يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكما ذكرت في إحدى مقالاتي السّابقة، وقبل اقدامه على غزو أوكرانيا، مصمم على استعادة كافة الأراضي التي اقتطعت من الاتحاد السوفياتي بعد انهياره، مستلهماً في ذلك تجربة القيصر الروسي بطرس الأكبر، الذي احتفلت روسيا بالذكرى 350 لميلاده، وهو الذي يعتبره بوتين مثله الأعلى، إذ يعتبر بطرس الأكبر من أهم القياصرة الروس الذين حولوا روسيا من دولة إقليمية أوراسية لإمبراطورية عظمى في أوروبا تنافس الامبراطوريات العثمانية والبريطانية والفرنسية والنمساوية، والتي كانت تعتبر القوى المسيطرة على أجزاء واسعة من أوروبا وأفريقيا و جنوب ووسط أسيا والقوقاز، وحتىّ أمريكا الجنوبية وكندا واستراليا والولايات المتحدة الأمريكية التي كانت عبارة عن مستعمرة تتقاسم النفوذ فيها عدة دول أوروبية، حيث ومن أجل استعادة الأراضي التي كان يراها بطرس الأكبر بمثابة الميراث الذي تركه القياصرة الروس، قام بغزو مملكة السويد وفنلندا و أجزاء من لاتفيا وليتوانيا. كما ذكر موقع BBC NEWS، بتاريخ 11جوان/ يونيو 2022م، في مقال بعنوان ( روسيا وأوكرانيا: من هو بطرس الأكبر الذي ” يسير بوتين على نهجه”).
وبالتالي فإن روسيا استطاعت في الماضي أن تتوسع على حساب الأراضي التي تراها امتداداً للثقافة السلافية، وتنتمي للمنظومة القيمية الشرقية للكنيسة الأرثودوكسية، باعتبار أن موسكو لا تزال ترى نفسها الوريث الشرعي والوحيد للإمبراطورية البيزنطية الشرقية المقدسة، حيث أن هناك تحالف ظاهر ووطيد ومعلن بين الكنيسة الأرثودوكسية في روسيا وبين الكرملين، إذ يحرص الرئيس الروسي بوتين على حضور كل المناسبات الدينية المسيحية الأرثودوكسية كلما تسنى له ذلك، وحتىّ ألكسندر دوغين الفيلسوف والمفكر الاستراتيجي الروسي، ذي الميول الشيوعية القومية، والمتبني لفكر الكنيسة الأرثودوكسية الديني، يؤكد في كل خرجاته الإعلامية وكتاباته بأن روسيا الحديثة ذات جذور مسيحية أرثودوكسية، لذلك عليها أن تكون المخلص للبشرية من الاستبداد والتسلط الرأسمالي الذي يوظف مختلف الأديان لخدمة أجندات النخبة العالمية الرأسمالية التي تتحكم باقتصاديات الدول وثرواتها الطبيعية، تحت ستار نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة، وقيم العدالة الاجتماعية التي هي عبارة عن وهم وسراب خادع في نظره لا وجود له، في ظلّ هذا النظام الرأسمالي الأحادي القطبية.
فالجيش الروسي الذي أحكم سيطرته بالكامل على كل الأجزاء الشرقية من أوكرانيا، قد نجح بالتالي في عزل إقليم الدونباس عن بقية الأراضي الأوكرانية، بعدما استطاع تدمير كل أنظمة الرصد والاتصال، ومراكز القيادة والسيطرة والتحكم، وكذا أنظمة التواصل اللاسكلي و عبر الستالايت بين القيادة المركزية في العاصمة كييف وقادة الوحدات الميدانية، وهذا ما أصاب معظم القوات الأوكرانية بالشلل، ودفع بالكثير من الكتائب والوحدات المقاتلة في الجيش الأوكراني لإلقاء السّلاح والاستسلام لقوات الجيش الروسي، ونجح كذلك في تدمير الكثير من شحنات الأسلحة المرسلة للجيش الأوكراني، والتي كانت تخزن في مستودعات حلف الناتو في بولندا، ثم تقوم بعد ذلك القوات البولندية بتسليمها للقوات الأوكرانية، وهو ما أثار غضب القيادة الروسية التي رأت في تلك التصرفات أعمال عدائية استفزازية لن تمر دون عقاب، وهي الدولة التي وصف رئيس وزراءها ماتيوش مورا فيتسكي بوتين بأنه أكثر خطورة من أدولف هتلر وجوزيف ستالين، بالإضافة لموافقة بولندا و رومانيا، على تركيب أجزاء من الدرع الصاروخية الأمريكية على أراضيها، وتحجج واشنطن بأن تنصيب تلك الصواريخ لا يستهدف الأراضي الروسية، بل سيتم استعمالها مستقبلاً لتدمير المنشآت النووية الإيرانية في أية مواجهة مباشرة بين الطرفين، ولكن الرئيس بوتين لم يقتنع بتلك الحجج الواهية، واعتبر تلك الدرع الصاروخية تهديداً مباشراً يستهدف الأمن القومي الروسي، حيث قال : في تصريح صحفي مشترك مع رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس” إذا لم يعرف الناس في رومانيا معنى أن تكون معرضاً للهجوم، فإننا اليوم سنكون مضطرين لاتخاذ قرارات معينة لضمان أمننا، نفس الشيء ينطبق على بولندا”). كما ذكر موقع الجزيرة نت، بتاريخ 28ماي/أيار 2016م، في مقتل بعنوان (بوتين يتوعد رومانيا وبولندا).
وقد تم تأسيس مملكة بولندا عام 1025م، وفي عام 1569م دخلت في شراكة سياسية مع دوقية ليتوانيا من خلال التوقيع على وثيقة اتحاد لوبلان، وتشكيل الكومونولث البولندي الليتواني، ودخلت بولندا في حروب طاحنة مع كل القوى التي حاولت احتلالها عبر التاريخ، ومنها الاتحاد السوفياتي، إذ دخلت معه في حرب طويلة في عهد الجمهورية الثانية، شاركت فيها الجمهورية الشعبية الأوكرانية إلى جانب السوفيات، وامتدت من 14 فيفري/فبراير 1919م لغاية 18 أكتوبر/ 1920م، وتوقفت الحرب يشكل نهائي، بعد توقيع معاهدة ريغا للسّلام في 18مارس/أذار 1921م، حيث تمّ تقسيم المناطق المتنازع عليها بين بولندا و روسيا السوفياتية، وحصلت وارسو على حوالي 200 كلم شرق حدها السّابق المعروف بخط كورون.
ولكن الاتحاد السوفياتي لم يقبل بسياسة الأمر الواقع، حيث قام الجيش السوفياتي بغزو الجزء الشرقي من الأراضي البولندية بعد 16يوماً من قيام القوات الألمانية باحتلال الجزء الغربي منها، بتاريخ 17سبتمبر/ أيلول 1939م، وتم ضمها للاتحاد السوفياتي بعد أن نجح الجيش الاحمر في مهمته، وفق اتفاق مولوتوف- ريبنتروب الموقع بتاريخ 22اوت/أغسطس 1939م، ومنذ ذلك التاريخ بقيت بولندا جمهورية تابعة للاتحاد السوفياتي حتى انهياره، وانفصالها عنه بتاريخ 30جانفي/ يناير 1990م، ومن ثمّ تأسيس ما عرف بالجمهورية الثالثة.
فالعلاقات التاريخية الصراعية تارة والتعاونية تارة اخرى بين روسيا وبولندا، ورغبة بوتين في إعادتها لكنف السّيادة الروسية عن طريق غزوها عسكرياً، لابعادها عن المحور الغربي الأمريكي، التي أصبحت عضواً في أهم حلف عسكري وسياسي فيه، المتمثل في حلف الناتو، وبالتالي فإنّ القيام بعملية عسكرية روسية ضدها تستهدفها بشكل مباشر، سيدفع دول الحلف الأطلسي للرد على هذا الهجوم الروسي، وذلك تفعيلاً للبند 5من اتفاقية الدفاع المشترك، التي تلزم الأعضاء في هذا الحلف بالرد على أي هجوم عسكري أو تهديد يستهدف دولة عضو في حلف الناتو، وهذا ما أكد عليه وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن عندما زار بولندا في شهر فيفري/ فبراير من العام الجاري، وذلك بعد إعلانه عن بيع الولايات المتحدة الأمريكية لحوالي 250 دبابة من نوع أبرامز للجيش البولندي، وذلك بعد نشر واشنطن ل 5000جندي أمريكي إضافي من قواتها في بولندا، بالإضافة لسرب من الطائرات المقاتلة، وقال : في مؤتمر صحفي مع نظيره البولندي ماريوس بلاشاك” لم نر انسحاباً للقوات الروسية، بل المزيد من الحشود، ونرى زيادة كبيرة للمعدات اللوجستية الروسية صوب الحدود الأوكرانية……. المؤشرات تدل على تحضيرات روسية للهجوم على الحدود الأوكرانية وأردف ” نحن على حافة أخطر نزاع منذ الحرب العالمية الثانية”. مثلما ذكر موقع قناة الحرة، بتاريخ 18فيفري/فبراير 2022م، في مقال بعنوان ( بوتين سيرى حلف الناتو قوي من الآن فصاعداً).
فالحرب الروسية على بولندا، أصبحت مسألة وقت، وذلك بعدما أكد الرئيس الشيشاني قاديروف بأن بلاده ستقوم بغزو بولندا، بعد الانتهاء من حربها في أوكرانيا، غير مبال بالتهديدات الأمريكية والغربية، التي تؤكد بأن الهجوم على بولندا، يعني بأن الدول الأوروبية لن تبقى مكتوبة الأيدي وسترد بقوة على الهجوم الروسي، وهذا ما سيؤدي لاندلاع الحرب نووية كبرى، لأن الرئيس بوتين قد أكد في أكثر من مناسبة بأن بلاده لن تتورع عن استخدام السّلاح النووي لضمان عدم خسارتها للحرب في أوكرانيا، لأن بوتين يعتقد بأنه يمارس جزء من السّيادة التاريخية على جزء من أراضي بلاده، ولا يحق لأية دولة أن تتدخل لأن ذلك شأن داخل روسي بحت، إذ أن موسكو تعتقد بأنه يحق لها قانوناً ضمّ هذه القطع الجغرافية التي اقتطعت من أراضيها وبالقوة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ويبدو بأن بوتين قد تعمد استفزاز الدول الغربية في العديد من المرات من أجل الرد عليه عسكرياً، بعد أن قام بقطع امدادات الغاز عن دول محورية ورئيسية في حلف الناتو، كألمانيا وفرنسا وإيطاليا، بالإضافة لعدة دول أخرى، بسبب رفضها التقيد بالشروط الروسية الجديدة لاستمرار تزويدها بهذه المادة الطاقية الضرورية لاستمرار اقتصاديات هذه الدول، أو لتقديمها مساعدات عسكرية متطورة للقوات الأوكرانية كما فعلت ألمانيا، فهذه العقوبات الروسية، قد أثارت حفيظة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي طالب صراحة من أسماهم بالحلفاء الغربيين بالاستعداد لخوض حرب طويلة الأمد في أوكرانيا، وحثهم بتقديم دعم متواصل لكييف، أو المخاطرة ” بأعظم انتصار للعدوان في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية”، وذلك في مقال نشره في موقع جريدة “صنداي تايمز”، وأضاف بأن الدول الأجنبية الداعمة لكييف، عليها أن تتحلى بالجرأة لضمان أن يكون لدى أوكرانيا ” القدرة على الصمود الاستراتيجي، وفي النهاية تحقيق النصر”. كما ذكر موقع رؤية بتاريخ 19 جوان/ يونيو 2022م، في مقتل بعنوان ( رئيس الوزراء البريطاني للحلفاء ” استعدوا لحرب طويلة في أوكرانيا).
فهذه الدول الأوروبية التي تدرك بأن شركة غاز بروم الروسية، التي قامت بقطع الغاز والكهرباء عن بولندا في شهر أفريل الماضي، لأنها تعتبرها من الدول الغير الصديقة التي لم تلزم بالشروط الروسية، إنما فعلت ذلك بغية زيادة الضغط على دول حلف الناتو التي ستكون مجبرة على إيجاد بدائل طاقية تعوض الغاز الروسي لتمويل بولندا، التي دفعت ثمن وقوفها إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الأوروبيين، فبوتين يحاول أحداث شرخ، وتصدع داخل معسكر حلف الناتو، خاصة وأن بولندا تعتبر جدار الصدّ الأول وقاعدة دفاع أمامية في وجه الجيش الروسي، لأن الحرب الروسية على بولندا ستكون حاسمة لأنها قد تتحول لحرب مفتوحة مع كل الدول الأوروبية، و ستطال عواصم دول غربية عدّة، ولن تبقى محصورة في أوروبا بالتأكيد، إذا تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عن شركاءها في حلف الناتو، وتشمل مناطق جغرافية آخرى كانوا شرق أسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وستكون حرباً مفصلية ستحدد من ستولى دفة القيادة العالمية في المستقبل المنظور.