الطوفان: من النهوض الرمزي إلى خطر التآكل؟
قراءة في التحول الرمزي والاستعماري بعد 7 أكتوبر
تحليل استراتيجي حتى يوليو 2025
خالد عطيه
في السابع من أكتوبر 2023، لم تكن عملية “طوفان الأقصى” مجرّد هجوم عسكري خاطف، بل لحظة زلزالية كسرت مركز الثقل الرمزي الذي راكمته إسرائيل على مدى سبعة عقود. كانت العملية بمثابة صدمة وجودية للمشروع الصهيوني، وهزّة فكرية وأخلاقية للعالم بأسره، لكنّها أيضًا فتحت على الفلسطينيين أبوابًا من الدم والخذلان والتعرية، تُعاد فيها صياغة النكبة بأدوات حديثة، على وقع سُعار إبادي غير مسبوق.
لم تكن المفاجأة فقط في ما أنجزه المقاتلون على الأرض، بل في ما كشفته ردود الفعل: عن هشاشة ردع إسرائيل، وسقوط قناع القيم الغربية، وعمق العزلة التي تعيشها القضية الفلسطينية في النظام الإقليمي الرسمي، وافتقار الفعل المقاوم نفسه إلى مشروع سياسي يحمي من استنزاف الانتصار.
سقطت أسطورة “الأمن المطلق” التي قامت عليها إسرائيل، لكنّ الانكشاف المقابل كان أشدّ وقعًا: أن الفلسطيني، رغم صلابته، يقف في مواجهة عالم لا يكترث بالعدالة ما لم تخدم مصالحه.
لقد صعد الفلسطيني فجأة إلى واجهة التاريخ، لكن دون أن يحمل معه سردية جامعة، أو ظهيرًا إقليميًا، أو مؤسسة قادرة على إدارة تداعيات لحظة بهذا الحجم. والنتيجة: تحوّل الحدث من إنجاز رمزي كبير إلى مأزق استراتيجي مفتوح على احتمالات التآكل أو التوظيف المعاكس.
ما بعد 7 أكتوبر، لا يمكن اختزاله في “ردّة الفعل الإسرائيلية”، بل يكشف عن استمرار منهجي لطبيعة المشروع الصهيوني ذاته؛ مشروع لم يكن يومًا استعمارًا قابلًا للتفاوض، بل استعمارًا إحلاليًا إباديًا، يبدأ من دير ياسين ولا يتوقف عند غزة. ما نراه اليوم ليس انحرافًا عن المسار، بل ذروة نسقية له، تُعلن فيها إسرائيل صراحة أن “الحل” يكمن في المحو، والتقويض، وإنهاء الشتات، وتصفية الذاكرة .
لقد تجاوزت إسرائيل منطق الردع، واعتنقت منطق الإبادة.
بحلول يوليو 2025، سجّلت وزارة الصحة في غزة، بالتعاون مع منظمات أممية، استشهاد أكثر من 57,000 فلسطيني، أغلبيتهم من النساء والأطفال، منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر 2023، فيما تُشير تقديرات أكاديمية مستقلة (مثل دراسة نشرتها مجلة The Lancet ومراجعات لجامعة لندن) إلى أن العدد الحقيقي للضحايا قد يتجاوز 80,000 وقد يصل إلى 109,000، نظرًا لحجم الدمار وتدهور البنية الصحية ووجود آلاف الجثث العالقة تحت الأنقاض. هذا إلى جانب أكثر من 600 حالة قتل موثقة عند نقاط توزيع المساعدات الإنسانية، حيث تحوّلت طوابير الانتظار للحصول على الخبز أو المياه إلى ساحات قتل جماعي، حسب تقارير منظمة OCHA ووكالات كـ AP وReuters. كذلك، تؤكد بيانات الأمم المتحدة وفاة ما لا يقل عن 66 طفلًا جوعًا بسبب الحصار، فيما يواجه ربع مليون فلسطيني في غزة ظروف مجاعة كارثية. البنية التحتية الصحية شبه منهارة، مع تدمير نحو 85% من المستشفيات والمنشآت الطبية، وتحوّل مستشفى ناصر إلى “جناح طوارئ مفتوح” دائم، في ظل نقص فادح في المعدات والأدوية والكوادر. وفي الضفة الغربية، تجاوز عدد المعتقلين الفلسطينيين 12,000 شخص منذ بدء الحرب، في سياق متصاعد من الاجتياحات، والاغتيالات، ومحو الأفق السياسي. هذه الأرقام ليست مجرد معطيات إحصائية، بل توثيق حي لسياسة إبادة متواصلة تُدار بغطاء دولي صامت، وبأدوات عسكرية وتجويعية متزامنة، في لحظة تُعيد فيها إسرائيل تعريف الردع بوصفه استئصالًا، والمساعدات بوصفها مصيدة قتل جماعي.
لكن غزة لم تكن وحدها في عين العاصفة. ما يجري هو مشروع نكبة متجددة، تستهدف الضفة الغربية عبر الاجتياحات والاغتيالات اليومية ورفع وتيرة الاستيطان والتهويد، وتستهدف اللاجئ في الشتات عبر التجفيف المتسارع لوكالة الأونروا وتصفية المخيمات سياسيًا وإداريًا، كما تستهدف الوجود الفلسطيني في القدس عبر إحلال سكاني صامت يتمدد دون مقاومة تُذكر من النظام العربي.
النكبة لم تعد حدثًا من الماضي، بل آلية اشتغال حاضرة، تمتد ببطء ومنهجية إلى الشتات: مخيمات تُجفَّف إداريًا، أطفال يولدون بلا أوراق أو حق في الإقامة، لاجئون تُعرض عليهم الجنسية مقابل نفي التاريخ، وبيروقراطيات دولية تعيد تعريف الفلسطيني كـ”عبء إنساني” لا كحالة تحرر. إنه محو ناعم، لا بالرصاص فقط، بل بالتشريع والتجويع والتهجين الرمزي.
وما يزيد من فداحة المشهد أن السلطة الفلسطينية، بمؤسساتها المهترئة وبنيتها المنهارة شرعيًا، لم تعد تمثل إلا فراغًا وظيفيًا تُملؤه قوات الاحتلال متى شاءت، أو تل أبيب السياسية متى قررت منح التسهيلات أو سحبها. وفي موازاة ذلك، لم تنجح أي قوة مقاومة، رغم بسالتها، في ترجمة اللحظة إلى مكسب استراتيجي دائم، بسبب غياب القيادة الجامعة، وغياب الرؤية التحررية الشاملة، والانفصال المزمن بين السلاح والمشروع السياسي.
أما في الفضاء الدولي، فقد تكشّفت أزمة القيم الليبرالية في الغرب، لا كأزمة خطاب، بل كأزمة بنيوية. ففي أعرق الجامعات والمؤسسات الفكرية والإعلامية، خضع كل من تضامن مع غزة للملاحقة أو الفصل أو الإسكات القسري. وبينما كانت عيون العالم تتابع حفلات قطع التمويل والطرد الأكاديمي، سقط وهم الحياد الليبرالي، وانكشفت المنظومة الغربية بوصفها متورطة عضوياً في تأمين الغطاء الأخلاقي للاستعمار، حتى ولو بأقنعة القانون.
هذه ليست مجرد انكشافات نظرية، بل مؤشرات على أن المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على معنى فلسطين، ومكانتها في الوعي العالمي، ووظيفة الحركات التحررية ذاتها في زمن يُعاد فيه تعريف الضحية وفقًا للونها وعرقها وموقعها الجيوسياسي.
ولم تكن التحولات الرمزية التي فجّرها الطوفان بمعزل عن السياق العربي الرسمي، حيث برز التناقض الصارخ بين الشارع المنتفض من الرباط حتى كيب تاون، وبين أنظمة لم تُوقف مسار التطبيع بل عزّزته بخطابات باردة تدّعي “الواقعية السياسية”. لم يُفشل الطوفان مشروع التطبيع، لكنه نزع عنه آخر أقنعته الأخلاقية، وكشف هشاشته بوصفه شراكة مع القاتل لا مع السلام. لقد أُجبرت أنظمة على خنق شعوبها حتى لا تهتف لغزة، وكُشفت عواصم ما تزال تفاخر بشراكتها الأمنية مع تل أبيب في لحظة تُقصف فيها المدارس والمستشفيات.
التحوّل الرمزي الكبير الذي صنعته عملية الطوفان، حين كسرت صورة إسرائيل التي لا تُقهر، لم يتحول إلى نصر سياسي، لأنه لم يُصنَع على أرضية مشروع تحرري شامل. بل ظلّ مُعلّقًا، وبدأ يتآكل مع عجز الفصائل عن فرض شروطها، وتفكك الشارع العربي تحت وطأة القمع أو التخدير الإعلامي، ودخول إسرائيل في مرحلة “إعادة تموضع هجومي” لتفرض شروط ما بعد الحرب كأنها لم تتلقّ ضربة.
ما تحقق يوم 7 أكتوبر يُشبه البرق في ليلة حالكة: لحظة نور مكثف كشفت كل شيء، لكنها سرعان ما تبعتها عتمة كثيفة حاول الجميع إخفاءها أو إطفاء أثرها.
ورغم كل هذا، فإن “الطوفان” أثبت أن المشروع الصهيوني ليس محصّنًا، وأنه يمكن زلزلة الوعي العالمي بلحظة واحدة إن توفّرت الجرأة، لكنّه أثبت أيضًا أن الجرأة وحدها لا تصنع التغيير، ما لم تقترن برؤية، ومؤسسة، وتحالف، وخيال سياسي قادر على المراكمة لا التفريغ.
الطوفان لن يُكتب في التاريخ كانتصار نهائي، ولا هزيمة. بل كلحظة مفصلية كشفت هشاشة الجميع: هشاشة العدو حين يُضرب، وهشاشة المقاومة حين تُترك وحيدة، وهشاشة النظام الدولي حين يُطلب منه العدالة.
والمسألة اليوم لم تعد: “ماذا حققنا؟” بل “كيف نمنع أن يتحول ما حققناه إلى نكسة؟”
قد لا تملك غزة جيشًا نظاميًا، ولا المقاومة ظهرًا سياسيًا حقيقيًا، لكنها تملك ما لا تملكه إسرائيل: تاريخ لا يُمكن شطبه، وحقّ لا يمكن قتله، وشعب بات العالم يعرف أنه لم يعد مجرد ضحية… بل فاعلٌ يعرف إلى أين يوجّه صرخته.
إن لم يُترجم هذا الوعي إلى مشروع تحرري جذري يعيد تعريف فلسطين لا كملف، بل كجذر لكل معركة ضد الاستعمار في هذا العالم المختل، فإن الطوفان، بكل رمزيته، سيظل لحظة عظيمة… على حافة النسيان.
2025-07-05