ما بين الفعل المقاوم وهوية الفاعل : مساءلة الدوائر الفكرية في لحظة الانكشاف الفلسطيني!
خالد صالح عطية
ليست 7 أكتوبر لحظة ابتداء، بل لحظة انكشاف. ما جرى في ذلك اليوم وتداعياته المزلزلة على غزة والجغرافيا الفلسطينية برمتها لم يكن فعلاً معزولًا، بل انفجارًا تاريخيًا لعقود من الاختناق، ومراكمة مستمرة لأوضاع استعمارية أُعيد إنتاجها تحت عناوين مختلفة: تسوية، تنسيق، تطبيع، تأهيل ذاتي… إلى أن بلغ الانسداد حدًا لم يعد يسمح بالانتظار.
لكن ما انكشف لم يكن واقع الاستعمار وحده، بل أيضًا البنية الأخلاقية والفكرية لقطاعات واسعة من الدوائر الفكرية والفاعلين الثقافيين في فلسطين والعالم العربي، التي بدت عاجزة عن اللحاق بالفعل، فضلًا عن فهم ضرورته. اختزل كثيرون المشهد كله في هوية الفاعل – لأن الفاعل كان حركة إسلامية – وتناسوا عدالة الفعل، ومشروعية انفجاره، والشرط الوجودي الذي أنتجه.
من يسقط الفعل المقاوم في 7 أكتوبر من سياقه التاريخي يرتكب فعل محو. فالمقاومة الفلسطينية ليست ابن تنظيم، ولا اشتقاقًا إيديولوجيًا صرفًا، بل هي تعبير عضوي عن استمرارية الصراع مع منظومة استعمارية إحلالية بدأت قبل النكبة ولم تتوقف، حتى حين لبست ثياب “السلام”. من ينتزع الفعل من هذا السياق ويعلّق مشروعيته على هوية منفذه، إنما يُسقط من وعيه الشرط التحرري الأصيل: أن النضال يُقاس بالموقع من الاستعمار لا من بيانات البيان.
ما كشفت عنه هذه اللحظة لم يكن مجرد انهيار التمثيل السياسي الرسمي، بل انكشاف البنية المهترئة للخطاب السائد في بعض الأوساط الفكرية، الذي استمرأ الوقوف على هامش الحدث، بذرائع التحليل، والموضوعية، والتجريد، بينما هو يمارس – في العمق – نوعًا من الفرز الانتقائي للفعل المقاوم: يدين ما لا يُناسبه، ويُبرّر ما يُعزز سرديته. النتيجة: مساهمة غير واعية في تطبيع معيار الهيمنة، وتجريد الفعل الفلسطيني من عدالته، فقط لأنه لم يُنفّذ بأدوات صالحة لخطابه.
الفعل المقاوم لا يُختزل في الفاعل. هذه بديهية تحررية يعرفها كل من اشتبك مع تجارب التحرر في الجزائر، جنوب أفريقيا، فيتنام، أو نيكاراغوا. لم تكن المقاومة يومًا حكرًا على حزب، ولا امتيازًا لفئة، بل تجاوزت دومًا أدواتها ومضامينها لتكون فعلًا يعيد تعريف المجال العام. ما نحتاج لتأكيده، دون مواربة، هو أن شرعية الفعل تُستمد من عدالة المواجهة لا من هوية الفاعل. وتقييم الفعل يكون بمدى استهدافه للبنية الاستعمارية، وبقدرته على زعزعة التوازن القائم، وتجديد الإيمان بالحق، لا بانتماء من نفّذه ولا شكله الإعلامي.
ورغم أن التمثيل السياسي تحول إلى هياكل مجوّفة، فإن الفعل الشعبي المقاوم – أياً كان مصدره – يبقى صوت المجتمع حين يُحاصر، ورد فعلٍ عضوي على تآكل الشرعية، وفقدان الأمل، وخذلان الداخل والخارج.
لكن في خضم هذا، يبرز سؤال وجيه لا بد من مواجهته: هل كان الفعل المقاوم في 7 أكتوبر مغامرة غير محسوبة؟ هل أُخذت الكلفة البشرية والسياسية بعين الاعتبار؟ وهل كانت هناك خطة لحماية المجتمع من الردّ الكاسح المتوقع؟
هذه ليست أسئلة تخوين أو اصطفاف، بل أسئلة صادرة من عمق الوجع، من بين الأنقاض، ومن وجدان يرى المشهد وهو ينزف. أكثر من 56 ألف قتيل و132 ألف جريح بحسب تقديرات رسمية حتى يونيو 2025، فيما تقديرات مستقلة تشير إلى تجاوز الرقم حاجز 80 ألف شهيد. غزة مدمّرة بالكامل، تعيش أسوأ حالات التجويع الجماعي في العصر الحديث، وسط صمت دولي وخذلان عربي شامل. في وجه هذا كله، لا يصح أن نردّ على السؤال بالإدانة، ولا بالهروب، بل بالفهم.
ما يجعل الفعل مقاومة وليس مقامرة هو السياق. حين يُمنَع عنك الهواء، ويتحوّل الحصار إلى شكل من الموت الإداري اليومي، يصبح الفعل – مهما بدت نتائجه فادحة – ضرورة وجودية لا رفاهية تكتيكية. غزة لم تكن تختار بين الحياة والمقاومة، بل بين الموت الصامت والموت الصاخب. وما جرى لم يكن فعلاً نخبويًا ولا قرارًا فوقيًا، بل صرخة جماعية مكتومة خرجت من جسد محاصر.
لكن هذا لا يُعفي المقاومة من مسؤولياتها التاريخية. فالفعل الذي لا يُؤطَّر بمشروع سياسي، ولا تُعدّ له الأرضية الشعبية، ولا يُصاحب بخطة حماية للمجتمع، يُعرّض الدم للضياع، ويُسلم المعنى للخصم. وهنا، لا بد من الاعتراف بأن غياب المشروع الجامع، والقصور في بناء أفق سياسي ما بعد الفعل، جعل من النتائج كارثية، ليس فقط على المستوى الإنساني، بل على البنية المعنوية للصمود نفسه.
وهنا، لا بد من مساءلة أبعد من اللحظة: مساءلة البنية الحاملة للفعل، وتحديدًا الحركات الإسلامية التي وُضعت في موقع القيادة لا لأن مشروعها كان تحرريًا شموليًا، بل لأنها كانت الوحيدة التي تجرأت على المواجهة حين صمت الجميع. غير أن هذا التجرؤ لم يُترجَم إلى مشروع يتجاوز أدواته، بل ظلّ محصورًا داخل رؤية أيديولوجية مغلقة، تُعيد إنتاج مفاهيم الدولة، والمجتمع، والهوية، ضمن منطق التمكين لا التحرير، ومنظور الحكم لا الانعتاق.
لقد بات واضحًا، بعد أكثر من636 يوم من الإبادة، أن الفعل المقاوم، إذا بقي حبيسًا في بنية تنظيمية لا ترى الإنسان بل ترى التنظيم، ولا تقرأ الدم بل تقرأ التمكين، سيتحوّل من مقاومة إلى وسيلة تفاوض، ومن نضال إلى استثمار رمزي في السوق الإقليمي.
وهنا، فإن نقد الحركات الإسلامية لا يعني خصومة مع المقاومة، بل انحياز للدم، وللحق، وللتحرر من داخل الفعل، لا من خارجه. فهل يملك من يقود الفعل اليوم رؤية تتجاوز الدولة الأمنية ذات العمامة؟ وهل يجرؤ على تحويل المقاومة إلى مشروع تحرري لا مشروع سلطوي مؤجل؟ أم أن الدم الفلسطيني سيُستهلك مرة أخرى، باسم “الرباط”، كما استُهلك قبله باسم “التحرير”؟
المقاومة لا تكفي، إذا لم تتحرّر هي نفسها من المشروع الذي يبتلعها.
المجزرة الجارية في غزة ليست فقط تدميرًا عمرانيًا، بل تدمير لبنى الوعي والانتماء. وما نراه من تشظٍّ سياسي، وتفكك مجتمعي، يقابله صعود أشكال بديلة من الوعي المقاوم، تتجاوز الأطر التقليدية وتبحث عن معنى جديد للفعل. لكن هذه الطاقة المولّدة يمكن أن تنفجر في الفراغ إذا لم يُؤطّرها مشروع وطني جامع، يتجاوز الثنائيات البالية، ويربط المقاومة بالتحرير لا بالاحتواء، وبالناس لا بالحسابات.
في المحصلة، نحن أمام لحظة فارقة، لا تحتمل خطاب المواربة ولا الغرق في التحليل البارد. العدو واضح، المجزرة جارية، والناس تُباد، فيما تنشغل بعض الدوائر الفكرية والفاعلين الثقافيين في جدل بيزنطي حول “شرعية” فعل لم يُنجزوه هم، لكنهم عاجزون عن تجاوزه.
الفعل المقاوم ليس مقدّسًا، لكنه ابن الحاجة، ابن الانسداد، ابن اللحظة التي ينعدم فيها الهواء. ورفضه فقط لأنه لا يُشبه أدواتنا الفكرية، هو شكل من أشكال الإنكار النرجسي لا النقد البنّاء. إن لم نُعد الاعتبار للفعل النضالي من حيث معناه وجدواه، ونفك ارتباطه بهوية من نفّذه، فسنبقى في الدائرة نفسها: شعب يُقاوم، وفاعلون ثقافيون يُنظّرون، وسؤال “ثم ماذا؟” معلّق في الهواء، فيما يواصل العدو إعادة تعريفنا خارج التاريخ.
2025-07-06