في كتابه “المسألة اليهوديّة” ردَّ فيه كارل ماركس على “برونوباور” وهو عالم لاهوت ومؤرّخ ألماني، وهو الذي قال: “إنّ المسيحيّة المبكرة تدين بوجودها إلى الفلسفة الرواقية اليونانيّة أكثر من التوراة”، واستنكر على اليهود الألمان مكانتهم بالتحرّر قائلًا لهم: “عليكم أن تتحرّروا وتتخلّصوا من يهوديّتكم أو دينكم”، كما طالب أيضًا كل الناس التخلّص من أديانهم، فأجابه ماركس قائلًا: “إنّ الحلّ لا يكمن في تخلّص الناس من الدين، بل في تحرّر الدولة وانعتاقها من الدين، حتى لو كانت أغلبيّة الشعب متديّنين”.
الموضوعُ الجوهريُّ في كتاب ماركس “المسألة اليهوديّة”؛ انتقاده المعادلة التي تقول: “إنّ التحرّر الاجتماعي لليهودي هو تحرّر المجتمع من اليهوديّة” ويردّ ماركس على هذه المقولة العنصريّة الألمانية، بقوله: “إنّ الحلّ الجذريّ يقوم على نظرة اليهودي والمسيحي للدين، باعتباره مرحلةً من مراحل التطوّر للفكر الإنساني” وقال: “يجب أن يكفّ اليهوديّ عن كونه يهوديًّا، بحيث يذهب يوم السبت ليمارس نشاطًا سياسيًّا أو اجتماعيًّا على الضدّ من تقاليده، وإذا أصرّ اليهوديّ على ديانته فلا ضير، شرط أن يدرك أن تحرّره مرتبطٌ بتحرّر الدولة الألمانيّة سياسيًّا واجتماعيًّا من سيطرة الدين أو اللاهوت كما هو الحال في أمريكا، حيث تمَّ فصل الدين عن الدولة”.
لم يقصد ماركس أنّ دعوته إلى التحرّر من الدين تعني إلغاء الدين، بالعكس فقد عدَّ – كما يقول أحمد الفارابي – “إنّ وجود الدين لا يتعارض مع وجود الدولة، بحيث تضمن عدم تحويل المسائل الحياتيّة الدنيويّة إلى مسائلَ لاهوتية، ومن ثَمَّ تصبح علاقة التحرّر السياسيّ هو تحرّر الدولة من الدين، وهو هنا يتّفق مع برونوباور، ولكن شرط ماركس هو التحرّر السياسيّ للدولة من كلّ الأديان، وليس تحرّر اليهود من دينهم فقط، ولكن ماركس دعا إلى تحرير اليهودي من عبادته للمال، وهنا تتحرّر البشريّة من اليهوديّة؛ لأنّ المال أهم شيءٍ لدى اليهود، كما أشار ماركس إلى “أنّ المسيحيين لا يختلفون في الرأسماليّة عن اليهود في علاقتهم بالمال وحرصهم عليه، فالمجتمع البورجوازي يُوَلِّدُ – رمزيًّا – من أحشائه يهود المال، ويقصد بذلك التشبيه المسيحيين البورجوازيين الذين مارسوا كل ما مارسه اليهود”.
لقد أشار ماركس بوضوحٍ إلى أن تعبير “المسألة اليهوديّة” هو نتاج التاريخ الأوروبي، ودور اليهود المالي (المرابي) البارز كان جزءًا من هذا التاريخ. فالمشكلة، من ثَمَّ، ليست في الدين اليهوديّ (الذي هو دينٌ شرقيٌّ عربيّ)، بل في اليهودي الواقعي الذي أصبح دينه هو المال. وهذا هو الدور التجاري/الربوي الذي مارسه اليهود في مجتمع القرون الوسطى القائم على سيادة الاقتصاد الطبيعي، وغياب السلعة والنقد، رغم أن تحوّلات الرأسماليّة كانت تقود إلى إفقار قطاعاتٍ مهمّةٍ من اليهود كلّهم؛ الفئات الاجتماعية في تلك المجتمعات، وتحكُّم بعض اليهود باقتصاد دولٍ كما يشير ماركس في النصّ، وهذا الدور التجاري/الربوي هو الذي أسّس في مرحلة الرأسمالية لنشوء “المسألة اليهوديّة”، حيث أصبح المال هو دينُ الرأسماليّة ذاتها.
ومن ثَمَّ، فإنّ ماركس كان يناقش مشكلةً أوروبيّة، هي مشكلة الانغلاق اليهودي (الغيتو)، والدور المالي التاريخي، رغم أنّ معظم اليهود كانوا قد أصبحوا فقراء، في الوقت الذي بات بعضهم من كبار رأسماليي أوروبا. لهذا كان يرى أن مبدأ المواطنة هو الذي يجب أن يحكم الرؤية ما دام اليهودُ جزءًا من التكوين القومي في الأمم الأوروبيّة، في حين يُحلّ الدور المالي في إطار تجاوز الرأسماليّة.