الصكوك الخضراء والاقتصاد المستدام: نحو هندسة مالية لإعادة تشكيل الاقتصاد السوري في مرحلته الجديدة!
بقلم: د. ياسين العلي*
يشهد العالم تحوّلاً بنيوياً في أدوات التمويل الموجّهة للتنمية، نتيجة تزايد الضغوط المناخية، واتساع فجوة التمويل الأخضر، وارتفاع الطلب على آلياتٍ تمتلك من الانضباط والشفافية ما يضمن استدامة أثرها. وفي قلب هذا التحوّل تتقدّم الصكوك الخضراء بوصفها أداة قادرة على الجمع بين خصوصية التمويل الإسلامي ومتطلبات الاقتصاد الأخضر العالمي، وعلى خلق علاقة جديدة بين المستثمر، والدولة، والمشروع تضمن اتساق التمويل مع الأثر التنموي الحقيقي. وهذه الوظيفة بالذات تجعل الصكوك الخضراء ذات صلة مباشرة بالحالة السورية الراهنة، حيث لا تواجه البلاد تحدّي النمو بقدر ما تواجه تحدّي إعادة التأسيس الاقتصادي وصياغة نموذج جديد قادر على استيعاب متطلبات مرحلة ما بعد النزاع والتحوّل السياسي.
تتجاوز الصكوك الخضراء كونها سندًا تمويليًا موجَّهًا إلى مشاريع بيئية؛ فهي آليّة لإعادة تعريف الطريقة التي تُدار بها الموارد. إذ لا يمكن إصدار صكٍّ أخضر دون تحديدٍ دقيق للمشاريع، ودراساتٍ للأثر البيئي، ومعاييرَ للحوكمة، وتقاريرَ دورية تلتزم بها الدولة المصدِّرة أمام المستثمرين والأسواق. وبهذا المعنى، تتحوّل الصكوك الخضراء إلى أداة إلزامية للانضباط المالي، تفرض على الحكومات والهيئات المصدِّرة تحديث أنظمتها، وتعزيز شفافيتها، وإعادة بناء مصداقيتها أمام المستثمرين. وفي حالة سورية، التي فقدت ثقة الأسواق والمؤسسات الدولية على مدى سنوات طويلة، تصبح هذه الآلية ليست مجرّد أداة تمويل، بل وسيلة لإعادة صياغة علاقتها بالنظام المالي العالمي.
ومن زاويةٍ اقتصادية، تأتي أهمية الصكوك الخضراء في قدرتها على تمويل القطاعات التي تُعَدّ اليوم حجر الأساس لأي اقتصاد قابلٍ للحياة في المدى الطويل: الطاقة المتجددة، وإدارة المياه، والزراعة المستدامة، والبنية التحتية المرنة، ومعالجة النفايات. وهذه القطاعات ليست مجرد مشاريع تقنية، بل هي مشاريع بنيوية تحدِّد جودة النمو وكفاءته. وفي سورية، حيث تعرّضت شبكات الكهرباء والمياه والبنية الزراعية لتدميرٍ عميق، تبدو الصكوك الخضراء القناة الأنسب لتمويل إعادة البناء؛ لأنّها تربط التمويل بالمشروع نفسه لا بالخزينة، وتقلّل المخاطر على المستثمرين، وتضمن توجيه الأموال إلى مشاريع ذات أثر مباشر على حياة المواطنين.
وتتيح الصكوك الخضراء لسورية الجديدة فتح نوافذ تمويل لم تعد متاحة عبر القنوات التقليدية. فالتمويل الأخضر اليوم مدعوم من المؤسسات الدولية، والصناديق السيادية الخليجية، وصناديق المناخ العالمية، وهو تمويل يقوم على معايير أداء لا على اعتبارات سياسية. وهذا يعني أن سورية يمكنها — إذا تبنّت معايير الحوكمة اللازمة — أن تجذب رؤوس أموال ضخمة دون الدخول في انتدابات سياسية أو ترتيبات مرهقة. فالمجتمع الدولي لا يشترط في التمويل الأخضر سوى الامتثال للمعايير، ووجود نظمٍ لقياس الأثر، والالتزام بقواعد الإفصاح.
ويلتقي هذا المسار مع الحاجة الوطنية إلى إدارة تحوّل اقتصادي حقيقية، لا إلى معالجة مالية آنية. فالصكوك الخضراء لا تموّل المشروع فحسب، بل تفرض بناء آليّاتٍ مؤسسية: وحدات لإدارة المشاريع، ومراكز لقياس الأثر، وهياكل مالية وتشريعية، وإطار سياسات يحدِّد أولويات الاستثمار. وفي الحالة السورية، حيث تتطلّب المرحلة الانتقالية إعادة بناء مؤسسات الدولة، تصبح الصكوك الخضراء وسيلة لإجبار الدولة على تبنّي هياكل حوكمة جديدة، تتجاوز منطق “إدارة الأزمة” الذي طبع العقود السابقة.
ويمكن للصكوك الخضراء — إذا أُحسِن تصميمها — أن تنشئ تحالفات وطنية–خاصة–دولية حول مشاريع ذات أثر مجتمعي مباشر. فمشاريع الطاقة النظيفة، ومشاريع الزراعة العضوية التي تستعيد الدور الريادي لسورية في الأمن الغذائي، أو مشاريع إعادة تأهيل المياه في المناطق الريفية؛ جميعها مشاريع تمتلك ميزتين أساسيتين: أثراً بيئيًا واضحًا، وجدوى اقتصادية طويلة الأمد. وهذه المشاريع تضع سورية في موقع جديد: دولة لا تطلب تمويلاً إنقاذيًا، بل تقدّم مشاريع مستدامة يمكن أن تحقق عائدًا للمستثمرين المحليين والدوليين.
إن اعتماد سورية على الصكوك الخضراء هو أيضًا قرار استراتيجي يعيد تعريف الدور الاقتصادي للدولة. فالدولة التي تتحوّل إلى مصدر للصكوك الخضراء تصبح — بحكم الضرورة — دولة تتبنّى الاستدامة كجزء من هويتها، وتعمل على دمجها في قطاعات الطاقة والزراعة والصناعة، وتعيد صياغة علاقتها بالمواطن والشركات وفق منطق “القيمة”، لا منطق “التحكّم”. وهذا التحوّل ليس تفصيلاً تقنيًا، بل هو مكوّن أساسي في مشروع إعادة بناء سورية على أسس جديدة قادرة على الصمود أمام الأزمات المستقبلية، ومنفتحة على الاقتصاد العالمي، وقادرة على جذب رؤوس الأموال والمهارات.
في المحصلة، لا ينبغي النظر إلى الصكوك الخضراء كبديل مالي فحسب، بل كأداة لإعادة هيكلة الاقتصاد السوري من الداخل. فهي تربط التمويل بالحوكمة، والحوكمة بالاستدامة، والاستدامة برؤية وطنية جديدة للنهضة. وفي بلد يسعى للخروج من إرثٍ ثقيل من الفوضى الاقتصادية والتهالك المؤسسي، تصبح الصكوك الخضراء جزءًا من معمار الدولة الجديدة: دولة تستثمر في الطاقة النظيفة والزراعة المستدامة بدل المعالجات المؤقتة، وتبني ثقة الأسواق بدل الارتباط بالمساعدات، وتقدّم نموذجًا اقتصاديًا يعكس مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها وتجاه العالم.
وبذلك، يمكن القول إن الصكوك الخضراء تمثّل إحدى أكثر الأدوات ملاءمة لسورية في لحظتها الراهنة: أداة تمويل، وأداة تحوّل، وأداة لإعادة بناء الدولة في آنٍ واحد.
خبير تنموي واقتصادي
2025-12-09