أزمة ثقة تلوح في سماء عمّان وفاتورة الكهرباء رأس جبل الجليد..
صفقة القرن واتفاقية الغاز ارتداداتها جانبية وكلمة السر “حروب الأنابيب الثلاثة”!
سعد الفاعور* إجراءات ترطيبية عديدة تتخذها حكومة الدكتور عمر الرزاز، في مساعٍ متلاحقةٍ ومتسارعةٍ لامتصاص النقمة الشعبية المتصاعدة وردم فجوة عدم الثقة التي تلوح في سماء العاصمة الأردنية عمّان بشكل متصاعد لا يمكن التنبؤ بتبعاتها ما بين دافعي الضرائب من جهة والنخب الحاكمة من جهة أخرى. في الأردن، تبدو فاتورة الكهرباء رأس جبل الجليد الذي يبرز إلى السطح ويمكن رؤيته بالعين المجردة، لا سيما بعدما ألقت في الأيام الأخيرة بثقلها على كاهل المواطن المثقل أصلاً بأوجاع كلف الحياة المتزايدة وضريبة المبيعات والضريبة المضافة وغلاء المعيشة وتآكل القيمة الشرائية للعملة المحلية. قراءات عدادات الكهرباء التي جاءت أضعافاً مضاعفة فاجأت “دافعي الضرائب” في الأردن مطلع الشهر الجاري، واستوقفت مجلس النواب الذي شرع في تشكيل لجنة للبحث فيما راج شعبياً بأنه شبهة فساد تتمثل بمنح امتياز قراءة عدادات كهرباء المشتركين إلى شركة يملكها لبناني مقرها في بيروت. المفارقة أن شركة المستثمر اللبناني التي لا يعرف كيف حصلت على هذا الامتياز، بالتلزيم أم من خلال مناقصة مفتوحة ومعلنة، تحقق ربحاً سنوياً بمقدار 12 مليون دولار، في حين أن رأسمال تأسيسها لا يزيد عن 200 دولار! ردة فعل وزيرة الطاقة، هالة زواتي، الساخرة على النقمة الشعبية، وتبريرها الارتفاع المبالغ به لفواتير الكهرباء بـ “اعتياد الأردنيين على كبسة الزر” بحسب ما ورد على لسانها في تصريحات صحفية متداولة محلياً، فاقمت من حدة نقمة الأردنيين الذين لم يستفيقوا حتى اللحظة من هول صدمة تمرير اتفاقية استيراد الغاز من الكيان الصهيوني. المعضلة الحقيقية التي يمكن للمتابع والمراقب المتخصص بالساحة الأردنية أن يلحظها هي أن العقل الجمعي لم يعد يرى أبعد من وطأة “فاتورة الكهرباء” ولم يعد يحس بأكثر من ثقل الضرائب التي يدفعها مكرهاً عند شرائه عقاراً أو إعادة شحن خطه الهاتفي أو حتى شراء علبة لبن لإطفاء جوع أطفاله. الفقير المعدم، لا يمكنه إذاً أن يكون وطنياً أو قومياً. يمكنه أن يكون عضواً مرهفاً في تيار “الأنسنة” يتألم لعواء قطة في البرد أو يتألم لمشاهدته كلباً ضالاً في أي زقاق خلفي من شوارع عمان القديمة، يتألم لمشاهدته طفلاً يسير في برد عمّان بحذاء ممزق. لكنه لا يستطيع أن يشغل وقته بترف الدفاع عن القضايا الوطنية أو قضايا العروبة والأمة والقومية وأمعاؤه خاوية وأطفاله جوعى. إنَّ مقارنة بسيطة باستخدام أبسط أدوات قياس الرأي العام تظهر البون الشاسع في حجم النقمة الشعبية تجاه قيمة فواتير الكهرباء، وحجم السخط الجماهيري تجاه صفقة الغاز الإسرائيلي، أو صفقة القرن، أو اعتبار القدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني. للأسف، كفة الغضب من ارتفاع قيمة فواتير الكهرباء ترجح في مقابل غيرها من القضايا الأخرى الوطنية والقومية! يبدو أن مراكز الفكر وصناعة السياسات الإستراتيجية الأميركية خلصت إلى تلك النتيجة منذ أمدٍ بعيد، فأجادت إدارة الهجمة ضد شعوب العالم الثالث بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص، وجعلت رأس الحربة في انفاذ المخطط هو سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين، كما يكشف كتاب القاتل الاقتصادي لمؤلفه جون بيركنز الصادر في عام 2004. بعد نجاح مخطط فصم الوعي بالخطر الإستراتيجي الخارجي الذي يستهدف العربي عن وعيه الفردي المحصور بقضايا وهموم المعيشة اليومية، بات من الممكن تشكيل كتلة بشرية جديدة في المشرق العربي، لا تكترث بقضايا الديمقراطية الوطنية وخطاب التحرر ومجابهة العدو الصهيوني، بقدر ما تؤمن بديمقراطية الصندوق والتعايش والتكامل والتطبيع ومد جسور الثقة والإخاء بين شعوب المنطقة. إنه مخطط التعايش مع الاحتلال الإسرائيلي واعتباره جاراً يجب توفير كل عوامل الطمأنينة له لنساعده على الخروج من خلف أسوار القلعة وتشجيعه على لعب دور قيادي بالاستثمار اقتصادياً في أسواق المنطقة العربية بل وحتى الإسلامية وصولاً إلى ماليزيا وأندونيسيا! العنوان المضلل لهذه الخطة هو “الأنسنة” العابرة للحدود، والحريات الفردية المقدسة التي لا يجب التجاوز عليها حتى لو كانت تستخدم وأتباعها كحصان طروادة من قبل السفارات الأجنبية، لخلق جيوب داخلية يسهل تطويعها كقطع البازل وكرات معجون لعب الأطفال! عوداً إلى تفاقم فجوة أزمة الثقة في عمّان، وبعد محاولة ربط المشهد الأردني بمحيطه العربي والإقليمي، فيمكن القول إن هنالك بواعث داخلية ومحركات إقليمية ودولية عديدة راكمت من أسباب تفاقم الأزمة ما بين الشعبي والرسمي، لكنّ ما يلحظه المراقب هو أن إجراءات تبريد النقمة الشعبية باتت تستعصي على العطار، وأن الفجوة آخذة في الاتساع. البواعث الداخلية لتفاقم الفجوة يلخصها خبير هندسي وعقاري بارز على مستوى الأردن والعالم العربي، بوزن المهندس عبدالله غوشه، عضو نقابة المهندسين الأردنيين، ورئيس هيئة المكاتب الهندسية الأردنية، ونائب رئيس هيئة المؤسسات الاستشارية العربية، الذي كشف في حديث صحفي سابق أجريته معه “أن كل دينار ينفق في قطاع العقارات الأردنية يذهب 45% منه ضرائب للخزينة”. وعلى صعيد الأثر السلبي للضرائب التي تفرضها الحكومة على المواطن، كشف أيضا الخبير الاقتصادي محمد البشير في حديث صحفي سابق أجريته معه أن “الحكومة تفرض على قطاع الاتصالات ضريبة بنسبة 62% من قيمة أي فاتورة يدفعها المواطن عند شراء أي من منتجات شركات الاتصالات”. نفس الأمر يتكرر بحسب البشير في قطاع المشتقات النفطية “حيث تبلغ نسبة ضريبة المبيعات التي تفرضها الحكومة على أي فاتورة محروقات 57% من القيمة الكلية لأي فاتورة شراء”. الخبير الاقتصادي سامي شريم، قال خلال مقابلة سابقة أجريتها معه إنه ضمن معادلة المقاصة التي تتم ما بين الحكومة ومالك المصنع وتاجر الجملة وتاجر التجزئة، فإن المستهلك النهائي (المواطن) يدفع مالا يقل عن 22% ضريبة مضافة على السلعة المنتجة وطنياً، مثل علبة اللبن أو الحليب. الرسمي هنا لا يختلف عن الشعبي في شيء، فهو أي الرسمي يسعى لترطيب وتبريد أزمة بواعثها خارجية -كما هو يعلم ذلك تماماً- عبر إجراءات داخلية، يطلق عليها ما يسمى حزم التحفيز الاقتصادي. وللأسف فإن قوانين الفيزياء وقواعد علوم الرياضيات وفقاً لآراء عديد من خبراء الاقتصاد تناقض إجراءات رجل البنك الدولي، الوزير الأول في الحكومة، الدكتور عمر الرزاز. أردنياً ورغم التسليم بغياب الوعي الجمعي لدى رجل الشارع بأن التضييق الاقتصادي الواقع عليه ناجم عن ارتدادات لجملة عوامل وسياسات إقليمية ودولية أكثر من كون باعثها محلي أو قطري مرتبط بسياسات حكومة الرزاز أو غيره من رؤساء الحكومات السابقين، إلا أن هذا لا يجب أن يحول بيننا وبين توضيح هذه المؤثرات الإقليمية والدولية، التي بدأت نتائجها تتزاحم على شكل صفقة الغاز وصفقة القرن وضم أراضي غور الأردن وقبلها طبعاً الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني إلى جانب اعتبار الجولان السوري المحتل أراضٍ إسرائيلية! فاتورة الكهرباء، هي جزءٌ بسيط من معضلة كلفة فاتورة الطاقة الباهظة التي تستحوذ على ما يزيد عن 40% من موازنة الدولة الأردنية. الحديث عن كلفة الطاقة، يتجاوز بأشواط بعيدة كلفة إنارة منازل الأردنيين، إلى الحديث عن ديمومة تشغيل المصانع والمستشفيات وإنارة الشوارع والجامعات وإبقاء الوحدات الأمنية والعسكرية على أهبة الجاهزية. كل ذلك بالاعتماد على مصفاة بترول وحيدة وشبه متآكلة، ما يزيد عن 90% من مدخلاتها من النفط مستورد من الخارج. وفي عين الوقت هي تواجه منافسة شرسة بفعل سياسات الخصخصة التي أوجدت منافسين من القطاع الخاص. ظاهرياً ألقت معضلة الغاز بثقلها على فاتورة الطاقة الأردنية منذ عام 2011، مع بدء عمليات التفجير التي كانت تستهدف خطوط أنابيب الغاز التي كانت تزود الكيان الصهيوني والأردن بالغاز المصري. وفي ظل فشل الدولة المصرية آنذاك في الوفاء بالتزاماتها وحتى عام 2019، سعى الأردن إلى الحصول على مصادر بديلة للغاز المصري، ورغم ارتباط الأردن بعلاقات وطيدة مع الجار الجنوبي السعودي، لم يحدث أن تحركت الرياض لتأمين حاجة الأردن من النفط، لا عبر شحنات إمداد عاجلة عن طريق البر، ولا عبر البحث في إعادة إحياء خط (التابلاين) المعطل بموجب قرار سياسي سعودي. الرياض كانت قد أوقفت وبموافقة أميركية تدفق النفط السعودي إلى الأردن عبر خط (التابلاين) مطلع تسعينيات القرن الماضي عقاباً للأردن الشعبي والرسمي على موقفه من تأييد العراق خلال غزوه واحتلاله دولة الكويت، مما زاد من ثقل وعبء كلفة فاتورة الطاقة على كاهل موازنة الدولة الأردنية. الأردن سعى منذ 2015 إلى الاستعانة بالجار الشرقي، عبر توقيع اتفاقيات ثنائية مع الحكومة العراقية، وأعلن عن مشروع عملاق لمد خط أنابيب لتصدير النفط العراقي المستخرج من حقول البصرة جنوبي العراق عبر ميناء العقبة الأردني، وهو المشروع الذي يبدو أنه قد لا يرى النور، في ظل ما كشفته مصادر رفيعة تحدثت إليها بأن المشروع يعترضه تحفظات أردنية عليا على دور إيراني مدمج ضمن المشروع من قبل الجانب العراقي، وهو ما ترفضه الجهات الأردنية، تحت ضغط الجارة السعودية من جهة، والحليف الأميركي من جهة أخرى! الاخفاق الأردني في إدارة ملف الطاقة، متعدد الجوانب، والانتقادات عديدة ولا يمكن حصرها، لكن أبرزها، هو الكشف قبل عدة أيام قلائل عبر برنامج إذاعي محلي عن استئجار شركة الكهرباء الوطنية سفينة عائمة لتخزين الغاز الطبيعي قيمة استئجارها على مدار 5 سنوات بلغت 275 مليون دولار، في حين أن قيمة الباخرة تبلغ 250 مليون دولار، وذلك في إطار اتفاقية مدتها عشرة سنوات وقعتها الكهرباء الوطنية مع شركة غولار النرويجية المالكة للباخرة! الخبير الاقتصادي هاشم عقل، انتقد وبشدة في تصريحات بثت الثلاثاء الماضي عبر أثير إذاعة محلية أردنية، ما أسماه اخفاق المفاوض الحكومي في إدارة ملف الطاقة، وتسببه بتكبيد الخزينة خسائر ضخمة. وبحسب عقل فإن الغاز المصري توقف عن الأردن في عام 2011 ولم يتم إعادة ضخه إلا في عام 2019، كما أن الاتفاقية التي أبرمها المفاوض الأردني مع الجانب المصري لم تتضمن أي شرط جزائي في حال عجز المورد المصري عن الوفاء بالتزاماته للجانب الأردني، وهذا كبد الخزينة الأردنية خسائر فادحة، في حين أن مصر دفعت مبلغ 500 مليون دولار للجانب الإسرائيلي تعويضاً عن توقف ضخ الغاز! إيران تقدمت بعرض سخي إلى الجانب الأردني، يشمل تزويد الأردنيين بحاجتهم من الطاقة (النفط والغاز) لمدة ثلاثين عاماً بالمجان، مقابل السماح للإيرانيين بتنظيم زيارات دينية إلى مراقد آل البيت في ضريح معركة مؤتة، وهو ما قوبل بثورة رفض شديدة قادتها أقطاب إسلامية يمينية أردنية بالتوافق مع أقطاب سياسية تكترث كثيراً لآفاق العلاقة مع الرياض ذات الآيديولوجية الوهابية المعادية تاريخياً للمد الشيعي. النتيجة خسارة رجل الشارع الأردني صفقة مربحة كانت ستدر له النفط والغاز مجاناً وربما أيضاً إحياء وتطوير الإقليم الجنوبي المهمش والفقير عبر بناء الفنادق والمطارات وتشييد الشوارع والاستراحات السياحية المتكاملة وتحقيق عائد مالي كبير من السياحة الدينية التي كان يتوقع أن تجذب نحو مليوني زائر وسائح سنوياً إلى الأردن! في ظل المشهد القائم، يصح القول إن الأردني اليوم بات يرزح تحت حصار اقتصادي خانق غير معلن يستهدف التضييق على معيشته بما يؤدي إلى اخضاعه وإجباره على رفع الراية البيضاء ليسلم ويقبل بالسياسات التي ترسم في دوائر صنع القرار الدولية والتي تستهدف القطر والإقليم على حدٍّ سواء. إنه التركيع الاقتصادي بنكهات وألوان مختلفة. فالمنطقة كانت وما زالت على شفا مشروع شامل وممتد من تونس إلى سورية لإعادة رسم خريطتها، عرابه برنارد ليفي، تلميذ برنارد لويس، عنوانه العريض، غض الطرف عن الأنظمة الأوتوقراطية الحليفة لواشنطن، واستبدال الأنظمة الوطنية الشمولية أو (الدكتاتورية) بحسب الوصف الأميركي، بأنظمة ديمقراطية، تتحدث عن حرية المثليين وحقوق المرأة والطفل ولا تتحدث نهائياً عن مقاومة العدو الإسرائيلي أو رفض وصاية البنك والصندوق الدوليين على اقتصاديات دول المنطقة! المشروع يطمح إذاً إلى تخليق أنظمة غير وطنية، يتساوى فيها تحت عنوان “الأنسنة” والحقوق المتساوية الوطني بالعميل، فتصبح الحكومة الديمقراطية الحاكمة وفق الرؤية الأميركية مزيجاً من إسلاميين وليبراليين وعلمانيين ويساريين سابقين (يسار الوسط أو اليسار الأميركي)، ولا وزر أيضاً من وجود بعض الوزراء الذين يمثلون الرؤية الإسرائيلية والأميركية داخل هذه التركيبة! يمكننا أن نلحظ أمثلة على هذه الحكومات الديمقراطية المباركة ولادتها أميركياً، والتي تبقي عالمنا العربي في أضعف حالاته وأكثرها هشاشة وبلقنة وصوملة، فضلاً عن تحولها إلى دول فاشلة بكل المقاييس، في لبنان والعراق وليبيا واليمن. اللبنانيون ما زالوا حتى اليوم يعانون من المحاصصة التي ولدها اتفاق الطائف الذي يكرس الانقسام الأفقي والعامودي بين شرائح الشعب على أسس طائفية. وفي عراق ما بعد الاحتلال الأميركي، يبرز دستور بول بريمر، الذي لم يتمكن العراقيون حتى اللحظة من تجاوز تبعاته، بل نجد الطائفة تتكرس بشكل أعمق في ظل تدخل أميركي صارخ للدفع بقوة معينة إلى واجهة المشهد رغم عدم امتلاكها أي ثقل شعبي أو تمثيلي حزبي وبرلماني. وفي ليبيا الجديدة العاجزة عن ولوج عتبة السلم الأهلي وتجاوز حروب القبائل، يتكرر المشهد ذاته، ونرى الديمقراطية التي تباركها أميركا عاجزة عن حقن دماء الليبيين! الأردن بكل الأحوال، لم يكن من الدول المستهدفة، لكن المعضلة الكبرى التي واجهت مراكز التغيير، هي احتواء الأردن على أكبر كتلة بشرية لللاجئين الفلسطينين الذين لا بدّ من احتوائهم أردنياً عبر تذويب هويتهم وقطع الحبل السري الذي يربطهم بوطنهم، والحد من المخاوف الإسرائيلية الرافضة قطعياً لعودة اللاجئين. بالتأكيد ليس هناك أفضل من التركيع الاقتصادي على مستوى النظام والشعب لإنجاز المهمة، وبعد ذلك كل شيء هينٌ ويسير. إذاً، الحديث عن كلفة فاتورة الطاقة يقودنا إلى الحديث عن (حروب الأنابيب الثلاثة)، أنابيب الطاقة (النفط والغاز) وأنابيب المياه، وأنابيب تكنولوجيا المعلومات والكيبلات البحرية للإنترنت وحزم البيانات وسحب تخزين البيانات في الفضاء! إبان غزو العراق واحتلاله في عام 2003، طفت على السطح للمرة الأولى وبصورة علنية، قصة حروب أنابيب الطاقة (النفط والغاز)، التي كانت منذ سبعينيات القرن الماضي، أبرز ما يدور في دوائر العصف الذهني ومراكز الفكر وصناعة القرار الإستراتيجي المغلقة داخل الولايات المتحدة وفي عواصم الناتو، لتتحول بعد ذلك خلاصات تلك التوصيات السرية بعد احتلال العراق إلى قصص مملة يتم تكرارها بلا وعي خلال سهرات العشاء التي يتداولها رجل الشارع العربي في جلساته الرتيبة لقتل الوقت وهو متحلق حول طاولة لعب الورق وتدخين الأرجيلة، ليكتمل بصمت مخطط التركيع الاقتصادي! مع بدء المؤامرة على سورية في عام 2011، بدأت التسريبات بتجاوز الحديث عن حروب أنابيب الطاقة (النفط والغاز) التي ساحتها الخليج وسورية وشرق المتوسط (سواحل تركيا وسورية ولبنان وفلسطين المحتلة ومصر وصولاً إلى اليونان) إلى الحديث عن حروب (أنابيب المياه) وحروب تكنولوجيا المعلومات (أنابيب الانترنت) أو ما يعرف باسم (Three Pipes War)! العرب ظاهرياً لا يمتلكون إلا آبار النفط في أراضيهم، بينما سيادتهم الفعلية على هذه الآبار تساوي صفراً، وهم يجاهرون بأن الحفاظ على أمن إمدادات الطاقة قضية تتجاوز سيادتهم الوطنية، وأن أمن الطاقة قضية دولية، والاعتداء على آبار النفط ومصافي التكرير هو اعتداء على أمن الطاقة العالمي، الرد عليه -وفق المنظور العربي- يكون دولياً. أي أن أمن النفط قضية خارج حدود سيادة الأنظمة العربية التي نكاد نشك بأن يكون لها سيادة على أي شيء آخر غير الإنسان العربي الذي يمكن اقتياده ببساطة إلى أي مخفر شرطة دون حتى مذكرة ضبط قضائية! على مسارٍ موازٍ، لحروب أنابيب الطاقة، تسرب الحديث أيضاً عن حروب أنابيب المياه، وتم الكشف عن خطط تركية وأخرى إسرائيلية تسعى للاستئثار بمصادر المياه الجوفية ومنابع الأنهار ليصار بعد ذلك إلى مد شبكات مياه مشتركة عبر أنابيب تحت البحر من تركيا إلى إسرائيل، ومن ثم إعادة تصدير هذه المياه وبيعها تماماً مثل براميل النفط! أردنياً، لم يلحظ المراقب أي اكتراث على مستوى القاعدة الشعبية لهذه الخطط، رغم بوادر النذر المبكرة التي شهدها الأردنيون في حقبة زمنية مبكرة منذ العشرية الأولى من القرن الحالي، بتصفية شركة المياه الوطنية وتحويلها إلى مجموعة شركات خاصة تناوب على الاستثمار فيها مشغلون أجانب، والنتيجة خروج قطاع استراتيجي حيوي من تحت عباءة أصول الدولة ليصبح ملكية خاصة! خطر المياه الاستراتيجي أردنياً، لا يقف عند هذا الحد، فالمعلومات التي باح بها الخبير المائي والوزير الأسبق حازم الناصر في برنامج تلفزيوني محلي مساء الثلاثاء الماضي، لا يمكن القفز عنها أو المرور عليها مرور الكرام. الرجل قال بالفم الملآن: “إسرائيل تخطط لبيع المياه للفلسطينيين والأردنيين ولكل من يحتاجها بعد سيطرتها الكاملة على مصادرها”. إذاً، يمكننا أن نستخلص من كلام الوزير أننا بانتظار أن نشهد سيطرة إسرائيلية مطلقة على منابع ومصادر المياه، سواء بالسلم أو بالحرب، أو بالابتزاز والضغوطات الأميركية المنحازة بالمطلق للإسرائيلي! الناصر -الذي للأسف اعتبر بعض خصومه والمحسوبين على حكومة الرزاز أن تصريحاته تندرج في إطار المناكفة والحرد السياسي بعد خروجه من الخدمة ولإعادة جذب الأضواء إلى شخصه- استهجن الغاء الرئيس الرزاز “سلطة المياه” خاصة أنها بحسب الناصر “محل ثقة المانحين ولم يسجل عبر تاريخها على القياديين والعاملين فيها شبهة فساد”. من المهم الإشارة هنا إلى أن سلطة المياه تمثل أحد أهم أذرعة وزارة المياه التي تشرف على، وتنفذ العديد من، السياسات المائية الاستراتيجية على صعيد الزراعة والحصاد المائي المطري وتخزين السدود وإدارة قناة الملك عبدالله الرديف الموازي لمسار نهر الأردن منذ تأسيس المملكة. بحسب الوزير الأسبق الناصر، فإن: “حكومة الرئيس الرزاز تتناسى أن الأردن الأفقر مائياً على مستوى العالم، ورغم ذلك فهي تتعامل مع ملف المياه الاستراتيجي بحدود تأمين كأس مياه الشرب”. الأخطاء الاستراتيجية على صعيد السياسات المائية في الأردن، ومن بينها تخصيص القطاع في العشرية الأولى من القرن الحالي، ومن ثم إلغاء حكومة الرزاز سلطة المياه، يمكن النظر إليها من وجهة النظر التحليلة والاستراتيجية على أنها خطوة حكومية مضافة إلى قائمة الارتهان للطروحات الدولية التي تمليها الجهات المانحة عبر بوابة الصندوق والبنك الدوليين. إنه ارتهان يتلخص في الخنوع لإملاءات ومسار حقبة حكم الشركات العابرة للقارات وإلغاء حقبة حكومات السيادة الوطنية، أي إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والديمغرافيا البشرية بواقع جديد لا يمت لتعريفات العلوم السياسية والقانون الدولي بصلة، أي الخروج من عباءة المواثيق الدولية والعيش تحت مظلة وقوانين القاتل الاقتصادي. ماذا إذاً عن حروب أنابيب الانترنت وتكنولوجيا المعلومات؟ إنه ليس من باب المبالغة القول إن من يملك المعلومات يملك القدرة على تحقيق التفوق في كل الساحات. وأن الاستئثار بمنصة المعلومات هو عنوان المرحلة. الوضع أردنياً ليس بأحسن مما هو عليه الحال عربياً، وكما الحال بالنسبة للسيادة على قطاع النفط عربياً تساوي صفراً، فإنه للأسف أيضاً أن التحكم بحزم المعلومات التقنية والإلكترونية، أي كل المعلومات (العسكرية والامنية والاستخبارية وحتى الاتصالات المشفرة وأرشيف المواليد والأحوال المدنية وسجلات المحاكم وقضايا الطلاق) باتت كلها في أيدي الجهات الخارجية، وللأسف الشديد إسرائيل من بين تلك الأطراف الخارجية! نتذكر جميعاً مصطلح “حرب الفضاء” الذي أنهى في ثمانينيات القرن الماضي، عصر الحرب الباردة، بحيث باتت القوى الدولية تتسابق نحو امتلاك القدرة على اجهاض قدرات الخصم من خلال ترسانة هجومية ودفاعية (جو-فضائية) كان عنوانها الأقمار الصناعية المخصصة للأغراض العسكرية وحرب الصواريخ بداية ومن ثم الأقمار الصناعية المخصصة للاتصالات العسكرية والمدنية والتي بات من الصعب جداً الفصل بينها. انتقل الصراع على امتلاك تكنولوجيا الاتصال والانترنت والمعلومات من ساحة الفضاء الخارجي إلى الأرض وما تحت البحار (Information Pipes War)، وبشكل جلي وصريح تكشفت خيوط هذه الحرب في شرق المتوسط مع بدء المؤامرة على سورية عام 2011، عندما اتضح أن سورية أرضاً ومياهاً إقليمية هي جزء من حرب شبه عالمية يجري خوضها براً وبحراً وجواً لإعادة توزيع حصص السيطرة بين الخصوم الدوليين في مجال تكنولوجيا المعلومات وليس فقط في مجال الطاقة والماء. في هذا المجال، بينما الصين تمتلك محركاتها البحثية التقنية وشبكتها العنكبوتية الخاصة التي من شبه المستحيل اختراقها، وكذلك الروس، نجد الأميركيين وحلفائهم البريطانيين والفرنسيين وبقية أعضاء منظومة (الناتو) والدول التابعة مثل تركيا ومجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن واسرائيل يشتركون في منظومة عنكبوتية وفضاء إلكتروني موحد، تحت سيطرة أميركية وشراكة إسرائيلية. مزودو الخدمة في العالم العربي وفي تركيا، أميركيون وإسرائيليون، وللأسف أيضاً الجهات التي تستضيف البيانات وتحافظ على أمنها وسريتها المفترضة، سواء عبر سيرفرات فيزيائية حقيقية وملموسة، داخل أبراج وأبنية مخصصة لهذه الغاية، أو عبر سحب التخزين الفضائي، وحتى عبر بوابات المطارات العربية، هي في الغالب إسرائيلية أو أميركية. لا يغيب عن سردية المشهد هنا، حرب الجيل الخامس التي تخوضها إدارة البيت الأبيض ضد العملاق الصيني (هواوي) التي تواجه صعوبة كبيرة في توريد خدمة الجيل الخامس من شبكات التقنية الإلكترونية إلى الأسواق الأميركية والأوروبية وحتى الإسرائيلية تحت تلويح البيت الأبيض بفرض عقوبات على أي طرف يتعاقد مع الصينيين للاستفادة من خدمات شبكات الجيل الخامس للإنترنت التي حققت فيها (هواوي) سبقاً على الشركات الأميركية والأوروبية. آخر المواجهات في إطار حرب الجيل الخامس، التي كشفت عنها وسائل إعلام أميركية قبل أسبوع، هي إقفال الرئيس الأميركي دونالد ترمب الخط في وجه نظيره رئيس وزراء بريطانيا بسبب خلاف بينهما بشأن رغبة بريطانيا الاستفادة من التقنية الصينية مقابل فرض مستويات رقابة صارمة تحول دون تسرب البيانات والمعلومات إلى الصينيين، وهو مالم يرق للرئيس الأميركي الذي هدد لندن وباريس وبرلين بوقف تبادل المعلومات الاستخبارية العليا والحساسة مع العواصم الثلاث إن مضت في تقاربها التقني مع الصين! وفي مشهد غير بعيد عن ذلك، نستذكر كيف هددت واشنطن حليفتها المدللة إسرائيل في منتصف العام الماضي، عندما كشفت (تل ابيب) عن رغبتها في تنصيب شبكة الجيل الخامس الصينية للنهوض بقطاع تقنية المعلومات الإسرائيلي وجعله مواكباً لأحدث التطورات، ولكي تظل إسرائيل متفوقة على محيطها تقنياً، وهو ما اعتبرته واشنطن مساً بأمنها القومي لا يمكن غض الطرف عنه. الولايات المتحدة أبلغت الحكومة الإسرائيلية آنذاك أن أمن القطع البحرية الأميركية وحاملات الطائرات والمدمرات والغواصات التي ترسوا قبالة وفي موانئ فلسطين المحتلة ستكون تحت الخطر الداهم وأن المعلومات العسكرية والاستخبارية التي تتبادلها البحرية الأميركية مع الإسرائيليين ستتسرب إلى الصينيين، وهو ما منع (تل ابيب) من المضي في توقيع الاتفاق مع الجانب الصيني! إذا كان الحال كذلك وبهذا المستوى من الحساسية فيما يخص عواصم كبرى ودول تمتلك الناصية والخلفية التكنولوجية التي تتجاوز إمكانياتها القدرات العربية بآلاف الأشواط، فلنا أن نتخيل حجم الاختراق الذي يلحق بنا وبأسرارنا وبأرشيف الأنظمة الرسمية العربية الرسمية وببياناتها الرسمية المدنية والعسكرية والأمنية التي يجري تخزينها وإدارتها واسترجاعها عبر مزودي خدمة أميركيين وإسرائيليين! إن أزمة الثقة المتفاقمة التي تلوح في سماء عمان وإنْ كان رأس جبل الجليد الظاهر منها يتمحور حول النقمة الشعبية من الكلف الباهظة لفواتير الكهرباء والضرائب وكلف المعيشة المتزايدة، إلا أن قاعدة الجبل أكبر من ذلك بكثير، و”حروب الأنابيب الثلاثة” ربما لا تكون هي قاعدة الجبل بل ربما نصف الجبل الذي لا نراه بالعين المجردة، في حين أن الرسمي في الأردن لا يملك إلا النظر إلى النصف الممتلئ من كأس صفقة القرن أو رؤية السلام الأميركية! * سعد الفاعور، كاتب وصحفي وباحث في القضايا السياسية والدينية – من الأردن. 2020-02-23