في حضرة التاريخ ..ج4!
سلام موسى جعفر
سألني أحد الأصدقاء عن سبب عدم نشري للجزء الرابع من مشاهداتي في الاندلس؟ افتعلت عذرا للصديق العزيز، لأني ببساطة لم أكن أرغب أن يعلم أحد أن السبب الذي منعني هو احتمال ان يبادر عدد من الاذكياء ويحمل أجدادنا في الاندلس مسؤولية انقطاع التيار الكهربائي! كما فعل بعضهم عندما كتب عدد من أنقياء الضمير عن القضية الفلسطينية!
في حضرة التاريخ
“هل تعرفون كيف يقف الطفل اليتيم امام ثياب ابيه الراحل؟”
نهر الوادي الكبير يخترق مدن غرناطة، قرطبة واشبيلية، لذا فمن المنطقي ان الطريق الواصل بينهما يمر بمحاذاة النهر.
لازالت بقايا القلاع الاندلسية تحتل قمم التلال الواقعة على الطريق الواصل بين قرطبة وأشبيلية.
بينما تغطي بساتين الزيتون المترامية الأطراف سفوح التلال والسهول المنبسطة. اما البيوت المبعثرة على طول الطريق المبنية على حافات البساتين لابد انها تعود للفلاحين وللعاملين في الصناعة القائمة على زراعة الزيتون.
ما أن دخل الجيش الاموي مدينة أشبيلية في سنة 712 ميلادية حتى صار أسمها الجديد “حمص” بسبب تشابه البناء بينها وبين مدينة حمص الواقعة في بلاد الشام. ولا غرابة في الامر إذا ما عرفنا ان الفينيقيين هم أول من شيد المدينتين. على ان أسم أشبيلية الفينيقي الأصل عاد الى الاستعمال في عهد الحكم العربي لبلاد الاندلس ولم يصمد لا اسم حمص ولا اسم هيسباليس كما كان يسميها الرومان.
أشبيلية تنفرد عن سائر المدن الاندلسية بظاهرة قد تبدو للوهلة الأولى غريبة بعض الشيء تتلخص بأن أغلب قصورها العظيمة ذات الطراز المعماري الاندلسي شيدت بعد سقوط الحكم العربي الإسلامي في المدينة عام 1248! وهذا مؤشر على قوة تأثير الثقافة العربية الاندلسية في المجتمع الاسباني وشهادة تقدير لفن العمارة العربية.
ويبقى ان أذكر ان المهندسين والبنائين والحرفيين الذين شيدوا هذه القصور كانوا من المدجنين من سكنة المدينة. المدجنون هم العرب والبربر الذين سمح لهم البقاء والاحتفاظ بدينهم بعد سقوط دولتهم. وما دمنا عرفنا هذه الجزئية عن المدجنين، لا بأس من التعرف على مصيرهم أيضاً. في ظل محاكم التفتيش التي تفشت في بداية القرن السادس عشر كان على المدجنين الاختيار بين التحول الى المسيحية أو الموت تحت التعذيب الوحشي.
ورغم تحولهم الى الدين الجديد ورغم مرور أكثر من قرن على هذا التحول، وبالتحديد بين الأعوام 1609ـ 1614 تم القيام بحملة لطرد الأبناء والاحفاد وابناء الاحفاد وربما احفاد الاحفاد الى شمال أفريقيا وأخلاء الأندلس منهم نهائياً، بهدف الاستيلاء على بيوتهم وأراضيهم ومنحها للعوائل الاسبانية النازحة من مدن الشمال. نفذت الحملة بطريقة تفتقر الى أبسط قيم الإنسانية، حسب وصف الاسبان.
بقي لنا أن نتعرف على جزئية أخرى تتعلق بتأريخ المدينة وهي أن كرستوفر كولومبس كان يستخدم ميناء أشبيلية في رحلاته. وهذا يفسر لنا سبب الازدهار الاقتصادي السريع الذي حدث في المدينة في الربع الأول من القرن السادس عشر والارتفاع الصاروخي في ثروات فئات محددة من السكان.
فعند عودة الاسطول من المستعمرات الى الميناء، كانت السفن تعود وهي محملة بكميات كبيرة جداً من الذهب وبقية الغنائم والمنهوبات. من بين بحارة أسطول كولومبس خدم عدد من المدجنين. ونقلاً عن الدليل (الكايد) الاسباني: أن البحارة العرب من أشبيلية سبقوا كريستوفر في اكتشاف أمريكا، وانه، أي كريستوفر استفاد من أجهزة الملاحة التي استعملوها في سفنهم ومن خرائطهم وخبراتهم لقرون عديدة تشمل الفترة الممتدة من تأسيس الاسطول العربي الاندلسي خلال عهد الامارة الاموية في وحتى سقوط آخر قلاع الاندلس.
لم يبقى من آثار العمران العربي الذي شيد في أشبيلية في عهد الدولة العربية إلا القليل من بينها أساسات جامع المنصور وبهو البرتقال المشهور فيه ومئذنته المشهورة باسم ” خيرالدا ” وأقيم على أنقاضه أكبر كاتدرائية في أوربا.
اما برج الذهب فهو من بقايا سور المدينة. لم يصبه أذى ولم يتعرض الى أي تغيير ولازال شامخا كأحد معالم الحضارة الاندلسية، وكان يستخدم لمراقبة الملاحة والسيطرة على حركة المرور في النهر عن طريق ربط سلسلة حديدية ضخمة بالبرج المقابل في الجهة الأخرى من النهر. ومنذ العام 1994 تحول الى متحف بحري.
الكتابة عن القصر الملكي في أشبيلية (Alcázar) بقلم مغرم، يتطلب الغوص ببعض التفاصيل. هو أقدم قصر ملكي اوربي مازال مستخدما حتى الآن. لا أستطيع التأكيد على أن القصر هو من بقايا الحكم العربي في الاندلس، وفي نفس الوقت لا أستطيع نفي ذلك! فالقصر كان في الاصل قلعة بناها العرب على أنقاض قلعة رومانية وتحولت في وقت لاحق الى قصر ساحر قيل فيه الكثير من الاساطير. وكان لجمال القصر ولروعة البناء دافعا للملك الاسباني في اتخاذ قرار المحافظة عليه كما هو عقب استيلاء جنده على المدينة. بعد موته جرت هدم أجزاء مهمة منه وشيدت على انقاضها أجنحة اعتمدت الطراز القوطي في البناء.
أذواق الملوك باعتبارهم أفرادا تختلف من ملك لآخر تبعاً لشخصية الملك وثقافته وللعصر الذي يعيش فيه ولتأثيرات المحيطين به من مستشارين وأصدقاء ونساء. وهذا ما سنلمسه من خلال الإضافات العديدة والمتباينة على اعمال التوسع والبناء التي جرت على مدى قرون عديدة واستخدمت فيها مختلف الفنون المعمارية المعروفة في القرون الوسطى، ومنها فن المعمار الاندلسي الذي نهض به المدجنون.
لكل جناح من أجنحة القصر طرازه المعماري الخاص به. وكأن الحضارات الإنسانية المختلفة اشتركت بإقامة معرض دائم لفنون المعمار! وفي هذا المعرض الدولي تتنافس الشعوب لإبراز أجمل ما وصلت اليه فنونها في هذا المجال. ومن أراد ان يتعرف على معنى التنوع الحضاري والثقافي، فما عليه إلا زيارة هذا الصرح! مع ملاحظة ان روح الاندلس تجدها حاضرة في الممرات والفسحات بين الاجنحة، وكذلك في الأعمدة وهياكل البناء واسسه والباحات الخارجية وفي تنظيم الحدائق.
لكن المفاجئة المذهلة كانت في الجناح الذي شيده مهندسو قصر الحمراء بمشاركة من مدجني أشبيلية بعد أن طلب الملك الاسباني في العام 1364من الملك العربي في غرناطة المساعدة لبناء أكبر جناح في القصر. فكأن الزائر لهذا الجناح يتجول في أروقة قصر الحمراء. ففي غرناطة لم تتوفر لي الفرصة للاستمتاع بجمال القصر، لازدحامه الشديد بالزوار. وتمنيت وقتها لو كنت قادرا على شراء جميع تذاكر الدخول، حتى أنفرد به وامتع ناظري ملياً بنقوشه الساحرة! لم أعد الآن أشعر بالحسرة على ما فاتني منه، فأنا الان أقف بين جنباته كالطفل اليتيم امام ثياب أبويه! الزخارف المنقوشة على الجدران في هذا الجناح تشبه الى حد كبير زخارف السجاد، تماما كما في الحمراء، فهي على شكل تنظيمات هندسية غاية في الروعة وآيات قرآنية وأدعية وأبيات شعرية. اما في الطابق العلوي لهذا الجناح، وهو الجناح الوحيد المبني من طابقين، فقد بني بالكامل بطريقة الحمراء.
وخصص لسكن العائلة الاسبانية المالكة، لذا كان من المستحيل زيارة هذا الطابق.
لم أكن مغاليا عندما صورت لكم القصر بالمعرض الدولي الدائم لفنون البناء، حيث تتنافس فيه الشعوب لعرض أجمل وأرقى منتجاتها الحضارية. لم تكن هناك جهة منظمة للمعرض توجه الدعوات لهذا الشعب أو ذاك للمشاركة فيه. الشعوب جميعا بلا استثناء اقتحمت التاريخ والجغرافيا بحد السيف، كما فعلت في كل الازمان والمناطق. كل ذرة رمل أو حصوة صغيرة في أحجار القصر لابد أن صبغت بدم انسان، قد لا نتمكن من تحديد انتماءه الفرعي، ولكننا متأكدون من انتمائه الى الإنسانية. في القصر ترك لنا المنتصرون والمهزومون، سرديتهم للأحداث.
سألت نفسي ان كان التعرف على أمجاد أجدادنا في الاندلس يستحق مني العودة لزيارتهم مرة أخرى. وافقتني الرأي، ولكنها اقترحت زيارة التأريخ أولا في إسطنبول القرون الوسطى للعثور على السبب الذي أعاق العثمانيين، الذين كانوا في عز قوتهم، عن نصرة غرناطة! في نيسان الماضي سمحت لي ظروفي من تحقيق ذلك، فزرت جميع القصور التأريخية في إسطنبول. ولا أكتمك سراً إن قلت لكم أن الطعام في إسطنبول لذيذ جداً جداً. ولكني فيها لم أشعر بعبق الأجداد، لم أحس فيها بالانتماء!
أما في الأندلس فكان لي فيها أكثر من بيت وأكثر من حضن وأكثر من جد. فالإنسان ينتمي للمكان الذي لا يتحسس فيه من الغربة.
للمكان الذي يشعر فيه بالحزن والفرح، بالبكاء والضحك وبالألم والراحة وبالحسرة والفخر.
2019-09-09