#جيوسياسية/ الكونغو بين وَهْم الحماية وحقيقة الاستلاب.. حين يُعرض الليثيوم مقابل الأمن!
إدريس آيات
في لحظة يبدو فيها الزمان عالقًا بين استعمارٍ رحل ظاهريًا وبقي معنويًا، خرج الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي، الأسبوع المُنصرم؛ ليعلن من على شاشة “فوكس نيوز” الأمريكية؛ أن بلاده مستعدة للدخول في ما وصفه بشراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة تقوم على معادلة “المعادن مقابل الأمن”.
عرضَ من خلاله كنوز الكونغو من الليثيوم والكوبالت والذهب؛ التي تُقدّر بأكثر من 24 تريليون دولار، على المائدة الأميركية، مقابل أن تتكفل واشنطن بإخماد الجماعات المسلحة التي تعبث ببلاده – أو بالأحرى، التي فُتح لها الباب منذ أن اغتيلت السيادة في يوم اغتيال لومومبا.
ولم تنتظر أدوات الإمبراطورية كثيرًا. إذ سارعت شركة “KoBold Metals”، المدعومة من أثرياء التكنولوجيا بيل غيتس وجيف بيزوس، لتقديم عرضًا لتطوير أحد أكبر رواسب الليثيوم الصخري الصلب في العالم، تحت عنوان شراكة اقتصادية، لكنه في جوهره إعادة تدوير للاستعمار في ثوبه النيوليبرالي. حَمل العرض لافتة أنيقة عنوانها “التحول الأخضر”، وباطنها إعادة تدوير الهيمنة بمصطلحات بيئية. كأنّ ما يجري ليس إلا صورة حديثة للاستعمار، لا بالبارود هذه المرة، بل بالعقود والمصالح والشراكات الأحادية.
أعدّ نفسي من القلائل الذين أفنوا وقتهم في متابعة ملف الكونغو الديمقراطية بدقّة وعمق، لا من باب الفضول، بل لأنني أعرف تمامًا أن خلف هذا الملف عروقاً جيوسياسية تتصل بالعالم كله، وأنّ صُنّاع القرار من دبلوماسيين ووزراء خارجية ومخططين استراتيجيين، يتابعون ما يُكتب هناك، لا سيما في الفضاء المفتوح كـ “تويتر”، حيث نقلت موقفي بالعربية والإنجليزية، وبلغت بعض تغريداتي أرقامًا تجاوزت الثلاثين مليون مشاهدة.
وقد بدأت مؤخرًا بإدانة موقف الرئيس الرواندي بول كاغامي، بسبب دعمه المعلن لحركة M23، تحت تبرير أنها تمثل التوتسي، في مقابل اتهام الكونغو بدعم ميليشيات الهوتو الذين أقاموا المجزرة الرواندية. كنتُ في البداية أظن أن المعالجة تبدأ بإدانة هذا التدخل، لكن مع الوقت، ومع تعقّد الصورة على الأرض، باعتبار أنّ حركة M23 ليست جسمًا غريبًا، بل تعبيرًا عن أزمة داخلية عميقة، وأنّ الغالبية لا يدركون أن الحركة تضم أبناء التوتسي الكونغوليين الذين يعيشون على الأرض نفسها ويُعاملون كمواطنين من درجة أدنى، لأنّ أُصولهم يجب أنْ تكون من رواندا. ولهذا دعوتُ إلى حوار مباشر مع الحركة، لأنني كنت – وما زلت – أؤمن أن العدالة تبدأ حين يُعترف للناس بجغرافيتهم، وبهويتهم، وبحقّهم في أن يكونوا مرئيين.
ومن هنا دافعت في السابق عن فكرة الحوار مع حركة M23 -التي لا تنفك تهزم الجيش الكونغولي- انطلاقًا من إدراكٍ جيوسياسي بسيط: أنّها ليست ميليشيا انفصالية مزروعة كما يُراد لها أن تُقدَّم، بل هي صوت إثني داخل الدولة نفسها، ومظلة لحراك التوتسي الكونغوليين، شأنهم شأن كثير من الأقليات المهملة في العمق الإفريقي. لكن موقفي تغيّر، لا بسبب الحركة، بل لأنّ قمة الهرم في كينشاسا، عاصمة الكونغو؛ باتت تفتقر إلى أدنى فهم استراتيجي. فبدأت اكتفي بنقل معاناة الإنسان الكونغولي، دون أنْ أدعم سياسات الحكومة الكونغولية.
لأنّه في الوقت الذي كان يُفترض فيه أن تبني الدولة جيشها، وتستعيد قرارها السيادي بنفسها أو مع حلفاء جادّين، وتفتح حوارًا وطنيًا يُنهي الدائرة الجهنمية للصراع، لجأ تشيسيكيدي إلى مرتزقة من رومانيا، ثمّ إلى الأميركيين، لا ليدين الإرهاب ويُدان الدعم الرواندي للحركة، بل ليطلب منهم قمعه نيابة عنه. وكل ذلك، مقابل الثروات التي لا تُقدَّر بثمن.
وهنا لا أستطيع إلا أن أتساءل: كيف لرئيس دولة أن يجهل أن ذات اليد التي أشعلت النار لا يمكنها أن تكون ماءً لإطفائها؟ كيف لمن يطلب الحماية ممن صنعوا الانقسام أن يظن أن الخلاص سيأتي من الخارج؟ هذه ليست شراكة، بل تسليم طوعي لعصب الدولة الاقتصادية إلى شركة، وللأمن الوطني إلى سفارة.
ولأنّ الحرب شريان الإمبراطورية، كما كتب أحد كبار المفكرين، فإن الكونغو اليوم تتحول إلى ما يشبه الرئة التي تتنفس منها مصالح الرأسمالية المعولمة. وهنا، لا بد من التذكير، بما قاله المفكر العظيم أنتوني غرامشي: “كل أزمة تظهر عندما يرفض القديم أن يموت، ولا يستطيع الجديد أن يولد، وفي هذا الفراغ تظهر الوحوش”. والوحوش في الكونغو، ليست فقط في الأدغال، بل في المنصات الاستثمارية، وفي صمت النخب، وفي القبول الطوعي بالاستعمار إن جاء مرتديًا بدلة أنيقة.
نحن أمام نسخة حديثة من الإمبريالية التي باتت تُسمى اليوم بـ“النيو-إمبراطورية”، كما وصفها باقتدار تقرير الـFinancial Times الأخير، حيث لم تعد الدبابات تدخل العواصم، بل الاستثمارات تُغلف كالعقود الذكية، وتُمرر كحلول إنقاذية بينما هي تُعيد ترسيم الخرائط لصالح نخبة المال العالمي.
لقد بات واضحًا اليوم أن الاستعمار لا يعود من بوابة الحرب، بل من باب الحاجة، حين تفشل الدولة في بناء منظومتها الأمنية، وتحوّل أمنها إلى خدمة مدفوعة من الخارج، وتتنازل عن مواردها مقابل بقائها السياسي.
ولذا أقولها بلا تردد: لا يمكن أن تستقيم دولة، ما لم تستقم القيادة.
إن اختزال مشروع الدولة في صفقة مع شركات غربية، هو أفدح أشكال الفشل السياسي والاستراتيجي. فمن يبيع الليثيوم ليشتري الحماية، سيفقد الاثنين معًا. ومن لا يفهم من قتل لومومبا، سيمد يده من جديد ليصافح قاتله. لن تتحرر الكونغو؛ طالما من بيده القرار، لا يعرف كيف يُدار الوطن، ومن هم الحُلفاء الحقيقيين، والأعداء الأزليين.
2025-03-24