جنون القوة في إسبارطة الجديدة!
سعادة مصطفى أرشيد*
ظهرت في اليونان القديم دولتان رئيسيتان دولة إسبارطة التي اعتمدت على القوة والسلاح أولاً وقبل كل شيء ثمّ على المواطنة القائمة على نقاء العرق، ودولة أثينا التي اعتمدت العقل والفلسفة أولاً ولطالما قبلت بالآخر والتنوّع، لاحقاً ظهرت دولة مقدونيا واستطاع ملكها فيليب الثاني والد الاسكندر الأكبر هزيمة كل من إسبارطة وأثينا فانقرضت إسبارطة القوية والفخورة بأنسابها ولم تقم لها قائمة إو ذكر إلا في العقد الماضي وإثر تفكك يوغسلافيا، فيما بقيت أثينا حية وحاضرة بعقلها وفلسفتها واختلاط أنسابها حتى اليوم، وهكذا أثبت التاريخ أن القوة بلا عقل سرعان ما تتحطم فيما يكتب البقاء والخلود للعقل والقوة التي تعتمد على المعرفة أولاً.
هكذا ترسخ الدرس الإسبارطي في العقل الجمعي للإنسان، إلا أنه عاد للتداول بعد غياب أكثر من 2000 عام عندما أخذ يتداوله (الإسرائيليون) واهمين بأحلام القوة المفرطة خاصة في أوساط اليمين الذين أصبحوا يرون في (إسرائيل) حقيقة راسخة أكدها صمودها ثمانية عقود وأنها قد نضجت وأصبحت تحتاج للتحالف مع الغرب لا التبعية والوظيفية، وأن هذا يحتاج إلى الاكتفاء الذاتي اقتصادياً وإلى المزيد من العسكرة للمجتمع الذي يبدأ في الأسرة والتربية المنزلية. وفي هذا السياق ظهرت دراسات اجتماعية وأدبيات تربوية منها كتاب (لتقفن مثل سد منيع) وهو كتاب موجّه للأم اليهودية، والكاتبة هي دانا إيهود أولمرت إبنة رئيس الوزراء الأسبق، تتحدّث دانا أولمرت في الكتاب عن ضرورات التربية العسكريّة وعن ترسيخ دور الأم بصفتها أقرب إلى الأم الإسبارطية الدائمة الاستعداد للتضحية بأبنائها في سبيل الوطن وتقديمهم قرابين على مذبح الدفاع عنه وقهر أعدائه.
هذا ما عاد وطرحه بنيامين نتنياهو والذي برغم كل ما قيل ويُقال وأشيع ويُشاع عنه وعن مكانته في أوساط السياسة في تل أبيب أثناء حرب الإبادة التي شنتها حكومة الاحتلال على غزة استطاعت أن تجنّد دول الغرب لتقف إلى جانبها أو حتى لتكون شريكة معها في حربها هذه، ولكن الشعوب لم تعد تحتمل مثل هذا القدر من الإجرام والذي كانت تشاهده بفضل وسائل الاتصال وتطور الإعلام الفضائيّ. هذا ما قاد إلى عزلة “إسرائيل” على المستوى الشعبي وهو أمر بالغ الأهمية وسيفرض في وقت لاحق أثره على الحكومات، وقاد إلى تقديم طلبات ورفع دعوى لدى محكمة الجنايات الدولية تطالب بمحاكمة واعتقال وزراء وضباط في دولة الاحتلال.
دعا ذلك إلى ترسيخ الدرس الإسبارطي في العقل الجمعي (الإسرائيلي)، بعد غياب تجاوز العشرين قرناً عندما عاد إليه الخطاب السياسي لنتنياهو والوسط السياسي (الإسرائيلي) وقصص فساده، إلا أنه لا زال يمثل العقل السياسي والعقائدي لدولة الاحتلال أكثر من أي زعيم آخر، وكان قد أعلن في مطلع الحرب على غزة أنه سيعيد تشكيل شرق أوسط – سايكس بيكو من جديد، ثم عاد قبل شهرين ليطوّر مشروعه ويقول بتحويل دولة الاحتلال إلى دولة إسبارطية تعتمد على ذاتها متناسياً أنها ليست إلا صنيعة الغرب ولا زالت تحظى بدعمه ورعايته. وهذا هو سبب بقائها، وأنه يريد من إسبارطة الجديدة ان تمتلك الاكتفاء الذاتي والقوة التي لا تقف أمامها أي قوة أخرى، وبهذا فإن “إسرائيل” الإسبارطية ستكون في مواجهة مع الجميع لا في محيطها القومي وعالمها العربي فحسب، وإنما حتى تصنع قوة عظمى مثل الصين وروسيا.
في محيطنا القوميّ والإقليم يريد بنيامين نتنياهو إعطاء دروس قاسية للجميع وخلق وقائع جديدة وهو ماض في ذلك في أرض الشام احتلالاً وتقطيعاً، وفي تهجير غزة وتدميرها، وفي طرد أهل الضفة وضمها، وفي السيطرة على الأردن عبر اتفاقيات المياه والغاز، وفي لبنان الذي لا يتوقف عن التهديد بالحرب معه تصريحاً أو تلميحاً، فنتنياهو لا يريد أي قوة إقليمية حتى ولو لم تقطع حبالها معه مثل تركيا، وكذلك أوروبا الغربية التي رعته ودعمته ولا تزال والتي استطاع أن يبيع لها سلاحاً في عام 2024 بما يقارب 14 مليار دولار وكان قد سبق لهذا السلاح أن تمّت تجربته على المدنيين الفلسطينيين في غزة وأثبت فاعليته في قتل أطفالها، كل ذلك يريده نتنياهو دون دفع أثمان، كيف لا وهو يرى أنه يملك دولة ذات اقتصاد قوي ومالكة للسلاح النووي.
يرى بنيامين نتنياهو في إسبارطة الجديدة المقاول والمتعهد الوحيد والمحتكر لتنفيذ السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، جاعلاً من أي علاقات لأي كان في المنطقة مع واشنطن يجب أن تمرّ إجبارياً عبر تل أبيب، وأن أي مشكلة في المنطقة يجب أن تكون (إسرائيل) جزءاً منها وأن تكون هي مَن يضع الحل الذي يناسبها ويتعارض تماماً مع مصالح الأمة، فعند الحديث عن الأكراد فإن لـ(إسرائيل) خطوطها معهم ودعمها للانفصاليين منهم الذين تستطيع تجنيدهم ضد الامة أو ضد الجار التركي، وعند الحديث عن الدروز نجد أنها تدفع باتجاه انفصالهم عن أمتهم والتحاقهم بمشروعها في دولة أقليات.
فوائض القوة تدفع للجنون وعدم الأخذ بالدرس الإسبارطي تاريخياً أمر مرعب لنا في المدى القصير. فإسبارطة انتهت كوجود وكعقيدة حربيّة ولكن إذا كان نتنياهو ودولته يستطيعان اليوم تقديم هذا النموذج لكن ذلك يقودهم إلى نهاية صفرية وفي المشروع الإفرنجي الصليبي وفي ألمانيا النازية، فإن للقوة حدوداً وهذه الحدود هي ما ستكون نتيجة هذا المشروع المعادي في المدى المتوسط والطويل.
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة
2025-12-09