خرافة الزئبق الأحمر!
رنا علوان

مادة ذاع صيتها والجميع يرغب في الحصول عليها ، أشخاص ، دول ، منظمات ، وقبل الغوص في الغموض المتأجج حولها ، سأقوم بتعريفها
الزئبق هو عنصر كيميائي له الرَّمز Hg وله العَدَدُ الذَّرِّيُ 80 ، وفي الظروف القياسيّة من الضغط والحرارة يكون الزئبق سائلًا ، كثافتهُ (13.54 غ/سم3)، بلون فضي مائل للزرقة يشبه الرصاص في مظهره ، يتجمد عند (-38.9 درجه مئوية)، ودرجة غليانه (356.9 درجة مئوية)
بينما الزئبق الاحمر فهو [ كبرتيتد الزئبق الثاني ، صيغته الكيميائيّة (HgS) وهو عبارة عن مادة صلبة بلوريّة ] ينسب الفضل في إكتشافه الى ابو الكيمياء جابر بن حيان
وله من الأسماء الزنجفيير ، السينابار ، الزيركون ، يمتاز بلونه القرمزي الاحمر وهو العامل الوحيد المشترك ، هذا المعدن يتم استخراجه من الاحجار يستخرج من المناجم
استعمل منذ القدم بهدف التجميل فتم وضعه في المستحضرات وخصوصًا احمر الشفاه ، والطلاء الأظافر ، كما استخدامه في تلوين الأواني ، الا ان التأكد من سميته دفعت الى التوقف عن استعماله
ولكن ما ذكرت أعلاه ( ليس هو الزئبق الاحمر الذي أثار الكثير من الجدل والغموض )
ولنبدأ من مصر والحضارة الفرعونية فيها ، ولنعود أدراجنا الى ابو الكيمياء جابر بن حيان كما ذكرنا آنفًا ، حيث كان أول من كشف عنه وربطه بحجر الفلاسفة واكسير الحياة ، وان مكانه في احدى اقدر واعرق الحضارات ، واكثرها اثاره للجدل [ الحضاره الفرعونيه بأهراماتها ومقابرها ]
وقد كان أول من كشف عن التركيب الكيميائي الاحمر الغامض ، وانه هو حتمًا اكسير
وبالتالي سيكون مكان البحث عن هذه المادة هو الاهرامات ، وبذلك من البديهي ان يكون المصريون القدامى قد اكتشفوه قبل قرون مضت ، ولكن هناك حادثة حصلت قد فتحت باب البحث والتساؤلات على مصرعيه ، وهي حادثة فتح التابوت الأسود في الاسكندرية والذي يعود الى أحد الملوك ووجود زجاجة تحتوي على مادة حمراء داخلها ، ما دفع بعلماء الروس الى شد الرحال الى مصر
وبإذن من الرئيس جمال عبد الناصر ، تم فتح الزجاجه ودراسة السائل الغريب فيها ، ليتبين لاحقًا انها تحوي على نشارة الخشب ، ودهون عطريه وغيرها من مواد التحنيط اما عن سبب تحولها الى سائل لزج فأيضًا الجواب عند العلماء المصريين الذين افادوا انه من المعروف ان المصريين القدماء كانوا يحكمون غلق توابيتهم وبالتالي حدث تفاعل بين سوائل الجسد وهذه المواد ادى الى اكتسابها اللزوجه
ولكن حادثة بهذه الغرابه لا يمكن ان تمر مرور الكرام فالشارع المصري اخذ المعلومه وحولها الى اسطوره اسمها الزئبق الاحمر الفرعوني
ورغم انتشار حقيقة المعلومة والتوسع بها الا ان العديد من المصريين وغير المصريين على حد سواء يؤمنون بل ويجزمون ان المومياوات الفرعونيه جميعها تحتوي على الزئبق الاحمر
فالفراعنه كان يؤمنون بالخلود بعد الموت وكنوزهم كانت معهم ، لذلك ، ولمنحهم الخلود وحمايه كنوزهم كان يجب وضع الزئبق الاحمر مع كبار حكامهم ، والتي كان يطلق عليها اسم ( البلحة ) نسبةً للشبه بينها وبين تلك الثمرة
هذه البلحة يتم وضعها في حنجرة المومياء بحسب ما هو منتشر لذلك يتم فصل الراس عن الجسد
وبعد هذه الإشاعة والخرافة ، وصل الجهل بالبعض للإنسياق وراء بعض السحرة الذين يطلبون دم طفل او شخصًا ( زوهريّ ) من أجل استخراج الزئبق الأحمر من المقابر
ومع ثقافة انتشار المعلومات المغلوطة بين المصريين وانتشار خرافة الزئبق الأحمر ، وقدرته على تسخير الجن وفعل المعجزات وشفاء الأمراض ، وأنه غذاء أساسي للجن يمنحه القوة والشباب وقدرات مبالغ فيها من السحر ، وغيرها من التخاريف ، دفعت بأمير سعودي الى التوجه لمصر من اجل الحصول عليه لشفاء والدته ، وهذا ما جعله فريسة بين فكي هواة النصب والاحتيال ، في حادثة تم تسليط الضوء عليها ، ما دفع بالدولة المصرية الى التحرك لوضع حد لهذا الأمر
ولكن من وقتها والأمر لم يتوقف لحظة ، والنصب والاحتيال والسرقة مستمر بسبب وهمّ هذا الزئبق الأحمر ، رغم تلك التحركات
وهذه الخرافة هي من ضمن سلسة من الخرافات التي لا أساس لها من الصحة وتشيع بين المصريين مثل خرافة لعنة الفراعنة والتي كان آخرها عيون أبو الهول التي أغمضها
وفي عام 2009 راجت في السعودية إشاعة حول احتواء مكائن الخياطة [ سنجر ] على مادة الزئبق الأحمر ، وهو ما أدى إلى تدافع البعض لشراء مكائن الخياطة من هذا النوع بأسعار هائلة ، وقد ترواحت مبررات الشراء بين مزاعم استخدام الزئبق الأحمر في استخلاص الذهب واكتشاف مواقع الكنوز المدفونة ، شرطة الرياض نسبت إطلاق تلك الإشاعات إلى عصابات النصب أيضًا
اما في روسيا في مطلع تسعينيات القرن الماضي تم تسريب معلومة مفادها أن السوفييت استطاعوا تطوير قنبلة نيوترونية صغيرة الحجم ، إذ وصفت بأنها بحجم كرة البيسبول ، وأن بإمكانها القضاء على سكان مدينة كبيرة بحجم لندن ، من دون أن تدمر المكونات المادية فيها كالبنايات والطرق والجسور والسيارات ، بل [ تقتل الكائنات الحية ] فقط
كما يدخل الزئبق الأحمر في صناعة القنابل الاندماجية إذ يستعمل كمفجر ابتدائي بديل عن الوقود الانشطاري المستخدم في القنابل الاندماجية ، وان هذه الماده يمكن استخدامها بدلاً من البروتونيوم او حتى اليورانيوم لصنع قنبله نوويه شديده الخطوره
وقد أيد هذه المزاعم ( الفيزيائي صامويل كوهين ) مخترع القنبلة النيوترونية ، إلا أن هذا الزعم يتعذر تصديقه علميًا ، لأن أي تفجير تقليدي لمادة ما لن يقدم سوى طاقة غير كافية وضئيلة جدًا مقارنة بالطاقة التي يوفرها الوقود النووي الانشطاري
وأن لب هذه القنبلة هو مادة «الزئبق الأحمر» ولم يعرف حينذاك ، هل كان الأمر مجرد تسريبات ليس لها أساس علمي ، وما اتضح لاحقًا انها كانت مجرد بروباغندا إعلامية تصب في خدمة الحرب الباردة السوفيتية
اما فى عام 1994 نشرت القناة الرابعة البريطانية فيلم وثائقى يفترض أنه يكشف أسرار سوفيتية نووية باسم Trail of Red Mercury and Pocket Neutron ، ولكن الملاحظ أن الفيلم الوثائقى جاء بعد عام واحد من نشر تقرير بصحيفة “برافدا” الروسية يدعى أن مذكرات سرية تم تسريبها عن الاتحاد السوفيتى المنهار تتحدث عن أن [ أمريكا هى من يملك المادة الخارقة والتى يتم استخدامها فى تصنيع قنابل نووية وصواريخ توجه نفسها نحو الهدف ]
نأتي الى استخراجه من بقايا الحيوانات وتحديدًا الخفاش ، ومن غير المعروف من اين خرجت هذه المعلومة ولكن تقرير البي بي سي اشار الى ان اشهر انواع الخفافيش التي بحسب المعتقدين تحتوي اعشاشها على ماده الزئبق الاحمر هي الخفافيش المعروفه بمصاص الدماء ، الأغرب من كل هذا هو ما يتداول حول اماكن وجود هذه الماده الغامضة
زعم آخر من المزاعم ، انتشر في عقد التسعينات هو أن الزئبق الأحمر يسهل عملية تخصيب اليورانيوم بدرجة عالية يتيح استعماله للأغراض العسكرية ، وذلك دون الحاجة لأجهزة الطرد المركزي التي يسهل تعقبها دوليًا من قبل الدول والمؤسسات التي تعمل على منع انتشار الأسلحة النووية
أما أخر شائعة ، فقالت بأن الزئبق الأحمر ليس اسمًا حقيقيًا وإنما اسم شيفرة code name يشير ببساطة إلى اليورانيوم أو البلوتونيوم ، أو ربما إلى الليثيوم 6 وهي مادة لها علاقة بالزئبق ولها لون يضرب إلى الحمرة بسبب بقايا المواد الزئبقية المختلطة بها
وإن كانت استخدامات الليثيوم 6 في الأسلحة الاندماجية تغطيها السرية
وهناك مزاعم أخرى عديدة قدمتها صحيفة برافدا الروسية عام 1993 كان من بينها استخدامات الزئبق الأحمر كطلاء للاختفاء من الرادار وكمادة تدخل في صناعة الرؤوس الحربية الموجهة ذاتياً
ختامًا ان ما جعل لهذه الشائعة ان تنتشر في الماضي كالنار في الهشيم ، هو أن البنية العقلية العميقة لبني الانسان هي بنية خرافية بامتياز ، والخرافة والاسطورة سابقة في وجودها على كل من العلم والفلسفة معًا ، وعليه أي معلومة غريبة تستطيع أثارت الدهشة والفضولية لدى الانسان ، بسبب أثرًا كبيرًا في رسم انطباعات متعددة في دماغه الجنيني النشأة والتفاعل
إن الفضولية والخوف والجهل والأحلام والصراع من أجل البقاء ، قد خلقت لدى الانسان شوقًا عارمًا لتفسير وايجاد مبررات لما يجري حوله في الطبيعة ، كما خلقت لدى الانسان نزوعًا قويًا لاجتراح عتمة المستقبل والمصير ، وعلى طول التاريخ كان نزوعه هذا في ازدياد وتشعب ، ولم يكن لديه من العلم ما يكفي لمجموع التساؤلات وهذه النوازع ، لهذا وجد في الخرافات والأساطير وسائل مثالية لبلوغ ما يصبو إليه
2023-05-24