فراغ عالمى مريب!
مهدى مصطفى
لم يعد فى سماء العالم من يملأ مقعد القيادة، المقاعد التى جلس عليها ذات يوم ديجول وتشرشل وروزفلت وستالين، ثم نهرو وماو وتيتو، تحولت إلى هياكل خاوية، كأنها أطلال مسرح قديم، انطفأت أنواره فجأة، وبقى الصدى يردد أسماء غابت، بينما العالم يتدحرج فى خواء يثير الريبة.
فى الخامس عشر من أغسطس 2025 انعقدت قمة ألاسكا، حيث جلس ترامب وبوتين تحت سماء باردة كالجليد، بدا المشهد كأنه سوق للصفقات لا مائدة للتاريخ.
قيصر روسى يعيد رسم ملامح إمبراطورية غابرة، يراها مستحقة تاريخيا، وتاجر عقارات يرى الدم بندا فى دفتر أرباح.
قمة لم يتمخض عنها سوى صورة ملونة، كشفت أن العالم تم اختزاله فى صفقة معلقة على طاولة لا يجلس عليها أحد سوى قيصر قديم وإمبراطور جديد.
بعد ثلاثة أيام فقط، فى الثامن عشر من أغسطس، تم استدعاء قادة أوروبا المهمين إلى البيت الأبيض، جلسوا فى صفوف متراصة أمام سيد اللعبة، فيما جلس صاحب القضية زيلينسكى على الهامش، وقد صار مجرد شاهد صامت، يرضى باتفاقيات الكبار.
السياسة الدولية صارت مسرحا للـ”لا سياسة”، الأمم المتحدة تمثال من حجر، مجلس الأمن قاعة فارغة، والمنظمات الحقوقية دمى تتحرك بخيوط واشنطن، أما أوروبا فبدت كطفل يتلقى مصروفه من يد راع أمريكي، يلهو بما يعطيه من وجود، ويخاف أن يطلب أكثر، وحتى الحرب بين روسيا وأوكرانيا انفجرت على أرضها، واكتفت بدور المتفرج الذى لا يملك سوى التصفيق أو البكاء.
وفى غزة، يسير قطار الإبادة بلا فرامل، صوت أهارون حاليفا، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، يدوى كاعتراف عار من الضمير، يقول فيه: “لكل قتيل إسرائيلى يجب أن يقتل خمسون فلسطينيا، ولا يهم إن كانوا أطفالا… الفلسطينيون بحاجة إلى نكبة جديدة كل فترة”، كلمات خرجت من عقل بارد، صارت دما يغمر الأرض، أكثر من 61 ألف روح فلسطينية صعدت إلى السماء، ومليون إنسان يساقون إلى التهجير، كأنهم أرقام فى دفتر جريمة مكتملة الأركان.
المفارقة المريرة أن أوروبا، التى تملأ شاشاتها بأفلام المحرقة النازية، لا ترى المحرقة الجارية فى فلسطين، أو تتظاهر بالعمى، لم تجرؤ على إدراج إسرائيل تحت البند السابع، كما فعلت مع العراق، ولم تبذل جهدا لمحاكمة القتلة، الغرب بأسره، صار شريكا مباشرا فى الجريمة، يوزع فيها الأدوار ويتقاسم معها الصمت.
الجرح ليس من الغرب وحده، فالعالم العربى ترك ساحاته نهبا للرواية الإسرائيلية، سمح للخرافة أن تتسلل بملابس النضال والثورات الملونة، حتى صار الدين أداة قمع، والدم لغة، والوهم اعترافا علنيا، كما جاء على لسان نتنياهو بوجود “إسرائيل الكبرى” فى الخيال الإسرائيلى.
فهل يستمر هذا الفراغ حتى يبتلع كل شيء؟ أم أن التاريخ، الذى لا يعرف التوقف، سينقلب فجأة ويقلب المائدة على الجميع؟
الخطر أن تسبقنا أمواج التغيير، ونحن غارقون فى الوهم ذاته.
مع ذلك، بدأت الملامح تتشكل، الصين تصعد بهدوء كالماء الزاحف، اقتصادا وسلاحا، روسيا تحاول أن تستعيد توازن القوى، رغم نزيفها فى أوكرانيا، والهند تطرق أبواب الكبار لتخلع عنها عباءة التبعية القديمة.
أما العرب، فإن استيقظوا من غفلتهم، واستعادوا وحدتهم، واستثمروا مواردهم، فبوسعهم أن يكونوا الرقم الصعب فى معادلة ما بعد الفراغ، لا مجرد ساحات صراع أو أوراق على مائدة الصفقات.
العالم لا يحتمل خواء طويلا كالذى يجرى الآن، وإن لم تولد قيادات عالمية جديدة تحمل مشروعا حقيقيا، فإن القوى الصاعدة من الظلام، ستفرض إيقاعها، وستكتب فصول النظام الدولى المقبل، وفق “فلسفة الصفقات” وحدها.
2025-08-22
