عبد الحكيم برنوص
وبدأت الكماشة تنطبق على ما تبقى من العرب، بعد مئة عام من أبشع تواطؤ عرفه التاريخ قديمه و معاصره، لم يحدث قط أن تواطأ خبثاء، من أشد البشر كراهية و عنصرية، تواطأ معهم في ذلك أشد الناس غباء وسذاجة، ليُنشئوا الكيان السرطان.
في هذه الأيام وفي هذا المنعطف الذي سيحكي عنه التاريخ ، يعيش العرب أروع البكائيات و المراثي في التاريخ، وأشدها إثارة للأحزان و الأشجان، المدن التي كانت عربية، تُعصر عصرا، ويُلقى بأهلها، خارج الجغرافيا و التاريخ، من يشاهد طوابير المطرودين الناجين، الذين يقاومون ويداوون، شعورا ذابحا بالألم، وآخر للفرح بالنجاة و البقاء على قيد الحياة، من ينظر إلى هؤلاء الأشهاد وهم يُركبون ويُدفعون دفعا تحت فوهات بنادق القادمة من كل مكان، يعلم أن المنطقة التي كانت عربية، و أن الناس الذين كانوا عربا، تحل بهم اليوم نائبة الدهر.
تحل بهم النائبة، لأن الغساسنة عادوا إلى لعبتهم القديمة، عادوا بالفيل، يريد أن يدك الأسوار، ويأتي بالأغيار، يستوطنون الديار. عاد الغساسنة الجدد بعد أن هرقوا الدموع الساخنة بين يدي القيصر، وبعد أن عرجوا على الإيوان، وأتوا بالنار المعبودة ، يصبونها فوق رؤوس الصبية والأيتام و الثكالى.
يأبى التاريخ، إلا أن يعاكس العرب، العرب مادة التاريخ ووقوده الملتهب، في كل بؤرة يموت عربي، و في كل جحفل للهجرة، يُساق عرب، و كلما قطرت دمعة فالعين عربية.
ارتوت الأرض من الدمع العربي والأشلاء العربية، و اختلطت الأرض العربية بالداخل والخارج، و ارتفعت الرايات و الألوية ، وامتدت الأيادي، و صيروها أرضا للأشقياء بعدما كانت مهبطا للوحي و الأنبياء.
لورانس العرب يظهر من جديد ويعد العرب بالمزيد، أعطوني ما تملكون، كلّ ما تملكون، تخْلُ لكم الأرض العربية .
إسرائيل و الروس و الأمريكان و الترك و الكرد و الفرس و أنصار الله و أحزاب لله و أخرى للشيطان…كل هؤلاء يدلون ليس بدلائهم، بل بخبثهم و عنصريتهم، فوق الأرض العربية، ولاعبيها العرب، الأرض العربية التي تعيش اليوم فصلا متجددا من الخديعة و المكر، و تمور بأحدث التعاويذ، وخرائط الطريق التي تملل عليهم إملالا و إملاء.
بالأمس كانت الأرض العربية أرضا حصانا تحوطها المفاوز الملتهبة، اليوم تداس بالأقدام و بتواطؤ من أهلها، يستصرخون الغريب، وكل و وجهة هو موليها.
بلاد العرب رمل وبارود و رماد متوهج، والأرض العربية ، أرض للديانة و الخيانة، وسيأتي المغول كرة ثانية، و سيغسلون أيديهم في حبر النهر.متى يكون للعرب يومهم الذي كان، و كلمتهم التي شتتتها الأماني و التسابق حول الأعتاب؟.
هل يمكن للتاريخ أن يغفر تردد “الزعماء” على البيت المصبوغ بالأبيض هناك والقصر ذو القبب الذهبية هناك ، في تناوب و استدعاء مستمرين، للتشاور و التآمر، يسترضونهم ليستبقوهم، ويشترون السلاح لينحر الأخ أخاه.
عندما يستقوي ابن الدار بالغريب، ويفتح الباب مصرعا أمام صائدي الجوائز و النفط، وعندما تمور الأرض العربية بالمكايد و الدسائس، ويُقامر بالوطن في المنتجعات. وتحول أرصدة الكادحين إلى حيث لا يعلم أحد، حينها سنصبح و سنظل سبة العالمين، ورمزا تاريخيا للعبث وللخواء و العقم. هي الحال التي تشرع قولنا، ونكبتنا المتجددة التي لا تنتهي، ومصيرنا المضرس بالأنياب و الديون و الخيانة وذهاب الريح، وقومتنا التي ضيعوها في الملفات السرية و صفقات الليل البهيم.
2018-03-23