ذاكرة لا تهدأ ومرافئ الروح الأولى: ذاكرة جيل لا ذاكرة رجل!
بقلم: البرفيسور يوسف الموسوي
ليست ذاكرة لا تهدأ ولا مرافئ الروح الأولى مجرّد سردٍ لسيرة ذاتية أو استرجاعًا لوقائع شخصية فحسب، بل هما وثيقتان نابضتان تكتبان، بمداد الوجدان والمعاناة، سيرة جيلٍ عراقي كامل؛ جيل تهشّمت أحلامه تحت سنابك الاستبداد، ثم حاول أن يلملم شتاته في المنافي وتخوم الغربة. إنّ البروفيسور وليد الحيالي، حين يبوح، لا يتحدّث عن نفسه فحسب، بل يُطلق العنان لذاكرة جمعية ظلت لعقود مكمّمة ومقصية عن الحضور.
في ذاكرة لا تهدأ، تتقدّم الذاكرة ككائن حيّ، متمرد، لا يرضخ للطمس ولا يخضع للنسيان. تمرّ فصول الكتاب كأنها مقاطع من نشيد جريح، لكنها لا تستجدي العطف، بل تستدعي التأمل والمساءلة. من محلة “عزات طويلات” إلى مكاتب الأمن والتحقيق، إلى دروب المنفى، يشتبك الحيالي مع صور الوطن المنقسم على ذاته، ويغزل منها مشهدًا إنسانيًا مضمّخًا بالفجيعة، لكنه لا يخلو من نبض الأمل.
أما مرافئ الروح الأولى، فهو ليس امتدادًا زمنيًا فحسب، بل هو عمقٌ وجدانيٌ يُعيد تشكيل البدايات بوصفها ملامح لجوهر الإنسان قبل أن تفتك به السياسة ويتقاذفه القدر. هنا، لا يعود الوطن مجرد جغرافيا، بل يصبح طقسًا، وعطرًا، وخبزًا ساخنًا في يد الأم، وضوءًا شاحبًا في زقاق طفولي لم ينسَ أسماء جيرانه ولا صوت المؤذن عند الفجر. إنه سفرٌ داخلي، لا يهمه الخلاص بقدر ما يسعى للفهم: لماذا حدث كلّ ما حدث؟ وكيف تحوّل الفتى الموهوب إلى شاهد على خراب لا يتوقف؟
ينجح البروفيسور الحيالي، عبر كلا النصين، في أن يجعل من الخاص شأنًا عامًا. فهو لا يكتب عن وليد بوصفه بطلاً أو شهيدًا، بل بوصفه واحدًا من كثيرين مزّقتهم السياسة، وداهمتهم المخابرات، وحاصرتهم القطيعة. بلغة شعرية محكمة، وبتوثيق غير فجّ، تتداخل الذكريات مع التاريخ، وتتحول الحكايات إلى مرآة لمحنة العراق الحديث، من انقلاباته العسكرية إلى تغوّل أجهزته الأمنية، إلى اختلال بوصلته في مشروع الدولة.
وهنا تتجلى فرادة الكتابين: إنهما لا يرويان ما كان فقط، بل يفتشان في طبقات الزمن عن المعنى، ويقترحان علينا، نحن قرّاءهما، أن نعيد التفكير في ذاكرتنا الوطنية، لا بوصفها فخًا للبكائيات، بل بوصفها أداة للنجاة من التكرار.
ختامًا، فإنّ ذاكرة لا تهدأ ومرافئ الروح الأولى هما بمثابة وصيتين روحيّتين لجيل لن يعود، ولكنه ما زال حيًا في الذاكرة. لا يملكان رفاهية الحياد، لأنهما يشهدان على الحقيقة من عين القلب. إنهما ليسا ترفًا أدبيًا، بل ضرورة أخلاقية في زمن تزداد فيه الحاجة لتوثيق الإنسان قبل أن تبتلعه الأرقام.
2025-07-01