تشارلز داروين .. شاهد الزور الذي سُمي عالما (10)!
د. عمر ظاهر.
نواصل محاولتنا التوصل إلى فهم لمصطلح الانتقاء الطبيعي، وذلك عبر النظر في سياقات عديدة تم استخدام المصطلح فيها في كتاب داروين “أصل الأنواع”. ونشدد هنا على أمرين: أولا، الباحث الجيد لا يرهق القارئ/الحكم بجعله يبحث عن تعريف لمصطلح مركزي في بحثه. هذه ليست مهمة القارئ، ولا مهمة لجنة التحكيم التي ستحكم على “البحث”. إنها مهمة الباحث نفسه أن ينتهي في الصفحات الأولى من بحثه أو كتابه من تحديد وتعريف مصطلحاته ومفاهيمه. ثانيا، إذا كانت هناك تعقيدات في تعريف مصطلح ما في البحث، فعلى الباحث أن يخصص فقرة في نهايته لتلخيص تعريفه لذلك المصطلح. داروين لم يفعل لا هذا ولا ذاك لسبب واضح وهو أنه لم يكن يدرك أهمية التعريفات الدقيقة، ولم يكن قادرا على لملمة كل ما ألقاه على عاتق مصطلح الانتقاء الطبيعي بشكل خاص، وتبرير ذلك. قال في البداية أن الانتقاء الطبيعي لا يسبب التمايز، ولا يتضمن إلا الحفاظ فقط على مثل هذه التمايزات كما تظهر، وكانت مفيدة للكائن تحت ظروف حياته. لكنه سرد في سلسلة تعريفاته التي بدأنا بتناولها في الحلقة السابقة ما فهمنا منه أنه كان على الأرض في وقت ما كائن نباتي واحد، وكائن حيواني واحد، جعل الانتقاء الطبيعي الأول يتفرع إلى ملايين من أنواع النباتات التي تختلف أحجامها، وأطوالها، وألوان ثمراتها وطعمها؛ وجعل من الثاني كائنات تتراوح في تطورها بين الحمار الذي لا يعرف ما يحمل وبين داروين الذي يفلسف في التطور وفي الانتقاء الطبيعي. وها نحن نصرف مقالتين على تبيان إشكالية هذا المصطلح في رأس داروين آملين في العثور على شيء. وفي كتابنا نتوسع في تناول نفس الموضوع بما يكفي لعشر مقالات كاملة، ولكن دون جدوى.
نواصل الاقتباسات التي بدأناها في المقالة السابقة.
تناولنا في المقالة السابقة سلسلة من التعريفات التي تناقضت في نهايتها مع بدايتها. ويضيف داروين إلى تلك التناقضات غيرها، فنعرف الآن أن الانتقاء الطبيعي ليس مجرد دور سلبي أو إيجابي في عملية تسلسلية، بل إنه قوة فاعلة ونشطة وله علاقات وتحالفات مع قوى أخرى في الطبيعة، ينسق عمله معها، ويتعاون معها، بحيث يسيران يدا بيد، مثلا الإبادة:
بما أن الانتقاء الطبيعي يعمل بشكل كلي عن طريق الاحتفاظ بالتعديلات المفيدة، فإن كل شكل جديد سوف يميل في أي قطر مكتظ إلى آخره، إلى أن يأخذ مكانا، وفي النهاية إلى أن يبيد الشكل الأبوي الخاص به الذي هو اقل تحسنا، والأشكال الأخرى الأقل منه في الأفضلية، والتي يحدث بينه وبينها تنافس، وبهذا فإن الإبادة والانتقاء الطبيعي يمضيان متعاونين يدا بيد. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 277)
مضحك حقا أن الانتقاء الطبيعي الذي عرفنا عنه حرصه الشديد على الكائن الحي، فهو لا يحافظ إلا على التمايزات المفيدة التي تكون في صالح الكائن الحي، وتضمن مصلحته في البقاء، يتكشف فجأة عن منافق غدار يتعاون ضد الكائنات الحية مع جلاد الطبيعة، الإبادة، ويسير معه يدا بيد.
ونعرف أيضا أن الانتقاء الطبيعي إداري مجرب، فهو يراقب الطبيعة، فلا يطور كائنا ما من ضرب إلى نوع مستقل، قبل أن يتأكد من أنه صار هناك مكان شاغر له في النظام الطبيعي، فيمكن للضرب إشغاله كنوع. وليس هذا وحسب، بل يتبين الآن أن الانتقاء الطبيعي هو عملية وبطيئة أيضا، وليس مجرد دور في عملية:
لأن الضروب الجديدة تتكون ببطء شديد جدا، وذلك لأن التمايز عملية بطيئة، وأن الانتقاء الطبيعي لا يستطيع أن يقوم بشيء إلى أن تحدث اختلافات أو تمايزات فردية ملائمة، وإلى أن يتم شغر موضع في المنظومة الطبيعية للقطر بشكل أفضل عن طريق تعديل ما لواحد أو أكثر من القاطنين بالقطر. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 282)
ولكن حيث يكون الانتقاء الطبيعي فعالا، وبمفرده، فإن أدواره وقدراته في توسع متواصل على يدي داروين الذي يعطيه الآن شرف القدرة على التكييف السهل لتركيبات الكائن الحي:
وسوف أسوق الآن مثالين أو ثلاثة من الأمثلة على كل من السلوكيات المتنوعة والمتغيرة الموجودة في الأفراد التابعة لنفس النوع. وفي كلتا الحالتين فإنه سوف يكون من السهل على الانتقاء الطبيعي أن يكيف التركيب الخاص بكل حيوان لكي يكون مناسبا لسلوكياته التي قد تغيرت، أو على وجه التحديد لسلوك واحد من سلوكياته المتعددة. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 288)
وأيضا القدرة على تحوير جهاز بسيط إلى جهاز معقد. يقول:
فإن الصعوبة سوف تتوقف عن أن تكون كبيرة جدا في الإيمان بأن الانتقاء الطبيعي يكون قد قام بتحوير الجهاز البسيط المكون من عصب بصري مغطى بالصبغة ومغلف بغشاء شفاف، إلى جهاز إبصاري على مثل الدرجة من الكمال الموجودة لدى أي عضو تابع لطائفة المفصليات. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 296)
وأيضا يتخذ الانتقاء الطبيعي قرارات حاسمة، مثلا تخصيص عضو جسدي للقيام بوظيفة واحدة أو أكثر. يقول:
وفي مثل هذه الحالات فإن الانتقاء الطبيعي قد يقوم بتخصيص – إذا كانت هناك فائدة تجنى من ذلك – العضو الجسدي بأكمله أو جزء من هذا العضو، الذي كان يقوم قبل ذلك بوظيفتيه، للقيام بوظيفة واحدة فقط، وهكذا فإنه عن طريق خطوات غير محسوسة فإنه يقوم بتغيير طبيعته بشكل هائل. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 300)
قال داروين سابقا أن الانتقاء الطبيعي لا يسبب التمايزات، وإنما يحافظ فقط على المفيد منها. لكنه يقول شيئا آخر هنا، فالانتقاء الطبيعي يستطيع، أو لا يستطيع أن ينتج، ولكنه يُنتج أحيانا:
الانتقاء الطبيعي لا يستطيع إطلاقا أن ينتج أي تعديل في نوع من أجل المصلحة المقصورة على نوع آخر، مع أنه يوجد في أرجاء الطبيعة نوع ما يستغل ويستفيد على نحو متواصل من التراكيب الخاصة بالآخرين. ولكن الانتقاء الطبيعي يستطيع، وهو بالفعل ينتج أحيانا تراكيب من أجل الإضرار المباشر لحيوانات أخرى، وذلك ما نراه في الناب الخاص بالأفعى، وفي جهاز وضع البيض الخاص بحشرة البمبلا، والذي يتم وضع البيض بواسطته في الأجساد الحية الخاصة بالحشرات الأخرى. وإذا كان من الممكن إثبات أن أي جزء خاص بالتركيب الخاص بأي نوع واحد قد تم تكوينه من أجل الفائدة المقصورة على نوع آخر، فإن هذا من شأنه أن يمحق نظريتي، لأن مثل هذا الشيء لا يمكن أن يتم إنتاجه من خلال الانتقاء الطبيعي. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 325/326)
لم يترك داروين مهمة محق نظريته للمعترضين على ترهاته، بل يؤديها هو على أتم وجه، فقد أصر سابقا أن الانتقاء الطبيعي يحافظ فقط على ما هو مفيد للكائن الحي، أما التمايزات المضرة فيتم تدميرها. لكنه يعدل الآن تلك الفكرة مرتين، فأولا يستبدل عبارة “يحافظ على ..” إلى “ينتج”، وثانيا يستبدل عبارة “تمايزات مفيدة” إلى عبارة “تركيب منفعته أكثر من ضرره”. يقول:
الانتقاء الطبيعي لن ينتج إطلاقا في كائن ما أي تركيب أكثر ضررا من منفعته لهذا الكائن، وذلك لأن الانتقاء الطبيعي يعمل فقط بواسطة ومن أجل كل كائن. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 327)
هل يمكن، أولا، لشيء كان له فقط دور المحافظة على التمايزات المفيدة، ولم يكن هو السبب في بروز تلك التمايزات، أن (ينتج) هذه التمايزات؟ ولماذا حلت عبارة “تركيب” محل “تمايز”؟ ولماذا صار داروين يتحدث الآن عن تركيب منفعته أكثر للكائن من ضرره؟ في البداية كان يحافظ فقط على التمايز المفيد. وغير هذا فإن هذا الحديث سيورط داروين، من حيث لا يدري، في تناقضات عويصة، وذلك في الباب الثامن المتعلق بالغرائز، حيث سنرى كيف أن داروين، وكأنه نسي ما يقوله هنا، يسرد المثال بعد المثال على تمايزات في كائنات معينة مثل الطيور، والنمل والنحل، مفيدة لكائنات أخرى، ومضرة بالكائن الحي نفسه. مثلا، الطير الذي يرعى صغار غيره ويجعل صغاره هو يموتون جوعا، والنمل الذي يهوى الاستعباد من قبل نوع آخر من النمل، أو يجمع الطعام كي يستفيد منه نوع آخر من النمل.
والانتقاء الطبيعي، رغم كل شيء، إله عادل، فهو يقوم بتطوير كل الكائنات بنفس الدرجة من الكمال:
الانتقاء الطبيعي يميل فقط إلى أن يجعل كل كائن متعضيا على نفس الدرجة من الكمال، أو على درجة من الكمال أعلى بشكل بسيط، عن الكائنات القاطنة الأخرى في نفس القطر الذين يحدث بينه وبينهما منافسة. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص – 327)
كيف، إذن، يصبح بعضها أصلح للبقاء، ويفنى غيرها؟ ضحية لتعاون الانتقاء الطبيعي مع قانون الإبادة؟
وهناك حالات لا يمكن فيها التأكد من دور الانتقاء الطبيعي، وذلك بسبب جهل داروين الشديد. يقول:
في العديد من الحالات نحن في حالة من الجهالة الشديدة لا تمكننا من التأكد من أن أحد الأجزاء أو الأعضاء الجسدية غير مهم بهذا الشكل فيما يتعلق بمصلحة أحد الأنواع، إلى حد أن التعديل الموجود في تركيبه لا يمكن أن يكون قد تجمع بشكل بطيء عن طريق الانتقاء الطبيعي. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 331)
عدا عن هذا، يتبين لنا أن هناك تمايزات تحدث، والسيد داروين لا يعتقد أن الكائن الحي يكتسبها حتما بفضل دور الانتقاء الطبيعي في الحفاظ على التمايزات المفيدة، ولا عن طريق إنتاجه، بل إنه يرى أنها على الأرجح قد تم اكتسابها من خلال الانتقاء الطبيعي. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 342).
لكن داروين يرجع ليؤكد في آخر المطاف أن أية صفة غير مفيدة للكائن الحي فإن الانتقاء الطبيعي براء منها:
ويستمد من الحقيقة القائلة إن جميع الصفات السابقة غير مهمة لمصلحة الأنواع، فإن أيا من التغييرات البسيطة التي حدثت لهما، لن تكون قد تجمعت وتراكمت من خلال الانتقاء الطبيعي. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص – 349)
ويعود داروين ليؤكد لنا أن الانتقاء الطبيعي ليس دورا في عملية، بل إنه بحد ذاته عملية تسلسلية بطيئة. وليس ذلك وحسب، بل ويكون هناك تأثير حاسم لمرور الزمن على هذه العملية. وأهمية مرور الزمن أنكرها داروين في أكثر من مكان. يقول:
وأخيرا فإن الانتقاء الطبيعي هو عملية بطيئة، ونفس الظروف الملائمة يجب أن تستمر لفترة طويلة، من أجل أن ينتج من جراء ذلك أي تأثير ملحوظ. وإذا لم نحدد مثل هذه الأسباب العامة والغامضة، فإننا لا يمكن أن نفسر لماذا لم تمتلك الحافريات ذوات الأربع المنتشرة في ربوع كثيرة من الأرض، أعناقا غاية في الاستطالة أو أيا من الوسائل الأخرى للرعي على الأغصان العالية للأشجار. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 356)
كما يفاجئنا داروين بضرورة ألا تعلق عقولنا في أن كل تمايز في الكائن الحي له علاقة بالانتقاء الطبيعي، فهناك أيضا تمايزات تحصل بشكل تلقائي، وتكون في الاتجاه الصحيح، أي مفيدة وتُحفظ، ولكن من الصعب إرجاعها إلى دور الانتقاء الطبيعي وحده، فقد تحصل نتيجة الاستخدام. وهنا يعاني داروين من مشكلة تحديد نسبة مشاركة كل من الانتقاء الطبيعي والاستخدام في إحداث تلك التمايزات. يقول:
كما أن جميع التمايزات العفوائية، ما دامت في الاتجاه الصحيح، فإنها سوف تصبح بالتالي محفوظة، وذلك ما سوف يحدث مع الأفراد، التي سوف ترث بالدرجة الأولى، نتائج الزيادة والاستفادة من استخدام أي جزء. أما مقدار ما يمكن أن نعزوه – في كل حالة معينة – إلى تأثيرات الاستخدام، ومقدار ما يمكن أن نعزوه إلى الانتقاء الطبيعي، فهذا أمر يبدو أنه من المستحيل أن نقرره. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 369)
وداروين متواضع فهو لا يدعي أنه قادر دائما على أن يقرر ما إذا كان الانتقاء الطبيعي يقوم بعمل ما بوحده أم هو يدخل في مشاريع مشتركة مع أكثر من طرف أو شريك. يقول داروين:
وللإجابة عن التساؤل عن الوسيلة التي قد تمكنت بها الغدد الموجودة فوق مساحة معينة، من أن تصبح عالية التخصص أكثر من الأخرى، فأنا لا أدعي أنني قادر على أن أقرر سواء إذا كان قد تم بشكل جزئي من خلال التعويض للنمو، أم من تأثيرات الاستخدام، أم عن طريق الانتقاء الطبيعي. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 371)
والانتقاء الطبيعي دائم المراقبة لكل كائن حي، حيوانا كان أو نباتا، ويتميز بحساسية مفرطة، فيعرف سلفا ما إذا كانت حركة ما نافعة للكائن الحي أم لا. مثلا، لو أن حمامة قامت بالصدفة بحركة (وليس تمايز)، مثل التقلب أثناء الطيران، فإن الانتقاء الطبيعي يتنبأ فورا بأن هذه الحركة مفيدة للحمام، فيستمر في الحفاظ عليها حتى تصبح غريزة:
ومن الجائز أن نعتقد أن حمامة واحدة ما قد أبدت قابلية لهذه العادة الغريبة، وأن الانتقاء المستمر لمدة طويلة، لأفضل الأفراد في أجيال متتالية قد جعلت هذا الحمام البهلواني على ما هو عليه الآن. وكما سمعت من السيد برنت (Mr. Brent) – فإنه يوجد حمام بهلواني منزلي، لا يستطيع أن يطير لارتفاع ثمانية عشر بوصة بدون أن ينقلب رأسا على عقب. ((ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 402)
وداروين لا يرى صعوبة في تخيل الانتقاء الطبيعي قادرا على كل شيء:
في هذه الحالة، كما في حالة طائر الملطروس أو الوقواق، فأنا لا أستطيع أن أرى صعوبة في أن يقوم الانتقاء الطبيعي بتحويل عادة عارضة إلى عادة دائمة، إذا كانت ذات ميزة للنوع، وإذا لم يتم بهذا الشكل إبادة هذه الحشرة التي تم الاستيلاء على عشها وطعامها المخزون بهذه الطريقة الشريرة. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص412)
ولنتنبه في أعلاه إلى عبارة “إذا كانت ميزة للنوع” التي حلت محل التمايز “إذا كان مفيدا للفرد”.
والانتقاء الطبيعي لا يحافظ فقط على التمايزات المفيدة، بل إنه يقود الكائن الحي باقتدار:
… والانتقاء الطبيعي قد استطاع عن طريق تدرجات بطيئة أن يقود النحل باقتدار أكثر فأكثر إلى أن يقوم بتفريغ كرات متساوية على مسافات مضبوطة من بعضها البعض وفي طبقة مزدوجة، وأن يبني ويحفر الشمع على طول مستويات التقاطع … (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 430)
في البداية كان الانتقاء الطبيعي يعمل لمصلحة الكائن الحي الفرد، لكنه يأخذ لاحقا في الحسبان مصلحة النوع، كما رأينا قبل قليل، ومن ثم العائلة، إلخ. يقول داروين:
وهذه الصعوبة، بالرغم من أنها تبدو غير قابلة للتذليل، فإنها تقل، أو على ما أعتقد، تختفي عندما نتذكر أن الانتقاء من الممكن أن يطبق على العائلة، علاوة على تطبيقه على الفرد، وبهذا الشكل فإنه يمكن أن يصل إلى النهاية المطلوبة. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 434)
كيف يمكن للقارئ أن يتمالك نفسه من الضحك هنا؟
ومع هذا فإن الانتقاء الطبيعي لا يتدخل في أمور كثيرة، مثلا العقم:
ولكنه سوف يكون من غير المجدي مناقشة هذا التساؤل بالتفصيل، وذلك لأن لدينا في حالة النباتات دليلا مقنعا على أن العقم الخاص بالأنواع المهجنة يجب أن يكون نتيجة لمبدأ ما، مستقل تماما عن الانتقاء الطبيعي. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 467)
بل وإن الانتقاء الطبيعي الذي عرفنا أنه يعمل فقط لمصلحة الكائن الحي فيحافظ على التمايزات المفيدة التي تظهر عليه، يفعل في بعض الحالات عكس ذلك. يقول داروين:
وفي بعض الحالات فإن الانتقاء الطبيعي سوف يقوم حتى بالحط من قدر أو التبسيط لمستوى التعضية، وهو مع ذلك يترك هذه الكائنات المنحطة معدة بشكل أفضل من أجل مساراتها الجديدة في الحياة. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 566)
لكن الانتقاء الطبيعي، ورغم كل ذلك، هو اللاعب الرئيسي في التطور:
هذه الحقيقة العظيمة الخاصة بالتعاقب المتوازي الخاص بأشكال الحياة الموجودة في جميع أنحاء العالم، قابلة للشرح والتفسير بناء على النظرية الخاصة بالانتقاء الطبيعي. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 552)
وداروين يعترف في آخر المطاف بصعوبات في مواجهة الانتقاء الطبيعي، مع أن النظرية سُجلت باسمه:
ولا بد من الأعتراف بأنه توجد هناك حالات تمثل صعوبة خاصة في مواجهة نظرية الانتقاء الطبيعي، وواحدة من أكثر هذه الصعوبات غرابة هي التواجد الخاص باثنتين أو أكثر من الطوائف المحددة من العاملة أو الإناث العقيمة في الجماعة نفسها من النمل. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 738)
في المحصلة، هل عرفنا ما هو الانتقاء الطبيعي؟ قال منتقدوه أن داروين صوّره كإله مقتدر. ونحن نرى أن داروين جعل منه أحجية ساخرة. وفي الوقت نفسه صوره لنا ليس كعبارة مجازية، بل كعبارة سحرية مثل “افتح يا سمسم”، يحل بها كل لغز من ألغاز الطبيعة.
الانتقاء الطبيعي والإحصاء
ونحن نختتم هذه الاقتباسات عن القدرات البهلوانية للانتقاء الطبيعي التي عرضها داروين في كتابه، نتوقف مع واحد من المواقف الغامضة في طريقة تفكير الرجل. انظر إلى ما يقول:
وبناء على نظرية الانتقاء الطبيعي فنحن نستطيع أن نفهم بوضوح المعنى الكامل الخاص بهذه الشريعة القديمة الموجودة في التاريخ الطبيعي “الطبيعة لا تنتج طفرة”. وإذا نظرنا إلى الكائنات القاطنة الحالية فقط لهذا العالم، سنجد أن هذه الشريعة ليست صحيحة تماما، ولكن عندما نجمل في الموضوع جميع الكائنات التابعة للعصور القديمة، سواء كانت معروفة أو غير معروفة، فإن الأمر يجب أن يكون بناء على هذه النظرية صحيح تماما. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 332)
ربما يكون أول سؤال يتبادر إلى الذهن هنا هو: كيف توفر نظرية الانتقاء الطبيعي الآن الإطار المناسب أيضا لفهم هذا القانون، ومن ثم الحكم على صحته أو بطلانه؟ جواب داروين سيكون، بلا شك: “افتح يا سمسم”.
إن سياق هذا الاقتباس هو التناقض، من جهة، بين ما يراه داروين في أن ظهور الأنواع الجديدة لا يحدث بسبب الطفرات، بل نتيجة لتعديلات صغيرة، وبطيئة يجريها الانتقاء الطبيعي على أنواع قديمة (أو تمايزات مفيدة يحافظ عليها الانتقاء الطبيعي)، ومن جهة أخرى، بين الاعتقاد بحدوث طفرات في الطبيعة تظهر نتيجة لها أنواع جديدة لا ترتبط بأنواع قديمة سابقة، كما ضربنا سابقا مثالا في العصر الكمبري أو عصر انفجار الحياة قبل حوالي ستمئة مليون سنة.
فكرة الطفرات تهدم نظرية داروين عن بهلوانيات الانتقاء الطبيعي، وتقتلعها من الجذور. وهنا يستنجد داروين بمقولة يسميها “شريعة قديمة في التاريخ الطبيعي”، وكالعادة دون أن يقول شيئا عن مصدرها وقائلها. هذه الشريعة تنص على أن الطبيعة لا تنتج طفرة.
هناك إشكالية فيما يقوله داروين. ولكي نتأكد من أن الإشكالية التي نتحدث عنها هنا لا تقع على عاتق الترجمة، نورد الاقتباس من نصه الأصلي في الطبعة السادسة من كتاب داروين:
On the theory of natural selection we can clearly understand the full meaning of that old canon in natural history, “Natura non facit saltum.” This canon, if we look to the present inhabitants alone of the world, is not strictly correct; but if we include all those of past times, whether known or unknown, it must on this theory be strictly true. (Paragraph – 166)
يقول داروين أنه يفهم بوضوح المعنى الكامل لمقولة “الطبيعة لا تنتج طفرة” على ضوء نظرية الانتقاء الطبيعي. ويضيف أن هذه الشريعة ليست صحيحة تماما إذا نظرنا فقط إلى الكائنات الموجودة في العالم حاليا، أي إن الطبيعة في هذه الحالة تنتج تقريبا، أو قد تنتج، طفرة (فالكلام ليس صحيحا تماما). ولكن – والقول لداروين، عندما نضيف إلى العدد الحالي للكائنات الحية في الطبيعة جميع الكائنات التي عاشت في العصور القديمة، سواء كانت معروفة أو غير معروفة، فإن الشريعة، و بناء على نظرية الانتقاء الطبيعي، تكون صحيحة تماما، أي إن الطبيعة لا تنتج طفرة على الإطلاق.
كيف يمكن أن نفهم هذا الكلام؟ يمكن ذلك عن طريق النظر إلى الفارق بين الحالتين: الحالة الأولى الكائنات الموجودة حاليا، والحالة الثانية الكائنات الموجودة حاليا مضافا إليها جميع الكائنات التي عاشت في العصور القديمة، سواء كانت معروفة أو غير معروفة. الفارق هو في العدد، ففي الحالة الثانية العدد أكبر إلى حد الخيال.
ما هو المنطق الذي يستخدمه داروين في استنتاج أن حدوث شيء، مثلا طفرة، ممكن أو محتمل إذا كانت القاعدة الإحصائية محدودة (عدد السكان أو الكائنات الحية الآن فقط)، وغير ممكن أو غير محتمل إذا كانت القاعدة أوسع (العدد الحالي من الكائنات الحية مضافا إليها أعداد الكائنات الحية التي عاشت في العصور القديمة، سواء كانت معروفة أو غير معروفة)؟
هذا أشبه بالقول إننا لو نظرنا إلى المجموعة الشمسية بكواكبها المعدودة فإننا نجد فيها الحياة على الأقل على كوكب واحد، لكن إذا نظرنا إلى كل مجرة درب التبانة التي تضم ملايين من المجموعات الشمسية (ومجموعتنا الشمسية جزء منها) فإننا لن نجد فيها الحياة. هذا لا يستقيم مع المنطق السليم فحقيقة وجود الحياة على كوكب الأرض تعني أن الحياة موجودة في مجرة درب التبانة حتى إذا لم تكن هناك حياة في مكان آخر منها. بل، لا يمكن إلغاء وجود الحياة حتى لو أخذنا مجرات الكون كلها بنظر الاعتبار. طالما توجد حياة في مكان ما فهي موجودة في هذه المجرة، وفي الكون كله. وطالما حصلت طفرة في الطبيعة فإن “الطبيعة تنتج طفرة”، سواء إذا نظرت فقط إلى الكائنات الحية على الأرض الآن فقط، أو إلى سكانه من الكائنات الحية طوال تاريخ الأرض كله.
يبدو واضحا أن داروين الذي كان يرى نفسه اختصاصيا في كل شيء، حتى في اللغة كما رأينا، حسب نفسه اختصاصيا في الإحصاء أيضا؛ إنما له منطق مختلف. فما تفسير ذلك؟
لو اتبعنا منهج داروين القائم على التخمين، والظن، والافتراض، والاحتمال، يمكن أن نخمن أن داروين فكر كالآتي: نفترض أن على الأرض الآن مليون نوع من الكائنات الحية، ودعنا نعترف بأن طفرة ما قد حصلت. إن نسبة هذه الطفرة تكون واحد إلى مليون (أي إنها حصلت تقريبا). لكن إذا نظرنا إلى الطبيعة في المليار سنة الماضية، فمن المحتمل أن عدد الأنواع التي عاشت على الأرض بلغ، مثلا، تريليون نوع أو أكثر. وإذا نحن قسمنا هذا الاحتمال الواحد – الذي افترضناه، على ذلك العدد الخيالي، فإن نسبة الاحتمال تكون واحد إلى تريليون، أي إنها تكاد تقترب من الصفر (لم تحصل)! وبهذا فحتى لو أنتجت الطبيعة طفرة في الوقت الحالي، فإنها لم تنتج طفرة خلال المليار سنة الماضية.
وإلا، كيف يجب أن يُفهم ذلك؟
يتبع ..
2021-01-29