الرهائن، الطحين، والخراب: قراءة في الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة!
خالد عطية
في لحظةٍ تاريخية تتقاطع فيها التحولات الجيوسياسية مع مشروع مستمر لإعادة صياغة فلسطين كـ”مسألة إنسانية”، لا كقضية تحرر وطني، تكشف إسرائيل عن استراتيجية لا تبتغي الحسم العسكري بل إدارة الخراب. لقد أصبحت الحرب على غزة، في عامها الثاني، مشروعًا مركبًا: ليست حربًا تقليدية، ولا عملية أمنية، بل هندسة شاملة لانهيار دائم تتحكم إسرائيل بكل تفاصيله.
لا يُدار الصراع الآن بآلة النار فقط، بل بالتجويع، وبالهدم، وبالإدارة الدولية المتواطئة، التي فصلت المساعدات عن أي أفق سياسي. لم تعد المعابر تُفتح للضغط من أجل صفقة، بل لتكريس واقع “البقاء مقابل الصمت”. وهنا تتجلّى الخطورة: نحن أمام نفي كامل لفكرة التفاوض، واستبدالها بمنظومة “إدارة كارثة”، تُبقي مليوني فلسطيني على حافة الحياة، بلا مستقبل، بلا كرامة، بلا شروط للعودة إلى ما كان، أو الخروج إلى ما يجب أن يكون.
الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة تقوم على فصل مركزي: أن لا ترتبط المساعدات بأي تنازلات سياسية. أن يقتصر دور المجتمع الدولي على تمرير الطحين والماء والدواء، دون أن يُطرح أي سؤال جوهري حول السيادة، أو رفع الحصار. يتم تكييف المجتمع الفلسطيني في غزة على حياة معلقة، وسط دمار مديد، لا يسمح بنشوء مقاومة، ولا بظهور نظام بديل، بل فقط إدارة أزمة قابلة للاستمرار.
وفي هذا السياق، لا تُشكّل مشاهد الإنزال الجوي للمساعدات، التي تتعمّد إسرائيل تنفيذها في الليل، إلا جزءًا من بروباغندا “الإنسانية المصطنعة”، تمامًا كما فشلت سابقًا محاولات فرض “مؤسسة غزة الإنسانية” كبديل للأنروا والمنظمات الدولية المعروفة. لكن هذا الشكل المبتذل من التزييف الأخلاقي لم يعد ينجح: شعوب العالم بدأت تُدرك طبيعة هذه الأعمال ، ولم تعد تنطلي عليها الأكاذيب المصورة بصناديق الإغاثة، في وقت تُدفن فيه العائلات تحت الركام.
في الداخل الإسرائيلي، لا تُستخدم قضية الرهائن كأداة لحل تفاوضي، بل كذريعة لاستمرار العدوان. الحكومة الإسرائيلية، في ظل الضغط اليميني، وجدت في الرهائن وسيلة لإفشال أي اتفاق قد يُظهر حماس كطرف قادر على الإنجاز. من هنا، ظهرت التصريحات المبطّنة التي تلوّح بـ”التضحية الجزئية” بالأسرى، بهدف نزع الشرعية عن أي صفقة قد تحمل للفلسطينيين شيئًا من المكاسب الرمزية.
الفلسطينيون، في المقابل، يواجهون هذه المنظومة من موقع هشّ ومنقسم. السلطة في رام الله تبدو غائبة أو مغيبة، تفتقر إلى الشرعية الشعبية والرؤية السياسية، ولا تملك أدوات الفعل أو الضغط. أما فصائل المقاومة، فتواجه حصارًا سياسيًا وأمنيًا مزدوجًا، ولا تملك هامشًا كبيرًا للمناورة. الأخطر من ذلك أن غياب الرؤية الاستراتيجية لدى هذه الفصائل، وانحصار خطابها بين “الصمود” و”الصبر”، لا يوازي حجم التحدي المفروض، ولا يقدّم تصورًا يواجه مشروع التفكيك الجاري لغزة كوحدة سياسية–اجتماعية.
لكن خلف هذا المشهد السياسي، هناك مجتمع بشري بأكمله يُخنق: مليونا فلسطيني يُعاقَبون بالجملة. الحديث المتكرر عن “الصمود” بات قاسيًا ومجردًا في وجه الكارثة. من يعيش تحت الركام، في طوابير الطحين، بلا ماء، بلا كهرباء، بلا مأوى، لا يحتاج شعارات؛ يحتاج كرامة، وأفقًا، ومؤسسة تُدير شؤون نجاته. الكرامة تُداس علنًا. الجوع لم يعد عرضًا بل أداة حكم. والإبادة لم تعد فعلًا طارئًا بل منظومة ممنهجة تُدار بالتعاون الدولي وبصمت عربي رسمي مريع.
هذا الواقع يدفع نحو نتيجة بالغة الخطورة: التهجير القسري بصيغته غير المُعلنة. عندما تصبح غزة غير قابلة للعيش، وعندما يُقدَّم الخروج منها كخلاص فردي، تبدأ إسرائيل بقطف ثمار مشروعها: “تخفيف” الكثافة السكانية، وتفكيك الهوية الجماعية، وإفراغ الجغرافيا من إرادتها السياسية.
وليس من المبالغة القول إن المشروع القائم لا يواجه حتى اللحظة برد بحجم خطورته. فالمقاومة، رغم صلابتها الميدانية، لا تزال حبيسة الأدوات العسكرية دون أن تطرح رؤية سياسية قادرة على مجابهة التفكيك الممنهج. أما السلطة، فقد تآكلت قدرتها التعبوية وتراجعت إلى موقع المتفرّج. في المقابل، يُهمل دائمًا ما يمكن أن يشكل بديلاً حيويًا: المجتمع المدني في غزة، بما يملكه من شبكات اجتماعية ونقابية وشبابية، قادر على التحول إلى فاعل اشتباك جماعي، يطالب بأفق جديد ويستعيد الناس كمصدر للشرعية، لا ككُتل بشرية محاصرة أو مجرد أرقام في نشرات الأمم المتحدة.
على المستوى الدولي، لا يجوز الاكتفاء بلوم الصمت. بل يجب تفكيك هذا الصمت وتعرية التواطؤ القانوني والسياسي. ليست المحكمة الجنائية الدولية أداة عدالة حقيقية، لكنها ميدان يمكن تحويله إلى منصة اشتباك لكشف النظام الدولي كجزء من ماكينة القتل، لا كوسيط محايد. لا ينبغي التعويل عليها، لكن لا يجب تركها فارغة.
أخيرًا، لا حلول جاهزة. لكن الانكشاف الكامل لهذا المشروع يتطلب ردًا متعدّد الطبقات: سياسيًا عبر بلورة رؤية فلسطينية جديدة لا تخضع للابتزاز، وشعبيًا عبر إعادة بناء البنى المجتمعية ، وإعلاميًا عبر خطاب لا يطلب التعاطف بل يكشف البنية الحاكمة للخراب.
الاحتلال لم يعد مجرد قوة عسكرية، بل منظومة تحكم الناس بالجوع، وتدير وجودهم من خلال الشاحنات لا من خلال مؤسسات. الرد على ذلك لا يكون فقط بالبقاء، بل بفضح هذا المنطق أمام العالم، وبإعادة بناء الإرادة الفلسطينية التي ترفض أن تُحوَّل إلى مجرد حالة إنسانية قابلة للإدارة.
2025-07-31