حتمية الثورة لا تعني رخصة للاستلقاء وعدم الفعل، هي ككل الحتميات التاريخية فكرة تجسر الهوة بين الإرادة والوعي في مراحل عدم اليقين. الانتصار على العصا التي أسندت النبي سليمان عليه السلام، وأخفت موته، لم يكن ممكناً دون فعل “يظهر الحقيقة التي تحرر الأسرى” وهي إعلان تحقق حتمية الموت. وحتمية الثورة هي من اجل تعزيز إرادة الاختيار، واكتشاف ممكنات الفعل الواعي الذي يحرر وينهي عصراً ويبدأ عصراً جديداً.
التعريف البسيط للثورة هو استعمال القوة لإزالة عائق يمنع التطور الطبيعي للمجتمعات، فهي عملية فتح بوابة “مصدية” ومستعصية كانت تعيق التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وهي بحكم تصورها وتعريفها خصيصة من خصائص المنظومات ولا تحصل إلا داخل بنية أصبحت عاجزة وفي حكم الميتة، فالكثير من التغييرات تحصل في مرحلة التحضير للثورة، وليس بشكل متزامن او لاحق لها. فأولويات التغيير بعد التخلص من البوابة الصدئة تفرض نفسها بشكل طبيعي، لأنها أنجزت في مرحلة التقدم نحو حتمية التغيير، وأهم خصيصة تتسم بها لحظة الثورة، هي أن الاولويات تأخذ وزنها الطبيعي من الطلب الاجتماعي عليها، الذي تشكل عبر سنوات العد التنازلي للثورة دون قسر أو تعسف.
وأما محنة الوعي في البحث عن دوره وفاعليته في لحظات انبثاق الثورات، ليس التبشير بها على طريقة العرافيين، فقد طور الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر مفهوم (ِCreative Destruction) وهو ما يمكن ترجمته بالتدمير الخلاق، وهي أداة فكرية تحليلية تساعد على معرفة القوى الدافعة للتغيير وفهمها، وبناء توقع علمي بمدى اقتراب التغيير الحتمي، واشتقاق المهام الضرورية لجعل هذا التغيير ميلاد عهد جديد. كما أن الشعر قدم توصيفاً لمهمة الوعي في التفاعل مع حتمية الثورة، فيصف لحظتها الشاعر ماثيو أرنولد بأنه تيه بين عالمين، “واحد ميت وآخر عاجز عن أن يولد”، فتصبح مهمة الوعي هي المساهمة بترحيل الميت ودفنه بما يليق به (أو ربما سحله بالشوارع)، والمساعدة على توليد القادم الجديد والاستعداد لإكرام وفادته دون تعسف ودون تعال على حقائق الحياة.
حتمية الثورة؛ هي الفكرة الضرورية للتصدي لفكرة أن الخضوع للمستبد الفاسد قدر أبدي لا فكاك منه، و(حتمية الثورة) ليست فعلاً ثورياً واعياً وليست بديلاً لهذا الفعل. إذ أن انتشارها والتبشير بها لن يقرب الثورة ولن يجعل ميلاد المستقبل أقل إيلاماً، إذ أن (حتمية الثورة) حكمة ضرورية وتعبوية للتحرر من الخضوع وبدء الانخراط بالفعل الثوري الواعي، الذي يستعد لتهيئة الظروف للتخلص من البوابات الصدئة، وفتح الطريق نحو المستقبل بعد التخلص من المستبد الفاسد.
تحويل حتمية الثورة إلى رافعة للتغير وليس مبرر للكسل وعدم الاستعداد لها، يتحقق بالفعل الثوري. صحيح أن التمسك بحتمية الثورة ضرورة تعبوية معنوية، إلا أن مساعدة كل من الماضي والمستقبل على تحقيق أقداره (بالموت والميلاد) هي مهمة الفعل الثوري الواعي.
ولنتذكر أن الفعل الثوري ليس في تكرار قتل الماضي الذي مات وانقضى، بل هو في اسقاط البوابات أولاً، وفي استقدام المستقبل الجديد. وهذا المستقبل ليس له وجود -وسيبقى عاجزاً عن أن يولد- وعاجزاً عن الوصول، إن لم يتم رسم ملامحه الآن. فالمستقبل ما بعد المستبد الفاسد يجب رسم ملامحه الآن. وتشكيل ملامح المستقبل الجديد من أحلامنا الآن، هو الإعلان التنفيذي لتحقق حتمية موت المستبد الفاسد، وسقوط كل البوابات الصدئة التي منعت وصول المستقبل.
وحتى نتخلص من حالة التيه بين عالمين (واحد ميت) لا نستطيع التحرر منه واسقاطه، وآخر (عاجز عن أن يولد)، يجب أن نساعد (في ميلاده) وأن نكسيه من أحلامنا وتصوراتنا لمستقبلنا لرسم ملامحه التي سيولد بها. فالقادم الجديد لن يولد إلا بالصور التي نمنحها له من أفكارنا وأحلامنا عن المستقبل.
استرداد الدولة سلطة وموارد، لن يتحقق إلا برسم احلامنا للقطاعات المختلفة في الدولة. حلمنا في كيفية تنظيم البحث العلمي في المستقبل. وأحلامنا في المدرسة التي تليق بأبنائنا واحفادنا، وحلمنا بالقضاء الذي يجعلنا في المستقبل ننام هانئين تحت مظلة عدالة تعطر احلامنا وتحمينا من الكوابيس، احلامنا بملامح جامعاتنا الجديدة حتى ستصبح سلالم نحو التقدم والارتقاء، وبشكل عام كيف نحرر الضمير المهني لمؤسساتنا بما فيها الأمن والجيش من الأوامر العليا للمستبد الفاسد وعائلته؟ والكثير من الأسئلة التي تساعد على رسم ملامح المستقبل الجديد، فما أن تكتمل ملامحه حتى يصبح قادراُ على الميلاد وإعلان موت ونهاية عهد المستبد الفاسد وسقوط روافعه الصدئة.
أخيراً، إن المبرر الحقيقي للثورة هي “صورة المستقبل”، وليس أي من مكونات الوضع الراهن مهما بلغت بشاعتها وظلمها. استبداد الملك وفساده وتفاهته وسقوط خطابه وانكشاف تكتيكاته السياسية، ليست مبررات للثورة، ولكنها مبررات للتمرد لأضعافه واستنزاف الدعم الشعبي له. فالفعل الثوري الواعي لا يتحقق بإعلان حتمية الثورة استناداً إلى مبررات الواقع البشع، والممارسات الشائنة للمستبد الفاسد وعائلته، ولا بمجرد التبشير بخيار الثورة أو التمرد وإطلاق المزيد من اللعنات والحجارة على وجه المستبد الفاسد، انه (الفعل الثوري الواعي) مزيج منهما مضاف إليه نشاط يومي لرسم ملامح المستقبل. إن بشاعة الراهن توضح البوابات الصدئة التي يجب اسقاطها لبدء المسير الحر الواعي لتحقيق التغييرات المطلوبة بسلام وآمان. فالثورة هي فتح طريق جديد لإدامة مسيرة التقدم والارتقاء الإنساني، بالاعتماد على دولة حقيقية تعبر عن قيم الشعب، وتخدم مصالحه في ذات الوقت. فنحن جميعاً -وبغض النظر عن مواقفنا- وقود للحتميات التاريخية ومنها الثورات، ولكن أفعالنا الواعية تكتب قصصها، وترسم ملامح المستقبل الذي سياتي بعدها.
2022-09-07