ذكرى مؤلمة..!
عادل علي
حدثَ ذلك في منتصف عام ١٩٧١.
خبرني ، طيب الذكر، استاذي عادل صالح البقال بأن وزارة الزراعة اعلنت عن زمالات الى الاتحاد السوفيتي في مجال صيد الاسماك وبإختصاصات مختلفة. كما اعطاني عنوان الدائرة التي سوف تجرى فيها مقابلة المتقدمين.
لقد نجحتُ في المقابلة، واعطوني ورقة فيها الشروط المطلوبة لتنفيذها قبل السفر.
رجعتُ للبيت واخبرتُ والدي بالامر،فقال: ان شاء الله خير.
وسألني عن الشروط المطلوبة فأعطيته الورقة، فقرأها وتوقف عند احداها. قال: اذن كمل ما استطعتَ من الاوراق المطلوبة والله كريم.
لم تكن الشروط صعبة التنفيذ ولكن احداها لم يخطر ببالي سيكون الاصعب. انها الكفالة. اي أحتاج مَنْ يكون مسؤولاً امام القانون في حال فشلي في الدراسة. كان مبلغ الكفالة كبير جداً ، بالنسبة لنا، ( ٢٠٠٠ دينار عراقي، ما يُعادل آنذاك ٦٦٠٠ دولار) ورغم الجهود المبذولة من جانب والدي لكنه لم يفلح بإيجاد كفيل.
انا من عائلة فقيرة، بحيث ليس لدينا اي موظف بالدولة، وتشاء الصدف ان اكون انا اول موظف في الدولة بعد عودتي من الدراسة حيث عُينتُ معاون مهندس صيد في الشركة العامة للاسماك. ولكن ليس ذلك هدف كتابتي هذه المادة.
والدتي دخلت على الخط ، كما يُقال ، واقترحت ان تأخذني معها الى عائلة احد اقاربها لانه موظف في الدولة. وبما انه ليس لدينا مخرجاً وافق ابي على الفكرة رغم انه غير مقتنع بذلك.
ذهبتُ وامي الى بيت الخال. لم يكن موجوداً في البيت، غير ان زوجته رحبت بوالدتي وطبعت بوسة على خدي ، بعدها اخذني ابن خالي ، وهو بعمري ، الى غرفة الضيوف ومكثتْ والدتي مع الزوجة.
بدتْ غرفة الضيوف وكأنها متحف صغير بالنسبة لي، لم ارى مثلها سابقاً. فمسحتُ حيطانها بنظراتي وتوقفتُ على قطعة من السيراميك الابيض مربعة الشكل ومعلقة من احدى اطرافها وخُط عليها بالخط الكوفي: لا ولا ولا. فأستوقفتني هذه اللاآت فسألتُ ابن خالي: مالذي تخفيه هذه اللاآت؟
فقال : هذه الحكمة التي يؤمن بها والدي.
فسألته: وما فحوى تلك الحكمة؟
فأجاب مع نوع من الاعتزاز بأن:
لا أُقرض
ولا استقرض
ولا اكفل.
(اتاك الموت يا تارك الصلاة).
هل كان يعرف بأننا اتينا من اجل الكفالة؟ لا اعتقد، ولكن هذا الذي حدث بالضبط.
(أليس الفقير على ظهر الجمل وعضه الكلب)!!
استغليتُ فرصة تحضير الشاي وبعض المعجنات ان انفرد بوالدتي واسألها ان كانت قد فتحت الموضوع مع الزوجة، فأجابت بالنفي، فطلبتُ منها ان لا تفتح الموضوع وان تنوه بأننا في طريقنا الى بيت جدي من طرف والدتي وان زيارتنا لهم ستنتهي بعد شرب الشاي.
الان ، اعزائي القراء، انتم تعرفون بأني سافرتُ الى الاتحاد السوفيتي وانهيت بشكل ممتاز دراستي واصبحتُ موظفاً لدى الدولة. والفضل يعود للاخ المرحوم عبد جابر الخياط الذي لم يتهاون ابداً بعمل الكفالة وبكل اريحية.
البارحة كنتُ أقرأ بكتاب” نهج البلاغه”،
فعندما قرأتُ ” وأيمُ الله لو كان الفقرُ رجلاً لقتلتهُ” تداعت الصور حالاً في ذاكرتي وكأني اتصفح اليوتوب، فبرزتْ تلك الذكرى فألمتني قليلاً .
وعساكم ان لا تحتاجوا احداً .
2023-01-21