عندما يُهاجم اليسار نفسه!
كاوه باوري
بدَّدت الاتهامات الأخيرة التي وجّهها «فلاديمير» ضد «فلاديمير» آخر، أوهام كثيرين ممَّن يعدُّون أنفسهم يساريين، والذين حاولوا أن يجدوا في ملامح الأول بعض أوجه الشبه مع الثاني: الأوَّل هو بوتين، والثاني هو لينين.
لكنَّ لينين لا يحتاج إلى اتهامات بوتين – أو غيره – ليكون مكروهاً من قِبل عدد كبير من الأشخاص في أوساط اليسار. قالت لي رفيقة أخيراً، بسخرية لاذعة، إنّه لو سألها أحد عن العقيدة التي تشبه الدِّين ويتقاسمها أكبر عدد من اليساريين في العالم المعاصر، لكان الجواب الصحيح هو: «معاداة اللينينية».
ومع ذلك، فإنَّ اليسار، من حيث المبدأ، لا يعارض الاحتفال بالرموز الثورية التاريخية. فغرامشي، على سبيل المثال، كان ضحية نموذجية لفاشية موسوليني؛ وروزا لوكسمبورغ استشهدت على يد «الفيلق الحُرّ» (Freikorps)؛ أمَّا تروتسكي، فقد كان من بين ضحايا الستالينية الكُثر. واليوم، هناك «الجمعية الدولية لغرامشي»، و«مؤسسة روزا لوكسمبورغ» التي لها فروع في مختلف أنحاء العالم. أضف إلى ذلك العدد الكبير من التنظيمات التروتسكية الدولية.
وماذا عن لينين؟ مستحيل، فلا مجال لذلك! أكاد أسمع صراخ «الأصدقاء» المحتجّين. تخيل فقط وجود مقر لمؤسسة فلاديمير إيليتش لينين في مكان ما، مثل برلين. كم تبلغ نسبة الآلاف الذين يتجمَّعون كل كانون الثاني/يناير لإحياء ذكرى استشهاد روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت ممَّن قد يحضرون فعالية مشابهة مكرّسة لإحياء ذكرى فلاديمير إيليتش؟
لكن ما الذي يُفسّر هذا النفور كلّه؟ دعونا نستعرض بإيجاز بعضاً من الردود الشائعة:
يُقال إنَّ لينين لم يتبع ماركس حقاً. لم يكن تلميذاً وفيّاً له، وذلك لأسباب من بينها أنَّ ماركس اعتبر أنّ الحركة الجماهيرية للطبقة العاملة هي شرط لا غنى عنه لأيّ ثورة، بينما استبدلها لينين بوصفته الخاصة: «حزب الطليعة». وبهذا، لم يفعل سوى أن صادر الشعبية والمكانة اللتين كانت تحظى بهما السوفياتات، وقام ببساطة بحلّ الجمعية التأسيسية للعمّال، بما يخدمُ أهداف ثورته المزعومة في أكتوبر. وبفعله هذا، قاد لينين – بأسلوب ماكيافيلي – ما يمكن وصفه بشكل أدق بتمرّد أو انقلاب عسكري بلشفي، لا بثورة. ومن المعروف أنّ الانقلابات العسكرية لا تترك مجالاً للديموقراطية. لذا، وفقاً لهذا الفهم، فالديموقراطية التي كانت قائمة في السوفياتات قد فُقِدت بعد ذلك.
وفي السياق ذاته، يُقال أيضاً إنَّ ما فعله لينين ألقى بظلاله على ثورتين ديموقراطيتين «أصيلتين»: واحدة سبقت أكتوبر، وهي الثورة المكسيكية التي بدأت عام 1910، والأخرى جاءت بعده، وهي الثورة الإسبانية عام 1936. وهكذا، تعلّمنا من لينين والبلاشفة كيف لا نخوض الثورات وما يجب تجنّبه.
هناك أمرٌ مؤكَّد: إنَّ تقليد أيّ زعيم أو مفكّر من الماضي، بهدف مواجهة الآخرين، لن يقودنا إلى أي مكان. بل على العكس، يُبرهن ذلك مرَّة أخرى مدى عجزنا الراهن عن إحداث تأثير حقيقي في الوضع القائم
وما الحل؟ المزيد من الاعتماد على الطبقة العاملة، المزيد من الديموقراطية، مع القليل من المركزية.
يُقال إنَّ لينين كان مفرطاً في الوفاء لماركس، فحاول أن يطبّق أقواله بحرفيتها. ثمّ فشل في تجاوز العقبات المتأصّلة في منظور ماركس نفسه. قارن ذلك مثلاً مع تروتسكي. قام الأخير في كتابه «تاريخ الثورة الروسية» بنقد ماركس في مواضيع عدّة، على عكس لينين الذي لم يفعل ذلك قطّ. لقد كان مجرّد تلميذ متشبّث بالأرثوذكسية إلى حدٍّ كبير.
وأين يكمن الحل من أجل معالجة ذلك؟ تبنّي قراءة أكثر شجاعة ونقدية لماركس، ودمج مقاربات مفكرين آخرين غير ماركسيين – مثل برودون أو سيسموندي.
يُقال كذلك إنَّ لينين لم يكن فيلسوفاً بالمعنى الكامل للكلمة. إحدى الإشكاليات الكبرى في فكره هي تبنّيه الخطأ لنظرية الانعكاس، حيث يغفل عن أنَّ «الكون ككل» لا يمكن إدراكه، وإن وُجد، فلا يمكن أن يُرصد إلا من خارج هذا العالم. دفاتره الفلسفية غامضة، وكتابه المُعنون بـ «المادية والمذهب النقدي التجريبي» ضعيف، إن لم يكن رديئاً. ولهذا، كان مثل نابليون يتّبع الشعار القائل: «ادخل في معركة كبرى أولاً، ثُمَّ انظر ما سيحدث لاحقاً».
وكيف كان يمكنه أن يتصرّف؟ هل كان ينبغي له أن يكون أكثر حذراً وتدبّراً، وبالتالي أكثر نقداً لماركس. لعلّه كان سيغيّر مقولة ماركس الشهيرة: «لم يقم الفلاسفة سوى بتفسير العالم بطرق مختلفة، لكنَّ المهم هو تغييره» إلى شيء من قبيل: «لقد فسَّر الفلاسفة العالم بطرق مختلفة، لذا علينا أن نتأمّل فيه بعمق قبل محاولة تغييره». باختصار، كان ينبغي أن يكون لينين أكثر عُمقاً فلسفياً.
ثُمَّ يُقال: إنَّ لينين لم يكن ثورياً أصيلاً على الإطلاق. لقد تأثَّر بشدَّة بكاوتسكي وإنغلز أكثر من ماركس، وكان في الواقع إصلاحياً – بل ومُراجعاً (Révisionniste) – لا ثوريّاً. وما فعله لم يكن سوى إعادة إنتاج لرأسمالية الدولة. عودته إلى روسيا – المُموّلة من لدن الإمبراطور الألماني – قطعت الطريق على مسار ثوري حقيقي كان يمكن للأحداث أن تسلكه. وسياسة «النيب» (السياسة الاقتصادية الجديدة) التي انتهجها كانت تجسِّدُ ميولهُ الإصلاحية.
وأين يَكمن الحل؟ كان عليه أن يبقى في سويسرا؛ وإذا أصرَّ على العودة والتدخّل في مسار الثورة، فعليه أن يتبنّى موقفاً أكثر ثورية وأقل تسلطاً في التعامل مع خصومه. وهَلُمّ جرّا… باختصار، كان على لينين أن يكون لينيناً آخر بالكامل. ويمكن تخصيص فصل، بل كتاب كامل، لكل واحدة من هذه «الأطروحات». لكنَّ الخلاصة المنطقية المشتركة بينها تبقى واضحة ويجب ألا تُنسى: يجب الابتعاد عن لينين واللينينية كما يُتجنّبُ الطاعون، وبأي ثمن!
ومن المفارقات الجديرة بالتأمل أنَّ غرامشي، روزا لوكسمبورغ، وتروتسكي، جميعهم ضحايا، وجميعهم فشلوا في تحقيق مشاريعهم (إن كنتَ بحاجة إلى مرجع في هذا الشأن، اقرأ كتاب لوسيان غولدمان «من أجل مقاربة ماركسية لدراسات الماركسية»).
لعلّ هذا هو أصل النفور الحالي، إذ استطاع لينين – ولو لمدة وجيزة – أن يُنفّذ جزئياً ما كان يراه صواباً. وهذا ما لا يمكن قوله عن الشخصيات الثلاث الأخرى التي يُشاد بها اليوم بدرجات متفاوتة من قبل اليسار المعاصر.
هناك أمرٌ مؤكَّد: إنَّ تقليد أيّ زعيم أو مفكّر من الماضي، بهدف مواجهة الآخرين، لن يقودنا إلى أي مكان. بل على العكس، يُبرهن ذلك مرَّة أخرى مدى عجزنا الراهن عن إحداث تأثير حقيقي في الوضع القائم. ربما يكون النهج الأكثر جدوى هو أن نسأل كيف رأى كلٌّ من هؤلاء الرفاق، وغيرهم، ما كان مفقوداً في كل حالة من حالات «التحليل الملموس للواقع الملموس».
قبل نحو ستين عاماً، دعانا لوسيان غولدمان إلى الانخراط في مثل هذا النوع من البحث. وربما قد حان الوقت أخيراً لنلبّي تلك الدعوة. وإلّا، فمع وجود «أصدقاء» كهؤلاء من اليسار، لا يحتاج لينين إلى أعداء – حتى بعد مرور مئة عام على وفاته.
* كاتب إيراني
2025-07-03