قراءة في جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر!
بقلم: كمال أبو سنة
حين كنت أؤلف كتابي الموسوم بـ”المنهج الدعوي للإمام محمد البشير الإبراهيمي من خلال آثاره”، كان لزامًا عليَّ يومها أن أعقد فصلًا عن الواقع الاستعماري الذي وُلِدَ فيه إمامنا الإبراهيمي. مما اضطرني للغوص في كتب التاريخ التي أرّخت لمرحلة دخول فرنسا محتلةً لأرض الجزائر، التي كانت تابعةً للخلافة العثمانية، التي بدأت في هذه المرحلة تشيخ وتضعف.
هالني ما قرأته من مجازر ومذابح وإرهاب وإبادات راح ضحيتها الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، بل حتى الحيوانات لم تسلم من مذابح الجيش الفرنسي الذي جَاسَ خلال الديار الجزائرية بعقيدة وحشية لا يشبهها -فيما اطّلعت من تاريخ الإنسانية- أي مثال آخر، إلا جزء مما يحدث لإخواننا المستضعفين اليوم في غزة المقاومة التي يُباد أهلها أمام مرأى العالم، ولا أحد يتحرك للأسف.
لقد اتضح لي أننا نحن الجزائريين، بما فينا كثير من نخبنا السياسية والثقافية والفكرية والتعليمية، لا نعرف من تاريخ هذه الحقبة الاستعمارية المأساوية، التي امتدت من سنة 1830م إلى غاية 1962م، إلا قليل القليل، ولم نحصل من المعلومات إلا على جزء بسيط لا يعطي صورة حقيقية عن الوحشية التي تعرّض لها أجدادنا بعد احتلال الجزائر من طرف فرنسا، التي كانت تزعم أنها متحضرة وجاءت لتعلّم الجزائريين الحضارة. وهي في الواقع علامة سيئة في التاريخ على إرهاب الدولة، فسِجِلُّها الإجرامي ضد الإنسانية يجعلها تحتل المرتبة الأولى في سلم الدول التي قادت أعظم الإبادات المنهجية في التاريخ الإنساني.
لقد تمكّن الاستعمار الفرنسي من الوصول إلى كثير من الأهداف التي خطط لها بعد غزوه العسكري المجرم، الذي استعمل كل الوسائل الوحشية لاحتلال الأرض وإبادة ما استطاع من الجزائريين، مثل مجزرة قبيلة العوفية بالحراش التي أبادها بالكامل، ومحرقة أولاد رياح، ومحرقة الأغواط، وغيرها من الإبادات والمحارق الموثقة… وسعى بأساليب مختلفة إلى تغيير المجتمع الجزائري تغييرا يخدم وجوده في الجزائر، فيصبح الجزائري فرنسيًّا مندمجًا في الهوية الفرنسية الجديدة، وأرض الجزائر قطعة مرتبطة بأرض فرنسا لا يفصل بينهما إلا البحر المتوسط.
هالني ما قرأته من مجازر ومذابح وإرهاب وإبادات راح ضحيتها الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، بل حتى الحيوانات لم تسلم من مذابح الجيش الفرنسي الذي جَاسَ خلال الديار الجزائرية بعقيدة وحشية لا يشبهها -فيما اطّلعت من تاريخ الإنسانية- أي مثال آخر، إلا جزء مما يحدث لإخواننا المستضعفين اليوم في غزة المقاومة التي يُباد أهلها أمام مرأى العالم، ولا أحد يتحرك للأسف.
وقد وصف الإمام محمد البشير الإبراهيمي بعض آثار الغزو الفرنسي في جانبه الثقافي والاجتماعي، بقلمه البليغ، فقال: “الاستعمار سِلٌّ يحارب أسباب المناعة في الجسم الصحيح؛ وهو في هذا الوطن قد أدار قوانينه على نسخ الأحكام الإسلامية، وعبث بحرمة المعابد، وحارب الإيمان بالإلحاد، والفضائل بحماية الرذائل، والتعليم بإفشاء الأمية، والبيان العربي بهذه البلبلة التي لا يستقيم معها تعبيرٌ ولا تفكير”. [آثار الإمام الإبراهيمي: 3/46-47].
وهذا بعض ما شهد به الكاتب والرحالة الألماني “جورج فيلهام سيمبر”، الذي زار الجزائر عام 1831م أي سنة بعد الاحتلال، فقال: “قد بحثت قصدًا بين السكان في مدن الجزائر عن شخص واحد يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلّما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب”. [الجزائر في مؤلفات الرحّالين الألمان 1830م- 1855م، ص 13].
وقد خرجت فرنسا من الجزائر مهزومة مدحورة، تاركةً أغلب الشعب الجزائري يعاني من الأمية والفقر والأمراض المختلفة.
إن دماء الملايين من الشهداء الجزائريين الذين استُشهدوا دفاعًا عن الجزائر في ساحات الجهاد المقدس، أو ممن أبادهم الجيش الفرنسي الهمجي من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال في القرى والمداشر، لتَنْطِق داعية إلى محاسبة فرنسا على ما اقترفته وما نهبته.
وأوّل ما يجب علينا من حق هؤلاء الشهداء، سلطةً وشعبًا، هو الاستقلال النهائي، ماديًّا ومعنويًّا، عن هذا الكيان الاستعماري الذي ما يزال يتعامل مع الجزائر بعقلية “الأنديجينا” وكأنها ما تزال مستعمَرة من مستعمراته القديمة.
إن اعتراف فرنسا بجرائمها، لو أرادت أن تعترف يومًا ما إذا صحا ضمير بعض أبنائها، لن يعيد للجزائر ما فقدته من ملايين الأنفس المزهَقة، ولن يضمد الجرح الغائر الذي خلفته آلتها الحربية سنوات الاحتلال العسكري، وما أصاب هويتها من سنين الاستعمار الثقافي والفكري أشد جرمًا وأعظم، ولن يوازيه أي تعويض.
ولعل الأمر الأساسي اليوم، إلى جانب إصدار قانون تجريم الاستعمار الفرنسي الوحشي، هو أن يتحرك في مساره الوطنيون، من خلال تفعيل مطلب استرجاع أرشيف الجزائر ومخطوطاتها التي سرقتها فرنسا في بداية احتلالها، والتعويض المادي عما استنزفته من ثروات مدة 132 سنة من الاستعمار، وتحصيل ديون الجزائر على فرنسا المقدرة بـ20 مليون فرنك فرنسي أيام الداي حسين، واسترجاع ما نهبته من خزينة الدولة الجزائرية في ذلك العهد المقدرة بـ50 مليون جنيه إسترليني ذهبًا، ويكون التعويض بالتقديرات الحالية.
إن اعتراف فرنسا بذنبها، رغم أنفها وأنف ساستها، قادمٌ اليوم أو غدًا أو بعد ألف غد إن شاء الله، وإن لم يأتِ فلن يضرَّ الجزائرَ شيئًا.
ولكن على الوطنيين أن لا يغفلوا عن حق الأجيال القادمة في استرجاع ما نهبته فرنسا مدة احتلالها للجزائر، فالحقوق لا تسقط بالتقادم.
2025-04-14