تجاذبات القوى العظمى والنيجر: الآثار الجيوسياسية للانقلاب على العلاقات مع أميركا!
أدريس آيات
**ما الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه باتريس لومومبا وأدى إلى اغتياله؟
ولماذا يجب أنْ يتفادى ذلك قادة الساحل؟
ج/ الخطأ الإستراتيجي الذي يجب تجنبه: اللعب المزدوج
تُتوج الدراسة بمقولة مستوحاة من الرئيس الصيني، ماو تسي دونغ، كما ورد في الكتاب الأحمر: “لن تتمكن من تحقيق ثورة ناجحة إذا لم تكن قادرًا على تحديد من هو عدوك الحقيقي”. بهذه المقولة يسلط ماو الضوء على أهمية الوعي الإستراتيجي وبأن النجاح في أي تغيير جذري لا يتوقف فقط على العزيمة في القرارات، وإنما يتطلب أيضًا فهمًا واضحًا للتحديات وتحديد الخصوم بدقة. ما يُمكِّن القادة من تجنب الاستنزاف في معارك جانبية لا تخدم الهدف الأساسي.
وبحسب تحليلات(41)، ونتيجة الموقف الأميركي المتوازن تجاه إلغاء الاتفاقية، مع تأكيدها على الاستعداد لكل الاحتمالات، سواء البقاء أو الانسحاب، كما صرَّح به رئيس هيئة الأركان المشتركة، سي. ك. براون، هو موقف يختلف عن رد فعل فرنسا الأكثر حدة والتي رفضت الانسحاب بداية، فإن النيجر لم تلغ الاتفاقية إلا لتفتح المجال للتفاوض. فالسلطات النيجرية، قد تسعى لإعادة التفاوض على شروط جديدة: كتصديق اتفاقية جديدة بواسطة برلمان مدني يتم انتخابه لاحقًا، ودفع رسوم مقابل استخدام الأراضي التي تقع عليها القواعد الأميركية، والمشاركة الفعلية في العمليات ضد التنظيمات الجهادية.
نهجٌ قد يدل عليه عبارات المتحدث باسم المجلس العسكري، حين قال في خطاب 16 مارس/آذار: “تؤكد النيجر على الانفتاح للتعاون الشفاف واحترام السيادة في إطار القانون الدولي، خاصة في مجال التعاون العسكري ومكافحة الإرهاب”. وربما هو ما قصده الجنرال براون، حين صرح بأن الولايات المتحدة تتلقى “إشارات متضاربة من المجلس العسكري منذ ألغى الاتفاقية”. إن كان هذا التحليل دقيقًا، فإنه يُظهر أن المجلس العسكري قد ارتكب خطأ يُعد شائعًا لدى المبتدئين.
غرض الإشارة إلى مقولة ماو كان لشد الانتباه إلى الخطر الإستراتيجي الأكبر الذي قد ترتكبه القيادة الجديدة في النيجر ويتمثل في اعتمادها إستراتيجية اللعب المزدوج والغموض في تحديد حلفائها. فالانخراط في لعبة الأطراف المتعددة زمن الاستقطاب الدولي الراهن -الذي يُعرف(42) بالنسخة الثانية للحرب الباردة- كمسعى للمناورة بين القوى العظمى بهدف تحصيل أكبر قدر من المكاسب رغم الإيمان بأن اللعب على التناقضات دهاء سياسي إلا أنه بالنسبة للحكومات التي تسعى لاتخاذ مواقف ثورية يُعتبر إستراتيجية خطيرة ومدمرة.
من الدروس التاريخية المهمة في هذا السياق، قصة باتريس لومومبا، التي تعلِّمنا عواقب اللعب المزدوج في ميدان السياسة الدولية. ففي الوثائق البلجيكية التي تم الكشف عنها وتجميعها من قِبل آن-صوفي جيج في مؤلفها بعنوان: “المسار السياسي المشوب بالدماء”، « UNE ASCENSION POLITIQUE TEINTÉE DE ROUGE »
يَرْتَسِمُ للمرء الطرائق التي لجأت إليها السلطات البلجيكية في بروكسل للإساءة إلى سمعة باتريس لومومبا، عقب استقلال الكونغو بوقت قصير. من خلال تقديمه على أنه “وكيل للمعسكر الشرقي” و”الوجه البارز للشيوعية الصينية والسوفيتية في القارة الإفريقية”.
هذا ما يُستخلص من: “رسالة موجهة إلى رئيس وزراء بلجيكا، 14 يوليو/تموز 1960 (تضم مستندات خاصة بـ H. d’Aspremont-Lynden)؛ من الجلسة المنعقدة في 14 يوليو/تموز 1960، العدد 123، من الصفحات 4-5؛ مذكرة بعث بها إلى لندن، بون، باريس، وواشنطن، 15 يوليو/تموز 1960(43). يتضح فيها كيف بذلت بلجيكا جهودًا مضنية لإقناع الولايات المتحدة بموقفها، كون الأخيرة قائدة المعسكر الغربي. ادعت بلجيكا امتلاكها لأدلة وثائقية تثبت حصول لومومبا على دعم شيوعي للحملة الانتخابية المنتظرة في الكونغو.
في الأيام اللاحقة، ارتكب لومومبا خطأ حياته؛ حيث سارع إلى السفارة الأميركية، مصرًّا على نفي انتمائه للشيوعية أو المعسكر الشرقي.
آن-صوفي جي توثق ذلك قائلة:
“من خلال الوثائق السوفيتية، أصبح معلومًا اليوم أن لومومبا طلب الدعم من الاتحاد السوفيتي ثلاث مرات قبل الاستقلال، إلا أن هذه الطلبات لم تلق تجاوبًا. الطلب الأول، الذي تمت الإشارة إليه سابقًا، حدث خلال زيارة لومومبا إلى غينيا، في أبريل/نيسان 1959، حيث طلب من السفير السوفيتي، جيراسيموف، الإذن بزيارة الاتحاد السوفيتي. عقب تدخل ألبرت دي كونينك (شيوعي بلجيكي)، الذي أشاد بسافينوف، سفير الاتحاد السوفيتي لدى بلجيكا، لعلاقته الوثيقة وتأثيره على سيكو توري، الحليف الرئيسي للاتحاد السوفيتي في إفريقيا جنوب الصحراء في ذاك الحين، قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، بتاريخ 30 أبريل/نيسان 1959، استجابة لطلب الزعيم الكونغولي.
2024-05-04