أيتها المجهولة*
محمد ابو عريضة
اختلطت بيني وبيني تفاصيل الحديث، فقد كنت مشدوهًا، أنظر إليكِ، كأني ابن الثانية والعشرين، أتجول معها في الحديقة ..
بالكاد تمكنت من إكمال كلامي معكِ، حتى برقت أمامي ومضة، مرت بسرعة، تجلت فيها ذاكرة ربع قرن مضى.
لا أبالغ إذا قلت لكِ أني لم اشأ العودة، حينما وعدتك أن أعود في الثانية والنصف، لاستكمال ما كنا قد بدأناه، لكني عندما غادرت المكان، شعرت بأن يدًا قوية تمسك بتلابيبي، لتعيدني إلى المكان، وكأن يد القدر تقود الناس، لتشكيل أحداث، لا يرغبون فيها، فتلكأت في قبول العمل في محاولة مني للتحايل على ذاتي، كي أبتعد، لكن هيهات.
أيقظت بداخلي، أيتها المجهولة، ما كان قد مات فيَّ، ونسيت مع الأيام أني أحمله بين ضلوعي، أيقظت قلب طفل تضوعت منه يومًا كل مفردات الوجد، ولمّا عاد كي يجمعها إليه، تاه في دروب البحث عنكِ، فلم يجدكِ، وإذا به اليوم مقبل على الخمسين مع زوجة وأربعة أطفال، وقلب ينبض بشرايين بلاستيكية، وسكري وضغط وفقر، وملف، حتى “أبو صابر” لا يستطيع حمله، وإرشيف يتوه المرء فيه إن كان عالمًا، فما بالك بالآخرين.
أنيستي
لست عاشقًا لاكتوي بنار الوجد، وإن كنت كذلك، فلم يعد في “العود” ما تستطيب طعمه النار، فالنار لا توالي إلا أصحاب الشِّدَة، فلديهم ما يجذب النار إليه، أما أنا فالنار تبتعد عني، لأني بقايا إنسان، فالنار لا تنشب إلا لمن كان في مقتبل العمر.
لست تاجرًا لأنضوي تحت لواء “الكوميشن”، واصبح بعد حين كمثل الذي اشترى سهرًا بنوم، وأسأل نفسي: لمَ ضيعت ربع قرن، إذا ما كانت نهايتي، هي بدايتي نفسها.
كنت، حينذاك، بازًا بين اترابي، وأقدر أن أفوز عليهم في مهرجانات “البزنس”، لو كنت قد ارتضيت هذا الخيار.
أيتها المجهولة
لست مستجيرًا من الرمضاء بالنار، فما تبقى لدي لا يكفيني لأموت واقفًا وسط أشجاري، فهل أسلك دربًا، أخوض مزالقها، هي من صنع رجل مقبل على الخمسين، يدّعي أنه أبلغ من قس بن ساعدة، وأوفى من السموأل، وأشعر من أمرؤ القيس، واكثر دهاءً من معاوية بن أبي سفيان، واكرم من حاتم الطائي، وأشجع من عنترة، وأحلم من سعيد، وأزكى من إياس، وأعز من الأبلق العقوق، وأقرى من آكل الخبز. مع ذلك فإن عينيكِ ما زالتا تجلسان تحت رموشي، وما زال نهدك الأيسر يلامس راحة يدي اليمنى، وما زلت منتهى المنال وآخر الصور.
*نص كتبته قبل أكثر من خمسة عشرعامًا، حينما التقيت سيدة في مؤسسة إعلامية، كانت قد عرضت عليّ عملًا، ولمّا رأيت الشبه الكبير بين هذه السيدة، وفتاة كنت قد احببتها حد الجنون، اعتذرت عن هذا العمل، لأنني خشيت على نفسي من نفسي
2024-07-27