خطاب السنوار يصبح أكثر قتامة. ففي العام 2019، تحدث عن “الفخاخ” التي نصبتها حماس في أنفاقها. وقال إنه إذا ارتكب الإسرائيليون أي “أخطاء غبية“، “فسوف نسحق تل أبيب“. بل إنه أعلن أن “السيناريو موجود، والبروفة اكتملت. وستنفجر غزة بكل قوة مقاومتها، وستنفجر الضفة الغربية بكل قوتها. وسوف يهاجم شعبنا كل المستوطنات دفعة واحدة“. وفي نهاية المطاف، تحدث عن إرسال “عشرة آلاف من طالبي الاستشهاد” إلى إسرائيل إذا تعرض الأقصى للأذى، وإشعال الحرائق في الغابات الإسرائيلية، و“القضاء على إسرائيل من خلال الجهاد والنضال المسلح“.
لم أقرأ الكثير من التفاصيل العميقة حول تطور السنوار حتى حزيران/ يونيو/ 2021، عندما صادفت مقالا طويلا في صحيفة هآرتس بقلم يانيف كوبوفيتش، أفاد بأن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية قد راجعت فهمها للسنوار. وتشير مصادر كوبوفيتش إلى أن السنوار تخلى عن “براجماتيته السابقة” و“تواضعه النسبي” لصالح تكتيكات عسكرية أكثر عدوانية وأسلوب قيادي مسيحاني. ويبدو أن هذا التحول لم يحدث فقط لأن الإسرائيليين تجاهلوا القضية الفلسطينية، بل ،وأيضا، لأن السنوار عانى من سباق إعادة انتخاب متقارب بشكل مذهل في ذلك العام. وخلص المحللون إلى أن السنوار شعر بأنه “يدفع ثمنا” لترتيباته الضمنية مع الإسرائيليين.
وقد أخبرته مصادر كوبوفيتش أن السنوار أصبح الآن أكثر حضورا في الشوارع، حيث يلتقي بشكل متكرر بالسكان العاديين. وقد صُدمت المصادر بكيفية قبول الناس له، وكيف علقوا صوره. وقال أحد المصادر لكوبوفيتش: “يحول السنوار نفسه إلى شخصية روحية. إنه يحاول خلق أساطير حول نفسه والتحدث عن نفسه كشخص اختاره الله للقتال من أجل القدس نيابة عن المسلمين“.
في أيار /مايو/ 2021، اندلع القتال بين حماس وإسرائيل بعد أن داهمت الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى، وسط احتجاجات ضد الإخلاء الوشيك للأسر الفلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية. وفي أحد عشر يوما، قتلت قوات غزة ما يقرب من اثني عشر إسرائيليا، في حين قتل جيش الدفاع الإسرائيلي مائتين وستين فلسطينيا. وخلصت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى أن السنوار، على الأقل في ذهنه، لم يعد مجرد زعيم فلسطيني. لقد أصبح الآن زعيما للعرب، “أمره الله بحماية الأقصى والقدس“. وبدأ يقول إن أعظم هدية يمكن أن تقدمها له إسرائيل هي أن تجعله شهيدا على نطاق واسع. وقال: “سأغادر الآن بالسيارة عائدا إلى المنزل. إنهم يعرفون مكان إقامتي – أنا في انتظارهم“.
لقد كانت هناك العديد من الخطب والاجتماعات العامة لحماس قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر/ والتي كان من المفترض أن تغرس شعورا متزايدا بالقلق في حكومة نتنياهو. حدث أحدها في 30 أيلول/ سبتمبر / 2021، في فندق كومودور في مدينة غزة، في مؤتمر بعنوان “وعد الآخرة: فلسطين بعد التحرير“. كان الغرض من المناقشات، وفقا لروايات صحيفة هآرتس ومعهد أبحاث وسائل الإعلام في الشرق الأوسط، هو الاستعداد لمستقبل بعد “التحرير” – أي بعد “اختفاء” دولة إسرائيل.
دعا الحاضرون في المؤتمر إلى إعلان الاستقلال الذي سيكون “استمرارا مباشرا” لإعلانين سابقين: أحدهما تم وضعه بعد أن استولى الخليفة عمر على القدس من البيزنطيين، في القرن السابع، والآخر بعد أن هزم صلاح الدين الصليبيين وحرر المسجد الأقصى، في القرن الثاني عشر. لم يحضر السنوار الإجراءات، لكنه أرسل ممثلا لطمأنة حلفائه بأن “النصر قريب“.
كانت الخطط التي نوقشت في فندق كومودور دقيقة. فقد جمعت حماس “سجلا” للشقق الإسرائيلية والمؤسسات التعليمية ومحطات الطاقة وأنظمة الصرف الصحي ومحطات الوقود، وكلها كانت تنوي الاستيلاء عليها. وسيتم تحويل الشيكل إلى “ذهب أو دولارات أو دنانير“. وقد حددت الخطط نوايا حماس تجاه السكان اليهود الحاليين، وقررت من سيحاكم أو يقتل، ومن سيسمح له بالمغادرة أو الاندماج في الدولة الجديدة. وكان المندوبون مهتمين بشكل خاص بـ “منع هجرة الأدمغة” من “اليهود المتعلمين والخبراء في مجالات الطب والهندسة والتكنولوجيا والصناعة المدنية والعسكرية“. ولا ينبغي السماح لهؤلاء الناس “بالرحيل وأخذ المعرفة والخبرة التي اكتسبوها أثناء إقامتهم في أرضنا والاستمتاع بخيراتها، بينما ندفع نحن ثمن كل هذا بالإذلال والفقر والمرض والحرمان والقتل والاعتقالات“.
لقد أخبرني شلومي إلدار، وهو صحافي إسرائيلي لديه مصادر لا حصر لها في غزة والضفة الغربية، “لقد كان المؤتمر جادا، لأن قيادة حماس توقفت عن التفكير المنطقي وبدأت تفكر بطريقة دينية. عندما تعتقد أن الله اختارك لتنفيذ مهمته، فإنك تعتقد أن كل شيء ممكن“.
ولم يبارك السنوار المؤتمر فحسب، بل أشاد أيضا بالطريقة التي تم بها الاحتفال بالكفاح المسلح في الثقافة الشعبية في غزة. في أيار/مايو /2022، ألقى خطابا أشاد فيه بمسلسل “قبضة الأحرار“، وهو مسلسل تلفزيوني تم بثه على قناة الأقصى، وهي محطة ترعاها حماس. تم الإعلان عن العرض كنوع من الإجابة على “فوضى“، – وهو مسلسل إسرائيلي يضم كوماندوز شجعان وينفذون عمليات جريئة في الضفة الغربية وغزة.
يقعون في “قبضة الأحرار“، ويصد فيه جنود حماس غزوا إسرائيليا لغزة ويحققون انتصارات مجيدة في الهجوم المضاد، واقتحام المواقع العسكرية عبر السياج واحتجاز الرهائن. قال السنوار إن المسلسل “له تأثير كبير على نضال شهدائنا وجهادهم وإعدادهم لطريق التحرير والعودة“.
ولكن من المؤكد أن العودة للوراء لإعادة قراءة التاريخ قد تكتسب وضوحا دينيا. ففي كانون الأول/ ديسمبر/ 2022، في الذكرى السنوية لتأسيس حماس، استشهدت المنظمة بعبارة “إننا قادمون بطوفان هادر“. ورفض مخيمر أبو سعدة، الباحث من جامعة الأزهر، مثل هذا الحديث في تلك الأيام ووصفه بأنه “نكتة كبيرة“. وقال: “لقد تحدثوا عن هذا لفترة طويلة، عن تدمير إسرائيل والتحرير من النهر إلى البحر. ولكن بصفتي عالما سياسيا، اعتقدت أن هذا كان مجرد إبقاء الشعب الفلسطيني مشغولا بالأوهام“. ولكن كانت هناك علامات أخرى أيضا. ففي ذلك الوقت تقريبا، أطلقت حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، وهي جماعة مقاومة أصغر حجما، ولكنها ليست أقل عنفا، صواريخ على إسرائيل. واختارت حماس عدم الانضمام إلى القتال، وأعلنت أنها تحجم عن إطلاق النار من أجل معركة أكثر أهمية.
وقال لي سامر سنجلاوي، وهو سياسي من فتح في القدس الشرقية: “لقد فعل السنوار كل ما في وسعه للتحضير، وتحدث عن ذلك علنا، لكن لم يصدقه أحد“. وأضاف أن “إسرائيل نامت في السادس من تشرين الأول/أكتوبر/ الماضي، واعتقدت أن هناك قطة نائمة في غزة، واستيقظت في الصباح التالي لتجد ديناصورا هناك“.
في الساعة 6:43 من صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر/ أرسل آفي روزنفيلد، العميد الذي قاد الفرقة 143 في جيش الدفاع الإسرائيلي ـ فرقة غزة ـ رسالة عسكرية عاجلة: “غزا الفلسطينيون“.
وكانت الإشارة مفهومة جيدا. ففي العصر الحديدي، استوطن الفلسطينيون، أعداء بني إسرائيل اللدودين، بالقرب من قطاع غزة. وكما ورد في سفر صموئيل، وصل الصراع إلى حالة طوارئ عندما جاء رسول إلى شاؤول، أول ملك لإسرائيل، ونبهه قائلا: “أسرع وتعال، فقد غزا الفلسطينيون الأرض!” وسقط جيش شاؤول في أيدي الفلسطينيين. وثبت أن دعوة روزنفيلد المشفرة إلى حمل السلاح كانت عديمة الجدوى. فقد تجاهل نتنياهو وزعماء أمنه التحذيرات المتكررة من الهجوم، وعندما جاء الهجوم، كانت المنطقة القريبة من غزة بلا دفاع تقريبا.
كان قرار حماس الشامل بتنفيذ عملية عسكرية كبرى قرارا جماعيا اتخذه قادتها في غزة والضفة الغربية والسجون الإسرائيلية والشتات. ومع ذلك، كان التخطيط للعملية وتنفيذها في أيدي يحيى السنوار إلى حد كبير، إلى جانب محمد الضيف . ولم يكن لهنية، رئيس المكتب السياسي– الذي كان يعيش في قطر– تأثير يذكر على التفاصيل. وكما أخبرني باسم نعيم، زعيم حماس، “كانت القرارات العملياتية كلها يتخذها الجناح العسكري في غزة. نحن لا نتدخل في التوقيت والتكتيكات“.
لقد عكست خطط السنوار وعيه الحاد بإسرائيل وتاريخها. كان يوم الهجوم هو يوم السبت وعيد سيمخات توراه، وهو آخر سلسلة من الأعياد المهمة في الخريف. وكان أيضا الذكرى السنوية الخمسين للهجوم المفاجئ في يوم الغفران، وكانت إسرائيل منغمسة في فترة طويلة وكئيبة من التأمل الذاتي. يقرأ الشباب الإسرائيليون روايات عن كيف قللت جولدا مائير وموشيه ديان وغيرهما من القادة من التقارير الاستخباراتية التي كانت تشير إلى هجوم وشيك. جاء الهجوم على سيناء والجولان في يوم الغفران ، عندما تكون الدولة مغلقة تماما.
في الأيام الأولى من القتال، تكبدت إسرائيل خسائر فادحة لدرجة أن المخاوف كانت تتزايد من تدمير الدولة نفسها.
ومع ذلك، لم يكن أي حدث في تاريخ إسرائيل الممتد لخمسة وسبعين عاما قد قوض شعور الأمة بالأمن والتفوق العسكري مثل هجوم السنوار.
وبعد إطلاق وابل غير مسبوق من الصواريخ باتجاه إسرائيل واستخدام مجموعة متنوعة من الأسلحة – الطائرات بدون طيار، وقاذفات آر بي جي – “لتعطيل” أنظمة الاتصالات والمراقبة، اخترق رجال السنوار السياج الحدودي في ستين مكانا مختلفا. تدفق الآلاف من جنود حماس إلى جنوب إسرائيل، بأوامر بقتل وخطف أكبر عدد ممكن من الجنود والمدنيين. وبعدهم جاء سكان غزة العاديون – بعضهم مسلح وبعضهم غير مسلح – فقاموا بالقتل والخطف والنهب، ودائما التصوير. وقد تم الكشف لاحقا عن أن المخابرات الإسرائيلية كانت تمتلك منذ فترة طويلة خطة حرب حماس المعروفة باسم جدار أريحا، وهي خريطة شبه دقيقة لأحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر/. حتى أن السنوار أرسل رسالة سرية إلى الإسرائيليين قبل بضعة أسابيع، يحذرهم فيها من توقع اندلاع تصعيد في السجون. ووفقا للقناة 12، تم تداول الرسالة في أعلى مستويات الموساد والشين بيت وجيش الدفاع الإسرائيلي. وتم “إبلاغ ” كل من نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت. ولكن عندما تلقى القادة العسكريون الإسرائيليون رسالة، بعد وقت قصير من الساعة الثالثة صباحا في يوم الهجوم، مفادها أن جنود حماس كانوا يقومون بمناورات، استنتج القادة أنها كانت على الأرجح مجرد تدريبات.
في واقع الأمر، لم يكن أغلب سكان غزة ليتصوروا مثل هذا الهجوم. فقد قال لي عالم السياسة أبو سعدة،: “لقد كان هذا الهجوم أبعد من الخيال. وربما كان حزب الله ليتصور شيئا كهذا. ولكن حماس كانت تحت الحصار لمدة سبعة عشر عاما. ولم نكن لنتصور قط أن أي جماعة قادرة على قتل واختطاف هذا العدد الكبير من الإسرائيليين“.
وعلى الرغم من مقاومة نتنياهو لأي اعتذار أو مساءلة عن دوره في الانهيار. فقد حدثت بعض الاستقالات في المؤسسة الأمنية. فقد استقال روزنفيلد، الجنرال الذي أرسل الدعوة بشأن الفلسطينيين، في حزيران /يونيو/، قائلا إنه “فشل في مهمة حياته” المتمثلة في الحفاظ على أمن المنطقة المحيطة بغزة.
واستقال أهارون هاليفا، رئيس الاستخبارات العسكرية، في نيسان/أبريل/. وفي رسالة اعترف فيها بفشله وفشل “المديرية تحت قيادتي“، قال: “لقد حملت ذلك اليوم الأسود معي منذ ذلك الحين، يوما بعد يوم، وليلة بعد ليلة“. ومن المفترض أن يكون هناك العديد من الاستقالات الأخرى عندما تنتهي الحرب أخيرا، ويتم إجراء تحقيق حكومي كامل، كما حدث بعد حرب يوم الغفران.
في أحد الأيام بعد الظهيرة، التقيت في شمال تل أبيب، بميشيل ميلشتاين، وهو محلل يحظى باحترام كبير وعمل لمدة عشرين عاما في الاستخبارات العسكرية. وكان آخر منصب شغله، قبل تقاعده قبل خمس سنوات، رئيسا لقسم الشؤون الفلسطينية.
في ضوء ما حدث، قال ميلشتاين إن هناك العديد من الأسباب التي جعلت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تفشل في توقع الهجوم. فمن ناحية :-
ركزت إسرائيل على التهديدات من إيران ووكلائها في لبنان وسوريا والعراق واليمن. لكن إهمال الاستماع بعناية إلى ما كان يقوله السنوار علنا كان أمرا لا يُغتفر بشكل خاص. وقال لي ميلشتاين: “لقد قال السنوار ، في الحرب القادمة، سنبدأ القتال – وستكون الحرب على الأراضي الإسرائيلية، وليس الفلسطينية. قال السنوار وآخرون ذلك علنا من على منابر مفتوحة”!
وأشار إلى أن حماس أجرت في السنوات الأخيرة تدريبات مكثفة، مبنية على سيناريوهات يهاجم فيها الغزاة الكيبوتسات والقواعد العسكرية. وقال: “المشكلة الرئيسية لم تكن تقنية. كانت المشكلة الرئيسية هي سوء الفهم العميق للآخر. الأمر أشبه بالنظر إلى فنجان القهوة ورؤية فيل“.
لقد أخبرني رشيد الخالدي، مؤلف كتاب “حرب المائة عام على فلسطين“، “إنهم سوف يدرسون هذا في الكليات الحربية لفترة طويلة ــ كيف تم تحقيق هذه العملية، وكيف حدث هذا الفشل الاستخباراتي ــ تماما كما يدرسون بيرل هاربر أو حرب 1973″.
أخبرني مسؤول أمني إسرائيلي كبير أن التشابه مع العام 1973 كان غريبا: فقد عانت المؤسسة الأمنية من “عجز عبثي عن إدراك أن خطابات يحيى السنوار المسيحانية وتدريباته العسكرية الطموحة كانت خطيرة“. وفي الواقع، أضاف المسؤول، تشير المعلومات التي جمعها جيش الدفاع الإسرائيلي إلى أن حماس كانت لديها معلومات استخباراتية دقيقة عن القواعد العسكرية المحيطة والكيبوتسات، وأن مقاتليها كانوا ليتوغلوا إلى عمق أكبر في إسرائيل لو تمكنوا من ذلك.
إن إراقة الدماء والصدمة التي خلفتها الأشهر العشرة الماضية تتجاوز أي شيء في تاريخ الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ففي السابع من تشرين الأول/أكتوبر/ قتل نحو ألف ومائتي إسرائيلي، وجرح آلاف آخرون ، واختطف نحو مائتين وأربعين رهينة. ودمرت كيبوتسات بأكملها.
في الهجمات الجوية والبرية المستمرة اليوم، دمرت إسرائيل قطاع غزة. وكثيرا ما يتم الاستشهاد برقم أربعين ألف قتيل، ولكن الأمر سيستغرق وقتا طويلا قبل أن يتم إحصاء القتلى والجرحى بالكامل. لقد تحولت المباني السكنية والمساجد والمدارس والمستشفيات والجامعات إلى أنقاض. وفقد مئات الآلاف من سكان غزة منازلهم. وما تزال العواقب الدولية تتكشف: التبادلات المسلحة بين إسرائيل وإيران، وبين إسرائيل وحزب الله، مع نذير شؤم من مواجهة أوسع نطاقا في المستقبل. وهجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية وحتى تل أبيب. والهجوم المضاد على اليمن. والموجة الهائلة من المظاهرات المؤيدة لفلسطين في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة والعواصم العربية. واتهامات بارتكاب جرائم حرب ضد كل من إسرائيل وحماس في المحكمة الجنائية الدولية. واتهامات الإبادة الجماعية ضد إسرائيل. وكما أخبرني الخالدي، “لقد بدأ شيء ما غير كل شيء – “تغير، تغير تماما“، كما قال ييتس. لم نكن أبدا على هذا المستوى من المقاومة المسلحة أو هذا المستوى من العقاب المسلح ردا على ذلك. “إنها أسوأ هزيمة لإسرائيل، وفي نفس الوقت أسوأ وأكثر دموية، يوما بعد يوم، بالنسبة للفلسطينيين من النكبة نفسها“.
يقول عاموس هاريل، المحلل العسكري والسياسي في صحيفة هآرتس، إن أحد أكثر الجوانب المحبطة في الكابوس الحالي هو الطريقة التي تمكن بها السنوار من استفزاز حكومة نتنياهو إلى حالة من الغضب المروع والمدمر. قال لي هاريل: “الشعور في المجتمع الإسرائيلي هو أننا ننزلق إلى الهاوية، وقد ساعد السنوار في جرنا إلى هناك. عندما نبرر أشياء لم نكن لنبررها من قبل، فإننا ننزلق إلى الحضيض الأخلاقي. كانت كلمات مثل “الانتقام” تُسمع فقط بين بتسلئيل سموتريش وإيتامار بن جفير في العالم” – وهما وزيران يمينيان متعصبان بشكل خاص في حكومة نتنياهو. “الآن تستخدم الوحدات العسكرية والعقداء الرئيسيون مصطلحات مثل النيكاما، الانتقام. لقد أصبح هذا جزءا من القاعدة الآن. لست متأكدا من أنه كان جزءا من خطة السنوار العظيمة، لكن هذا هو المكان الذي نحن فيه“.
بعد فترة وجيزة من السابع من تشرين الأول/أكتوبر/، قمت بالقيادة إلى المنطقة الإسرائيلية المعروفة باسم عوتيف عزة، غلاف غزة. كانت هناك جنازات تجري في جميع أنحاء البلاد، العديد منها كل يوم. وكان أحد القتلى تمير أدار، ابن شقيق يوفال بيتون، طبيب الأسنان الذي ساعد في إنقاذ حياة سينوار. توفي تنير أدار أثناء الدفاع عن كيبوتس نير عوز. ونقل قاتلوه جثته إلى غزة، حيث ما تزال محتجزة.
في فترة ما بعد الظهر، ذهبت إلى كيبوتس بئيري. تأسس كيبوتس بئيري في العام 1946، وكان معروفا بأنه مجتمع سلام يساري قديم الطراز بشكل خاص. قبل الهجوم، كان كيبوتسا مزدهرا، حيث كان عدد السكان 1200 نسمة وقائمة انتظار. الآن أصبح مشهدا من الأنقاض المتفحمة، ديستوبيا.
بعد وصولي بفترة وجيزة، قابلت باراك حيرام، وهو عميد في جيش الدفاع الإسرائيلي. أخبرني أنه كان في منزله في تقوع، وهي مستوطنة في الضفة الغربية، عندما سمع نبأ غزو حماس. توجه جنوبا، وفي النهاية قاد القوات في بئيري. عندما انتهى القتال، كما قال، عثر هو ورجاله على الجثث في كل مكان – في المنازل، وتحت الأشجار. في وقت لاحق، تم التحقيق مع حيرام وقادة آخرين بسبب أفعالهم في بئيري، بما في ذلك إصدار أمر لدبابة بإطلاق النار على منزل حيث تم احتجاز الرهائن. وتم تبرئتهم من أي انتهاكات.
“لقد كانوا مسلحين حتى أسنانهم“، هكذا قال حيرام عن مقاتلي حماس. “كانوا يحملون قاذفات صواريخ، وقاذفات آر بي جي، والكثير من المعدات الروسية، وبنادق كلاشنيكوف، وألغاما مضادة للبشر، وأسلحة كلايمورز. حاولوا تفخيخ العديد من جثث المدنيين بالقنابل اليدوية، ونزع دبابيس الأمان ووضعها تحت الجثث. كانوا يعرفون أن شخصا ما سيأتي ويحاول إجلاءهم. وبينما كنا نقاتل، ونحفر في الكيبوتس، ونحاول الوصول إلى المزيد من المدنيين، سمعنا المزيد والمزيد من إطلاق النار في كل مكان. لقد كان حمام دم. كانت مذبحة. انتقلوا من منزل إلى آخر، وقتلوا الجميع“.
ثم توقف الجنرال وقال كلمة واحدة بقيت في ذهني: “Einsatzgruppen”. كانت هذه وحدات شبه عسكرية متنقلة تابعة للرايخ الثالث، اشتهرت بجمع وقتل اليهود ورجال الدين البولنديين والغجر ـ وأي شخص في طريق الغزو النازي.
لقد شهد حيرام القتال من قبل، في لبنان وغزة. قبل ثمانية عشر عاما، فقد إحدى عينيه في معركة مع حزب الله. لكنه لم يستطع أن يستوعب وحشية ما واجهه في بئيري. لم يكن مستعدا لرؤية غزة كما يراها أهل غزة، كمكان لوجود لا يطاق. حتى قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر/، كانت الكهرباء والمياه الصالحة للشرب والغذاء والإمدادات الطبية في نقص مستمر هناك. وكان معدل البطالة أكثر من 40%. نشأ الأطفال في عالم من الحرب المتقطعة والصدمات المستمرة والأسلاك الشائكة والمراقبة.
لكن رواية حيرام كانت مألوفة في إسرائيل، وليس فقط لدى اليمين: لقد حاولنا صنع السلام. وحصلنا على مفجرين انتحاريين. لقد انسحبنا من غزة، وحصلنا على الصواريخ فقط. والآن هذا.
ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ قال حيرام: “لقد تلقينا الأوامر، ونحن مستعدون للقتال وتقليص قوة حماس وإبادتها أينما كانت“.
وكانت عبارة “الإبادة“، في إشارة إلى منطقة صغيرة مزدحمة بالمدنيين الذين ليس لديهم مكان يذهبون إليه، بمثابة صدمة مثل عبارة “المجموعات“.
“Einsatzgruppen”
ومع استمرار مفاوضات الرهائن ووقف إطلاق النار لأشهر، تحول القتال إلى مرحلة جديدة. كانت الهجمات الإسرائيلية طويلة وشرسة لدرجة أن حماس لم تعد تمتلك القوة العسكرية أو آليات القيادة والسيطرة التي يتمتع بها جيش كفء. وما تبقى من جيشها هو قوة متمردة متضائلة، مع ظهور المقاتلين من الأنفاق أو من بين الأنقاض لإطلاق النار على الجنود الإسرائيليين.
ليس من الواضح أين يختبئ السنوار، لكن مصادر استخباراتية أخبرتني أنه ربما عاد إلى الأنفاق تحت خان يونس. ويقولون إن أحد الأسباب التي تجعل مفاوضات الرهائن ووقف إطلاق النار تستغرق وقتا طويلا هو أن رسائل السنوار تستغرق أياما في كثير من الأحيان للوصول إلى المفاوضين في الدوحة أو القاهرة. في العام 2011، زار إيهود يعاري– الصحافي الإسرائيلي الذي زار السنوار في السجن– وأخبرني أنه بعد حوالي أربعة أشهر من بدء الحرب، اتصل به أحد مساعدي السنوار برسالة. وقال لي يعاري: “كانت الرسالة الرئيسية هي: لقد فعلت كل ما في وسعك في غزة، من حيث تدمير غزة وتدمير قدرات حماس وقتل أفرادها. لا يوجد شيء آخر يمكنك القيام به الآن“. “كان المضمون أنه ليس في عجلة من أمره للذهاب إلى صفقة رهائن وتجريد نفسه من الدرع الدفاعي للرهائن من حوله“.
في ظل هذه الظروف، كان أقرب ما يمكنني الوصول إليه للتحدث مع السنوار هو التحدث مع أحد زملائه – في هذه الحالة، باسم نعيم، من المكتب السياسي لحماس. حصل نعيم على شهادة طبية في ألمانيا ومارس الجراحة في مستشفى الشفاء في مدينة غزة. في الأيام الأولى من الحرب، أطلق العنان للكثير من الدعاية في الصحافة الدولية، حيث نفى، على سبيل المثال، أن جنود حماس قتلوا أي مدنيين على الإطلاق في السابع من تشرين الأول/أكتوبر/. (وفقا لصحيفة وول ستريت جورنال، قال السنوار في إحدى رسائله: “لقد خرجت الأمور عن السيطرة“. وألقى نعيم باللوم، بطرق مختلفة، على الفلسطينيين الآخرين الذين اخترقوا السياج في ذلك اليوم والنيران الصديقة الإسرائيلية.)
ومثل غيره من قبله، بدأ نعيم بإثارة تاريخ غزة. وقال متحدثا من قطر: “لقد فقد جيل كامل أي أمل في مستقبل أفضل. لقد حاولنا من خلال الوسائل السلمية والاحتجاجات والوسائل الدبلوماسية كسر الحصار. لكن إسرائيل كانت مدعومة من القوى الدولية، وخاصة الولايات المتحدة، وتواصل هذا العدوان وهذا الحصار على غزة. لدينا أيضا أكثر من خمسة آلاف سجينا فلسطينيا في السجون الإسرائيلية، وبعضهم هناك منذ عقود. لذلك كان علينا أن نتخذ خطوة لإلزام إسرائيل بالتفاوض على هذا الإفراج“.
وأضاف أن “السياق الأوسع” يشمل التطبيع الوشيك بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. والمسائل المتعلقة بالسيطرة على المسجد الأقصى. وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية. والخطط التي “تستهدف في الأساس القضاء على الفلسطينيين وتقويض قضيتهم إلى الأبد.
في السابع من تشرين الأول/أكتوبر/ ، ألقى إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، كلمة موجهة ليهود إسرائيل. فقال: “أخرجوا من أرضنا. وابتعدوا عن أعيننا. أنتم غرباء في هذه الأرض الطاهرة المباركة. لا مكان لكم ولا أمان“. وبعد فترة وجيزة من ذلك، أعلن غازي حمد، أحد كبار مسؤولي حماس، على شاشة التلفزيون اللبناني أن وجود إسرائيل “غير منطقي” ولابد من القضاء عليه. وقال: “يتعين علينا أن نلقن إسرائيل درسا. إن طوفان الأقصى ليس سوى المرة الأولى، وسوف يكون هناك مرة ثانية وثالثة ورابعة“.
وكان موقف نعيم أكثر اعتدالا في لغته، ولكن ليس في نواياه. فعندما سألته عما إذا كانت حماس ستكرر مثل هذا الهجوم، أجاب: “لا أستطيع أن أقول لا“. وقال إن القضية الأساسية ما تزال قائمة: إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية. وأضاف: “إذا تمكنا من تحقيق ذلك سياسيا، فحسنا، ولكن إذا لم نتمكن من ذلك، فسوف نفعل ذلك مرة أخرى ــ ربما مثل السابع من تشرين الأول/أكتوبر/، أو ربما بطريقة أخرى“. وأضاف أن هناك وسائل أخرى متاحة لحماس “لنزع الشرعية عن العدو: المقاومة في وسائل الإعلام، والاحتجاجات السلمية، والمقاومة المسلحة في الضفة الغربية والقدس“.
وحتى مع هذا العدد الكبير من القتلى، ومع الدمار الذي لحق بغزة، أصر نعيم على أن حماس حققت انتصارا عظيما. وقال إنه بالنظر إلى الفجوة في “قدرات” الجانبين، فإن “الطرف الأضعف يستطيع أن يزعم النصر إذا كان قادرا على البقاء“. وكان نعيم مسرورا بشكل خاص لأن الحرب “قوضت سمعة إسرائيل الدولية“. وكانت خيبة أمله الوحيدة هي أنها لم تتحول بعد إلى صراع إقليمي كامل. وقال: “لم نتشاور مع أي طرف آخر، ولكن نعم، نتوقع الدعم من الأطراف الأخرى“، وكان يقيس كل كلمة. “إلى أي مدى وكيف نفعل ذلك، هذا قرارهم“.
في أحد الصباحات، توجهت بالسيارة إلى القدس الشرقية، والتقيت بيهودا شاؤول ، ناشط السلام الإسرائيلي، وناثان ثرال، المدير السابق للمشروع العربي الإسرائيلي في مجموعة الأزمات الدولية ومؤلف كتاب “يوم في حياة عبد سلامة” الحائز على جائزة بوليتزر والذي يتحدث عن عائلة فلسطينية تعيش تحت الاحتلال.
شاؤول هو راوي قصص ثرثار في الأربعينيات من عمره. نشأ في عائلة محافظة متدينة في القدس، وأصبح متطرفا بسبب تجاربه في جيش الدفاع الإسرائيلي، وخاصة الأشهر التي قضاها في مدينة الخليل بالضفة الغربية، أثناء الانتفاضة الثانية. بينما كنا نجلس في حديقة بالقرب من جبل المشارف، تذكر شاؤول كيف أُمر هو وزملاءه المجندين بمداهمة منازل الفلسطينيين في منتصف الليل، وإلقاء القنابل الصوتية، وإشعال النيران على أسطح المنازل ــ وهي مجموعة من الأنشطة المضايقة المعروفة باسم “جعل وجودنا محسوسا“.
وفي نهاية خدمته، بدأ شاؤول في جمع شهادات من جنود آخرين حول تجاربهم. وكتب رسائل مجهولة المصدر إلى الصحافة يصف فيها ما شاهده. وفي العام 2004، شارك في تأسيس منظمة “كسر الصمت“، وهي واحدة من مجموعة صغيرة من المنظمات غير الحكومية ذات الميول اليسارية في إسرائيل المناهضة للاحتلال.
لقد أمضينا اليوم في السفر عبر الضفة الغربية، لفحص كيف جعلت بنية الاحتلال هذا الاحتلال أكثر ترسخا يستحيل تفكيكه. ركبنا في شاحنة بيضاء كبيرة متجهين شمالا نحو رام الله، وتوقف شاؤول ليلاحظ كيف تم بناء مجموعة من المستوطنات لتطويق بلدة فلسطينية، وليشير إلى مسرح هجوم المستوطنين الأخير على قرية فلسطينية. شاؤول، الذي يصف نفسه بأنه “متطرف من دعاة حل الدولتين“، لم يكن متعاطفا بالتأكيد مع هجوم حماس، ووصفه بأنه “قاتل“. لكنه كان يراقب أيضا لسنوات كيف أبقت الحكومة الأوضاع في غزة “منخفضة الغليان“، في حين عملت على تقويض السلطة الفلسطينية، ومنعت أي تقدم نحو التوصل إلى اتفاق. والآن، كما قال، “بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر/، تقلص المعسكر الذي يعارض الحكم الإسرائيلي للفلسطينيين على أساس الشعور بالأخلاق والقيم إلى ما يقرب من 4% من اليهود الإسرائيليين“.
عندما وصلنا رام الله، التقينا بناشط فلسطيني في منتصف العمر أفرج عنه للتو بعد ثمانية أشهر قضاها في سجن إسرائيلي. لم توجه إليه أي اتهامات. ومثله كمثل العديد من الآخرين في الضفة الغربية، كان موضوع “الاعتقال الإداري“. لم يكن راغبا في أن أكشف عن اسمه، خشية أن يجذب المزيد من الاهتمام. كما اعتقلت ناشطة شابة كانت تجلس في مكان قريب لبضعة أسابيع. وبينما كان الرجل، الذي سأطلق عليه اسم عبد الله ، يعد الشاي في المطبخ، أخبرتني أنها كانت مكتئبة بشدة بسبب الحرب – لم تستطع أن ترفع عينيها عن المعاناة التي كانت تراها على وسائل التواصل الاجتماعي – وأنها توقفت مؤخرا عن دراستها القانونية. قالت: “لم أعد أؤمن بالقانون“.
جاء عبدالله إلى غرفة المعيشة ليجلس معنا ومع العديد من أصدقائه القدامى. بعضهم ،أيضا، كان معتقلا “لقد فقدوا جميعهم الثقة في السلطة الفلسطينية، ورأوا في حماس الجهة الوحيدة التي تتمتع بالتفويض. قال عبدالله : “أن تكون فلسطينيا لا يعني أن تكون ضحية“. “إن اللاجئين لهم الحق في العودة، ليس لأنهم ضحايا في مخيم للاجئين، بل لأنهم بشر“.
أشار شاؤول، الذي يعرف عبد الله منذ فترة طويلة، إلى مقدار الوزن الذي فقده في السجن ـ أكثر من ثلاثين رطلا. وقال عبدالله وهو يربت على بطنه المختفي: “لم يعد لدي ما أخسره“.
ووصف الظروف في السجن الإسرائيلي: زنزانة مساحتها مائتان وخمسون قدما مربعة لأحد عشر رجلا، ونافذة صغيرة، ومرحاض، ودش بدائي، وفتحة صغيرة في الباب. وكان الهواء قليلا إلى الحد الذي جعلهم يغمى عليهم في كثير من الأحيان. ووصف الحصص اليومية، التي تتألف عادة من وجبة هزيلة من الفلافل أو الديك الرومي البارد مع “كمية ضئيلة من الأرز المهروس نصف المطبوخ“.
أخبرني عبد الله أن الحرب والأشهر التي قضاها في السجن غيرته. وقال: “لقد آمنت دائما بالمقاومة اللاعنفية. لكنهم يقولون إنني إرهابي على أية حال، وأنني مثل السنوار. يتحدث العالم عن القانون الدولي وعملية السلام، لكننا لا نحصل على أي شيء. لا شيء. فكيف يمكنني أن أؤمن بالقانون الدولي والمفاوضات؟ بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر/، دفعنا ثمنا، لكننا نشعر وكأننا أقرب إلى تحقيق هدفنا“.
كان من الصعب سماع هذا. في وقت لاحق، عندما تحدثت إلى أحد أكثر المثقفين ليبرالية في الضفة الغربية، محامي حقوق الإنسان رجا شحادة، قال إنه عندما سمع لأول مرة الأخبار التي تفيد بأن حماس اخترقت السياج في السابع من تشرين آلأول/أكتوبر/، كان رد فعله احتفاليا، نابعا من شعور بأن هذا كان عملا “مشروعا” للمقاومة. قال لي شحادة: “اعتقدت أن هذا سيوضح أخيرا لإسرائيل أن الحواجز والأسوار والحروب – حتى أكثر الحروب تعقيدا – لن تحمي إسرائيل“. ثم علم عن قسوة الساعات التي تلت ذلك – عمليات القتل والاختطاف والعنف الجنسي. قال: “هذا شيء لم يكن ينبغي أن يحدث. إنه عمل إجرامي“.
تعكس استطلاعات الرأي بعض الاستياء من حماس، وخاصة في غزة، حيث البؤس عميق للغاية. قال لي إبراهيم دلالشة، الاستراتيجي السياسي في رام الله، “لقد أمضى السنوار عشرين عاما أو أكثر في السجن، والتطرف الذي يحدث في السجن يمكن أن يسير في الاتجاهين. يمكن أن يسير على طريق نيلسون مانديلا، ويمكن أن يسير على طريق السنوار“.
كان غيث العمري، المستشار السابق للسلطة الفلسطينية الذي يعيش الآن في واشنطن، أكثر انتقادا. قال: “لا ينتهي الأمر بالكثير من الناس إلى قتل الناس بأيديهم. السنوار مجرم ومختل عقليا، شخص مستعد للقيام بشيء مثل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر/. انسَ قتل واختطاف الإسرائيليين للحظة. كان يعرف ما سيجلبه ذلك على شعبه. يجب أن تكون أعمى حتى لا ترى ذلك.
ولكن، استنادا إلى ما سمعته في رام الله، فإن هذا الموقف أصبح الآن موقف أقلية. وبينما كان عبد الله يتحدث مع أصدقائه، انحنى شاؤول نحوي وقال إن حتى الأشخاص في الضفة الغربية الذين لا يتعاطفون كثيرا مع حماس يعتقدون أن المذبحة والعواقب العالمية للهجوم الإسرائيلي على غزة ــ بعبارة سمعتها في كل مكان ــ “أعادت القضية الفلسطينية إلى الطاولة“.
أخبرتني نعومي نيومان، التي قادت وحدة الأبحاث في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) من العام 2017 إلى العام 2021، أن السنوار حقق نصرا سياسيا عظيما بإظهاره أن إسرائيل “يمكن أن تتعرض لضربة قوية” وتقويض الدعم الدولي لها.
ويقال إن مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز، قال في اجتماع مغلق: إنه على الرغم من أن السنوار يشعر بالقلق إزاء إلقاء اللوم عليه من قبل العديد من سكان غزة لإشعال فتيل الحرب ويواجه ضغوطا من قادة حماس الآخرين لقبول اتفاق وقف إطلاق النار، فإنه لا يشعر بالقلق إزاء تعرضه للقتل.
وقالت مصادر فلسطينية وإسرائيلية على حد سواء إن السنوار يرى نفسه على الأرجح اللاعب المنتصر في دراما تاريخية عظيمة. وكما قالت نيومان، “من وجهة نظره، فهو صلاح الدين المعاصر “.
في رام الله، كانت زيارتنا تقترب من نهايتها. قال عبد الله : “قد لا أؤيد حماس، لكنني أؤيد النضال. لا يمكننا الاستمرار في الخسارة “. لم يكن هناك قاع لغضبه الهادئ. ومثله كمثل جنرال جيش الدفاع الإسرائيلي في بئيري
، وجد إطاره المرجعي في الحرب العالمية الثانية. وقال إن الإسرائيليين لم يعودوا ضحايا هتلر: “يبدو أنهم يريدون الآن أن يكونوا هتلر. “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم؟” كل هذا كذبة كبيرة“.
عندما نهضنا للمغادرة، سألت عبدالله عما يعتقده بشأن السنوار.
قال: “السنوار موجود في كل منزل في فلسطين. إنه الفلسطيني الأكثر أهمية في العالم“. ♦
(مع تقرير إضافي من روث مارغاليت.)
نُشرت في النسخة المطبوعة من عدد 12 أغسطس/آب 2024، تحت عنوان “ملاحظات من تحت الأرض“.
ديفيد ريمينيك
صحفي وكاتب أمريكي.
وهو محرر مجلة نيويوركر
منذ عام 1998. حصل على
جائزة بوليتزر عام 1994 عن كتابه قبر لينين: آخر أيام الإمبراطورية السوفيتية ، وهو أيضا مؤلف كتاب القيامة وملك العالم: محمد علي وصعود بطل أمريكي . قبل انضمامه إلى النيويوركر ، كان مراسلا في موسكو لصحيفة واشنطن بوست . كما عمل في مجلس أمناء مكتبة نيويورك العامة.
عن نيويوركر
2024-08-10