الفتى الناصريّ: أحمد مناصرة حرّ!
رياض ملحم
الحرّية ليست شيئاً يمنحك إيّاه الآخرون، إنّها شيء تعيشه في روحك وهي الحياة نفسها. أحمد مناصرة يعلّمنا هذا، ذلك الفتى الذي كبُر قبل أوانه في الأسر، أحمد الذي “لا يتذكّر” هو ذاكرتنا التي لن تمتلئ إلا بمثيله، بكلّ أسيرٍ وشهيدٍ ومقاتل، حتّى لو كان الثمن هو الموت، فليكن.
أحمد مناصرة، سنواتٍ عشر قضاها في الأسر، أسره كان درب الجلجلة التي قطعها منذ عقده الأول، هو الشاهد على المأساة وهي تنمو يوماً إثر يوم، وهو الناصريّ الذي رفع صليب ذاكرتنا ومشى به وبنا مستقيماً فوق صراط القضيّة.
سمعتُ العديد من شهادات الأسرى المحرّرين، قرأتُ عنهم، شاهدتُ عيونهم وملامحهم، وتساءلت، كيف أمضوا العمر هكذا في الزنازين الضيّقة حيث يضيق القلبُ معها وتتصلّب الدنيا؟
ثمّ تنتبه، يقرصُك الحقّ وتدرك أنّ الروح لا تُسلب لمجرّد أنّها أُسِرَت، وأنّ الجسد لا يعود قفصاً للروح حين يكون هو ذاته بين ظلمة الجدران الأربعة، ليس لأنّ في المسألة شاعريةً مخبّأة، بل لأنّ الحياة أشدّ تمسكاً بمن يتمسّك بها، هي المدى والسهل وبساط الريح، هي النصير الذي سيعلّمك أنْ تنزف كثيراً كيلا ترفع بيض الرايات لسجّانك.
للشجاعة والصمود كلفة إذن، ولا يستطيع أيّ إنسان دفعها إن لم يعِ حجم اختياراته وانتمائه لقضاياه، الأمر أشبه بشوك الورود، فشوك الوردِ ليس عطباً في الورد، إنّه ملاكها الحارس ضدّ أكفّ القاطفين. الأسر، هذا الوخزُ في الروح، جميلٌ.. ويكفينا أنّنا نملك كلّ هذا الجمال في قضايانا، جمال الفداء والتضحية، جمال البذل والصبر، حتّى تكون فلسطين دوماً هي الكفّة الأخرى في ميزانِ معنى أن نكون.
ثمّ إنّ الأسر من حيث هو قبضٌ على حرّية المأسور لا على الأسير ذاته، يعني أنّ السجّان تخيفه الحرّية، تخيفه حتّى وإن مارس الأسر داخل الأسر. لذلك يتفنّن الإحتلال ليس في أساليب تعذيبه وحسب بل كذلك في اجتراح مساحاتٍ أضيق للسجن، فتصير الزنزانة منغلقة على نفسها في ما يسمّى ب”الإنفراديّ”. يُسمّى الإنفرادي بهذا الوصف ليس لأنّ السجّان يتعمّد سجْنَ الأسير به بمفرده منفصلاً وبعيداً عن الأسرى الآخرين، بل لأنّه يشكّل استعارةً لتكثيف فكرة القيد، بحيث يتقصّد المحتلّ هكذا أنْ يجعلك منفصلاً عن ذاتك، إذ يظنّ الوحدة أن تكون منسلخاً بمفردك عن حرّيتك التي تملؤك، إنّها سادية العبودية على النفس، تمرّسٌ مقيت يتعلّمه الإحتلال كلّما أوغل في حقده، ثمّ يحاول إسقاطه على الجغرافيا حين يمعن في الحصار.
أحمد مناصرة هو الآن حرّ. ويتذكّر كلّ شيء، لم ينسَ حتّى يتذكّر، فالإحتلال لا يُنسى إلّا حينما يزول. ولكن مناصرة علّمنا الكثير من الأشياء، أهمّها أنّ “التناسي” فعلٌ مقاوم، ألّا تعطي عدوك ما يريده حين تكون أعزلاً. أن تمتلك ذاكرتك بعنادٍ وإصرار، لأنّ الذاكرة أرشيفُك وأرشيفُك هو أنت قبل الأسر وأثناءه وبعده.
2025-04-14
تعليق واحد
ان الابواب لم تبقى مؤصدة الى الابد في وجه الحرية