التقريب بين المذاهب في الإسلام
الموجبات والمعوقات والآفاق
نقاط تأسيسية
بحث بقلم الأستاذ الدكتور جورج جبور
رئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة
الرئيس المشارك، لجنة العمل الإسلامي المسيحي
الخبير المستقل لدى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة
سابقاً: أستاذ زرئيس قسم السياسة في معهد البحوث والدراسات العربية
التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم
(ويعبّر البحث عن رأي صاحبه الشخصي)
مقدم إلى ورشة العمل الدولية حول
الإسلام بين التوحيد والتعدد
التي ينظمها المعهد الأعلى لأصول الدين في
جامعة الزيتونة بالتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور الألمانية
تونس : 30 – 31/10/2007
المحتويات الصفحات
الإهداء 2
أولاً: مقدمات 3 – 4
ثانياً: موجبات التقريب 5 – 8
ثالثاً: معوقات التقريب 8 – 15
رابعاً: آفاق التقريب 15 – 18
خامساً: كلمات على سبيل الختام 18 – 20
الإهداء:
إلى ذكرى السيد الوالد نقولا جبور جبور ، وذكرى السيدة الوالدة سلمى إبراهيم الكوسا، رحمهما الله، اللذين كانا مثلاً يحتذى في مسيحيتهما، واللذين كانا دائماً يُرَغّبان أولادهما في الانفتاح على الثقافة الإسلامية.
وإلى ذكرى أساتذة ست تلقيت عليهم في كليتي الحقوق والآداب بجامعة دمشق، قبل نصف قرن، أصول الدراسة المنهجية في الإسلاميات، وكنت أحوز في امتحانات مقرراتهم درجات عليا:
1- الأستاذ الدكتور الشيخ محمد معروف الدواليبي، رحمه الله
2- الأستاذ الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، رحمه الله
3- الأستاذ عبد الكريم زهور، رحمه الله
4- الأستاذ الدكتور الشيخ محمد مصطفى السباعي، رحمه الله
5- الأستاذ الدكتور عادل العوا، رحمه الله
6- الأستاذ الدكتور عبد الكريم اليافي، أطال الله عمره*
وإلى فضيلة شيخ جليل، أطال الله عمره، قد لا يود أن أذكر اسمه منحني، في 29/1/2001 ، إجازته في العلوم الشرعية.
أولاً: مقدمات:
في الأصل أن الحق واحد، وأن الدين الحق واحد. وفي الأصل أن كل دين يرى نفسه الدين الحق، وفي الأصل أن الإسلام واحد وأنه يرى نفسه الدين الحق.
إلا أن الواقع الراهن يظهر لنا أن الحق، وإن كان واحداً في الأصل، إلا أنه متعدد في تجلياته. وأن الدين الحق، وإن كان واحداً في الأصل، إلا أنه يقبل أن ينظر إليه من وجهات نظر متعددة. وأن الإسلام، وهو لدى المؤمنين به الدين الحق، يتجلى في ممارسات تبدو وكأنها تقر الاختلاف في عديد من الفروع.
والنزعة الطبيعية التي تنسجم مع الإيمان الدقيق، هي العودة إلى الأصل الواحد، سواء عن طريق توحيد الفروع ، أو على الأقل ، عن طريق التقريب بينها.
ونرى تجليات لهذه النزعة الطبيعية في السعي الحثيث نحو التوحيد الذي تقوم به الديانتان التوحيديتان الكبيرتان في عالمنا المعاصر.
ففي المسيحية تقود الكنيسة الكاثوليكية بخاصة – وهي كبرى الكنائس المسيحية – ومنذ الانشقاق العظيم في القرن الحادي عشر، جهوداً مستمرة للعودة إلى وحدة الكنيسة. وتأخذ هذه الجهود – أحياناً – أبعاداً ترى فيها بعض الكنائس المسيحية الأخرى استفزازاً لها. ذلك أن الدوائر العليا في الفاتيكان تصدر، بين الفينة والفينة، إشارات تدل على أن الدين المسيحي، وهو عندها الدين الحق، إنما يتجلى في كنيسة واحدة هي الكنيسة الكاثوليكية. وهذا الموقف الرسمي القديم المعتمد جرى التأكيد عليه في الشهر السابع من هذا العام كما فصّلت اللوموند (11/7/2007). ولنلاحظ أن الكنائس المسيحية الأخرى، وهي لا ريب، تبذل جهوداً توحيدية، تبقى جهودها أقل شأناً وأدنى نفوذاً وتأثيراً، من تلك التي تبذلها الكنيسة الكاثوليكية.
وفي الإسلام نجد الظاهرة نفسها. جهود توحيدية ابتدأت منذ الخلافات السياسية – الدينية الأولى التي يمكن أن نؤرخ لها بمناقشات سقيفة بني ساعدة، وتستمر إلى يومنا هذا. تضطلع بهذه الجهود تيارات إسلامية متعددة ترى أن فهمها للإسلام منسجم مع الإسلام الحق. بل هو الإسلام الحق. إلا أن ما يميز الإسلام عن المسيحية في هذا الشأن هو أن الجهد التوحيدي يكاد يتساوى في نفوذه وتأثيره، بين ما يبذله قادة المذهب السني وبين ما يبذله قادة المذهب الشيعي – والقول بالتساوي اجتهاد شخصي مني لم أحاول تأييده بإحصاء علمي- .
وفي الحالين تبدو النزعة الطبيعية – أي التوحيدية – مصطدمة دائماً بعقبات لا يستطاع تذليلها. وفي الحالين أيضاً تبدو هذه النزعة التوحيدية قادرة، في بعض الأحيان وبنحو محدود، على القيام بخطوات باتجاه التقريب.
وفي هذا البحث المختصر أود إيضاح أنني استعمل ألفاظ: دين وديانة وملة للدلالة على أمر واحد. كذلك استعمل ألفاظ: المذهب والفرقة والطائفة للدلالة على أمر واحد. ثم أنني لا أنوي التفريق بين تعبيري التوحيد بين المذاهب والتقريب بينها.
وخطة البحث واضحة من عنوانه: أبدأ بالحديث عن موجبات التقريب. ثم أنتقل إلى الحديث عن معوقاته. وأنتهي بالحديث عن آفاقه. ثم لا بد من كلمة ختام. وسوف أقدم شواهد ليس من الإسلام فحسب، بل من المسيحية واليهودية وغيرهما من الديانات كلما اقتضى الأمر ذلك. وأحب أن أشير إلى أن مجال التقصي في المواضيع المعالجة واسع يكاد يكون بلا حدود. وهكذا فسيكون من الواجب عليّ الاختصار الذي أرجو إلا يأتي مخلاً. كما أحب أن أشير إلى أنني في هذه المدينة الجميلة التي تحتضن جامع الزيتونة الشامخ وجامعتها كانت لي فرصة معالجة جوانب مما أعالجه اليوم.
ففي ندوة عن الإسلام والسلام نظمتها أيام 15 – 17/4/2003 وزارة الشؤون الدينية بالاشتراك مع منظمة المؤتمر الإسلامي، قدمت بحثاً عنوانه: تأملات موجزة في العلاقات بين الأديان: من الحرب إلى السلم، وهو منشور في تونس ضمن مجلد عن أعمال الندوة. كما هو منشور في بيروت ضمن الجزء الأول من مجلة المشرق الكاثوليكية العريقة، السنة /78/ كانون ثاني – حزيران 2004، ص 85- 94 .
ثم أنني ألقيت بحثاً في الملتقى الدولي حول العقل والإيمان (7 -10/5/2007) عنوانه الغفران المتبادل بين المسيحية والإسلام طريق للتضامن بينهما من أجل عالم أفضل. عقد الملتقى بدعوة من كرسي بن علي لحوار الحضارات في جامعة تونس المنار، وترك بحثي لدى مراسل جريدة إسرائيلية في المؤتمر انطباعاً مؤداه أنني أروج لفكر القاعدة (معاريف، 11/5/2007)، بينما تولد عنه لدى منظم الملتقى انطباع آخر شديد الإيجابية عبر عنه في رسالة إلي مؤرخة في 12/7/2007 . وقد نشر بحثي هذا مرتين في سورية ولا أدري إن تم نشره في تونس كما طالبت برسالة إلى السيد وزير التعليم العالي التونسي مؤرخة في 19/5/2007 .ثانياً: موجبات التقريب:
من الصحيح انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة. ويكتسب هذا الانقسام اليوم أهمية سياسية كبرى إذ يقال أن المساعي لنشر التشيع أحد أهم أسباب التوتر في ديار العرب والمسلمين . إلا أن الصحيح الأهم الذي كثيراً ما تغفله السياسة هو أن كل المسلمين هم في الوقت نفسه من أتباع سنة الرسول عليه السلام، وهم من شيعته وشيعة آل البيت والإمام علي كرم الله وجهه. ليس ثمة سني لا يحترم علياً وآل البيت، وليس ثمة شيعي لا يتبع سنة الرسول.
ويبقى من الصحيح أيضاً القول أن فهم الإسلام لم يكن واحداً حتى من قِبَلِ الرسول عليه السلام نفسه. وفي القرآن الكريم إشارات إلى ذلك، هي تنبيه إلى الرسول يوجهه الله إليه إذا تصرف على نحوٍ يبدو وكأنه لا ينسجم مع الفهم الصحيح للدين الحق: ”عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزّكّى”. (عبس 1) ”ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض” (الأنفال 67)، و ”عفا الله عنك لم أذنت لهم” (التوبة 43). وفي كتب التفسير أسباب لنزول هذه الآيات الكريمة.
كذلك لم يكن فهم الإسلام واحداً لدى الصحابة مباشرة إثر انتقال الرسول عليه السلام إلى الرفيق الأعلى. ومن المفيد في هذا المجال ذكر موقف عمر بن الخطاب من وفاة الرسول، ذلك الموقف الذي لم يستفق منه الفاروق إلا بعد أن تلا عليه أبو بكر الآية الكريمة ”وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل * أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم”.
وما سبق مطمئن من جهة ومقلق من جهة ثانية.
إنه مطمئن لأنه يعلمنا أن فهم الإسلام، وأن لم يكن واحداً، إلا أنه لا يخرج المسلمين عن الدين الحق.
ومقلق لأن الرسول عليه السلام إنما قوّم فَهْمَه الإسلامَ اللهُ سبحانه. وعمر قوم فهمه الإسلام أبو بكر رضي الله عنهما. فمن أهلٌ بعد الله وبعد أبي بكر، لتقويم فهم الإسلام؟ من أهل ليقنع بالتقويم من يتطلب فَهْمَه الإسلامَ التقويم؟
ثم كانت سقيفة بني ساعدة. هنا اختلط الديني بالسياسي على نحوٍ واضح، مع رجحان للسياسي على الديني. كان السؤال: من الأحق بخلافة الرسول: الأنصار أم المهاجرون؟ لولا الأنصار لما قامت الدولة. ولولا المهاجرون لما قيض للرسالة أن تنتشر. أسست سقيفة بني ساعدة لمبدأ التشاور – وأمرهم شورى بينهم -. أما أسلوب الانتهاء إلى قرار فلم يقابل برفض معلن، إلا أنه لم يكن مبعث رضى معلن لدى الجميع. وإذا كان عدم رضى الأنصار قد تلاشى بمرور الزمن، فقد تجذر مع مرور الزمن، عدم رضى الإمام علي وشيعته. ولم يقض على هذا التجذر الخلق السامي للخليفتين الثاني والرابع، ذلك الخلق الذي أبقى على العلاقة الحسنة بينهما طيلة خلافة عمر رضي الله عنه، وهي خلافة طويلة.
ثم كانت الفتنة أواخر أيام خلافة عثمان رضي الله عنه. اتسع الفتق على الراتق، واستمر متسعاً منذئذ.
وابتدأ عهد الفرقة وتشكل الفرق. أصبح فهم الإسلام الواحد متعدداً. وتصاعد البحث عن الفرقة الناجية. وشاع الحديث عن انقسام الإسلام إلى فرق يفوق عددها ما في اليهودية والمسيحية. بل واختلقت أحاديث نبوية شريفة بدت وكأنها تبرر الانقسام إذ هي إسْتَبَقَتْهُ فشرعنته.
ما موجبات التقريب؟ متعددة أذكر ثلاثاً منها.
1ً) يشعر المؤمن بأي دين، والمسلم ليس استثناءً، بأنه يمارس الدين الحق إذا كان ثمة وحدة في فهم هذا الدين الحق. في الفهم المتعدد للإسلام غنىً في بعض الأحوال، وفتح لأبواب التكفير في أحوال أخرى. وهكذا فإن وحدة الفهم مدعاة للاطمئنان، ومصدر شعور بالمشاركة التامة بين المؤمنين جميعاً.
ثم إن تحديد فهم واحد للإسلام مطلوب في حياتنا العامة. ينص عديد من دساتير الدول المسلمة كلاً أو أغلبية على أن الإسلام دين الدولة. ويخصص البعض دين الدولة بإسلام فرقة معينة كما في دستور جمهورية إيران الإسلامية. يتعدد فهمنا للإسلام، وقد تتناقض أفهامنا. وتأتي الفتاوى لتزيد التعقيد. والفتاوى لا تنضبط رغم كل محاولات الضبط. يعتاص الأمر على الجالس في موقع الحكم سواء كان قاضياً يجلس في محكمة، أو رجل دولة مؤتمن على تطبيق الدستور بكامله.
2ً) الإسلام، كالمسيحية، دين يمارس الدعوة أي التبشير. ومن المتعارف عليه أن الإسلام أسرع الديانات انتشاراً في وقتنا الراهن. في أفريقيا ينتشر الإسلام بأسرع من انتشار المسيحية. وفي أوربا وأمريكا، وهما قارتان تعتنقان المسيحية، يسجل نمو الإسلام تصاعداً يحسب له حساب سياسي إلى جانب الحسابات الأخرى الثقافية والدينية والديموغرافية.
الفهم الواحد للإسلام يساعد في معظم الحالات على مزيد من الانتشار. وازدياد الانتشار واجب ديني إسلامي لا يماري به أحد. أما ثنائية فهم الإسلام، أو تعدديته، حتى في بعض المسائل الجزئية، فقد يكون معوقاً لازدياد الانتشار. تقفز إلى الذهن هنا حادثة عجيبة من نوعها ولكنها ينبغي أن تكون موضع نظر. قُتِلَتْ فتاة إيطالية مسلمة من أصل اثني غير أوروبي نتيجة سلوكها. برأت المحكمة الإيطالية القتلة بدعوى أن القتل إنما تم تطبيقاً لأحكام الإسلام. انبرى ينتقد حكم المحكمة إيطالي أصيل مسلم مبرئاً الإسلام من تهمة الموافقة على ما يدعى بجرائم الشرف (اللوموند: 16/8/2007)، مثل هذه الحادثة، ولا ريب، تؤثر على انتشار الإسلام.
3ً) في العالم تفاعل ديانات وحضارات، هو في الوقت ذاته صراع وتحالف: في المجمل العام لما يجري يتصاعد شعور بأن الإسلام بمختلف فرقه يتعرض لحصار من الخارج يستفيد من تفرق الداخل. الحرب المدعى بها راهناً، ذات الطبل والزمر، بين السنة والشيعة، شاهد على ذلك. يتزعم الرئيس جورج بوش السنة في “حربهم الدفاعية” ضد حملة التشييع التي تشنها إيران. وحدة فهم الإسلام توقف هذه الإدعاءات المتهافتة التي تصادف هوى لدى البعض.
ثم أن العداء الذي استحكم لقرون طويلة بين اليهودية والمسيحية إنتهى إلى صياغة توافقية تكاد تكون معجزة. أصبح التيار العام اليهودي متفقاً مع التيار العام المسيحي في أسياسيات دينية – أخلاقية معينة، صيغ لها تعبير استحدث – ربما في الخمسينات – هو التراث اليهودي – المسيحي أو الحضارة أو الثقافة اليهودية – المسيحية. وحين أقول “التيار العام” فبذلك أشير إلى أن ثمة من يعترض على هذا التيار، والمعترضون كثر لكنهم أقليات مبعثرة. تعرفتُ على تعبير التراث اليهودي – المسيحي خلال محاضرة جامعية استمعت إليها طالباً عام 1961 فناقشت أستاذي في مدى صدقية التعبير، أنا العربي المسيحي الأرثوذكسي الذي كانت كنيسته تطلق على يوم الجمعة الذي صلب به السيد المسيح الجمعة الحزينة، وهو الآن الجمعة العظيمة. أتبين الآن في تعبير التراث اليهودي – المسيحي صدقية معينة، إلا أنه إقصائي مثير للجزع الإسلامي. منذ تلك المناقشة الحادة التي أجراها طالب مع أستاذ قبل /46/ عاماً أدعو إلى تعديل التعبير ليصبح التراث اليهودي – المسيحي – الإسلامي. وقد سررت إذ قرأت مؤخراً إشارات إلى كتاب ألفه ريتشارد بولليت Richard Bulliet أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا وعنوانه: The Case for Islamo christian Civilization ولا أدري مدى انتشار الفكرة الإيجابية التي يفصح عنها العنوان.
في مقاربة التفاعل بين الديانات والحضارات يحسن أن يكون فهم الإسلام واحداً. وإلا فلننظر إلى الطرافة المأساوية في حوار إسلامي – مسيحي تشارك به /143/ فرقة، هي مجموع الفرق التي يؤمن البعض أن حديثاً نبوياً شريفاً تنبأ بأن الديانتين المسيحية والإسلامية تنقسمان إليها. لآليات حوار الديانات إشكالات ما أنزل الله بها من سلطان، ولها أيضاً إمكانات خير تفوق ما في الحسبان.
ثالثاً: معوقات التقريب:
كما هي عديدة موجبات التقريب، عديدة أيضاً معوقاته، وأكتفي بثلاث منها:
1ً) المعوق الفكري وهو من طبيعة فلسفية – دينية، يرسو بنا، أو يرقى بنا، إلى ويتغنستاين وفلسفة اللغة ومذهب الوضعية المنطقية. للمحاججات الدينية – والإسلامية ليست استثناء – جوانبها الفكرية المعقدة. وكثير منها يؤخذ كمسلمات إيمانية لا تقبل المناقشة ولا البرهنة. ويمكن أن تصاغ المعضلة الأساسية التي يأتينا بها المعوق الفكري للتقريب، يمكن أن تصاغ كما يلي: كيف يمكنني أن أتأكد أن الشخص الأكثر قرباً فكرياً إلي يفهم الدين الحق على النحو الذي أفهمه؟ فلننظر في ذات الله (جل جلاله) أو صفاته. أنا المسيحي أردد – بموجب قانون الإيمان – أنني “أؤمن بآله واحد آبٍ ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، كل ما يرى وما لا يرى”. إذا سألت أكثر اثنين قرباً فكرياً إلي (ولا أدري مَنْ هما) أن يتابعا وصف الله كما ورد في الجزء الأول من قانون الإيمان، فيضيفان إلى ما ورد جملاً لا تتجاوز كلماتها العشرين، ثم إذا قارنت ما كتب الشخصان، فهل سأتوقع أن أرى “وحدة” بين الإضافتين، أو تقارباً حقيقياً بينهما؟ الله الذي في الجبة (ما في الجبة غير الله) هل هو نفسه الله المتعالي المفارق؟ تراجع الدكتور زكي نجيب محمود، أستاذ أستاذنا الدكتور بديع الكسم رحمهما الله، تراجع في أواخر أيامه عن اقتحامه الفكري الكبير في خرافة الميتافيزيقا. إلا أن التحليل اللغوي الذي أتى به وتسغنستاين ومعه مجموعته من الوضعيين المنطقيين ما يزال يأسر فكر الكثيرين من الذين يصرون على ضرورة الدقة في استعمال المصطلحات. مِنْ “أنا المعرف والمعرف والمعرف به”، إلى تشابكات الـ Definien والـ Definuandum يستمر الفكر معطى غامضاً غير قابل لأن يقبض عليه باليد. هذا المعوق الفكري الأساس، الذي يُلَخَّص بانعدام التجريبية، يتمظهر في تجليات شتى يعرفها كل مهتم بالفكر الديني. ولعلي رأيت مؤخراً ملامح من هذا المعوق في كتاب قرأت عنه في الـ IHT (15-16 /9/2007)، ولم أقرأه، عنوانه: كيف تقرأ التوراة: دليل إلى النص المكتوب، آنذاك والآن.
How to read the Bible. A Guide to Scripture, Then & Now (Free Press 819 P., $35) لمؤلفه جيمس ل. كوغل James L. Kugel .
2ً) المعوق الظرفي وهو ما تأتينا به كتب الفقه التقليدية في تفاسيرها أو تبريراتها لنشوء المذاهب الفقهية المختلفة. ظروف المدينة المنورة حيث تبلورت مدرسة الحديث تختلف عن ظروف العراق حيث تبلورت مدرسة الرأي. ثم تطور تاريخياً ما يعرف بإسلام السلف وإسلام الصوفية.
وفي أيامنا هذه يكثر الحديث عن إسلام أفغاني وآخر ماليزي، وثالث عربي، ورابع أوروبي، وخامس أفريقي وسادس أمريكي. وأحب هنا أن أسجل سروري بما نشرته الديلي ستار (10/7/2007) عن لقاء مع الإمام يحيى هندي الذي يدرِّس في جامعة جورجتاون الأمريكية عن شكوكه في وجود إسلام أمريكي.
ثم من يستطيع أن ينكر أن ما يشهده العالم من عولمة يؤدي إلى ما يمكن أن يطلق عليه اسم الإسلام العولمي وله – عندي – نوعان: معولِمٌ ومعولَم؟
وفي هذا المجال أذكر سريعاً – وبالتقدير – ظاهرتين لهما أنصارهما ومناهضوهما، وأن أذكر أيضاً رأياً استمعت إليه ذات يوم وناقشته.
الظاهرة الأولى يرعاها منذ تسنم السدة، قبل أكثر من عقد، غبطة البطريرك غريغوريوس الثالث لحام ، بطريرك أنطاكية للروم الكاثوليك. أنه يدعو إلى اعتبار كنيسته “كنيسة الإسلام”، أي أنها جسر يربط بين العالم الإسلامي من جهة، والعالم المسيحي، والكاثوليكي منه بخاصة، من جهة ثانية. أثارت مؤخراً حماسة البطريرك ردود فعل متعددة عالية الوقع اهتمت بها جريدة النهار البيروتية وامتدت أياماً طويلة هذا الخريف.
الظاهرة الثانية وعمرها يزيد قليلاً عن عقد، هي إحداث المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وهو مجلس يرعاه فضيلة الشيخ العلامة يوسف القرضاوي ويتولى أمانته العامة الشيخ حسين حلاوة. وقرارات مؤتمره الأخير الذي عقد في سراييفو (15-19 /5/2007) هي عندي مدعاة للإعجاب. (ولمزيد من التفصيل يمكن العودة إلى أسبوعية الأمان البيروتية، العدد /758/، 25/5/2007، وجريدة اللوموند الباريسية، 16/5/2007).
أما الرأي الذي استمعت إليه وناقشته، فكان للصديق الدكتور عز الدين موسى، أستاذ التاريخ في السعودية وهو من السودان. في إحدى حوارات منتدى الفكر العربي تحدث الدكتور موسى مطولاً عن أثر ”الإسلام الشامي” –كما دعاه- على ”الإسلام الوهابي”. وتركزت مناقشتي له عن إمكان أو عدم إمكان أن يكون حديثه عن ”إسلامَيْن” مدعاة لظنون قد يشهرها في وجهه من لا يستطيعون التغاضي عن التعبير الذي استخدمه. ولا أدري إن كان الصديق يتذكر هذه المناقشة كما أتذكرها.
3ً) معوق الآليات وهو عديد. أول العديد يمكن اختصاره كما يلي: مَنْ مِنَ الفرق الأكثرُ أهليةً لكي ينطلق منها جهد من أجل التقريب، ومن منها الأكثر أهلية ليتوجه إليها الجهد؟ أي: من يحاور من؟ في الحوار الإسلامي – المسيحي ثمة محاور مسيحي قوي هو الفاتيكان (بلغ عدد الكاثوليكيين في العالم عام 2005، بحسب ما نشرته أسبوعية الفاتيكان: الأوسرفاثوري رومانو، الصادرة في 17/7/2007، بلغ 1.114.966.000). والفاتيكان عادة ما يحاور الأزهر الشريف، رغم أنه ليس للأزهر ما للفاتيكان من قدرة هرمية ملزمة. ويبقى الحوار الفاتيكاني- الأزهري أهم مظاهر الحوار المسيحي- الإسلامي. ولدى الجانبين آليات معينة للحوار، لها تاريخها، ولا ريب أنه كانت لها فائدتها وما تزال. والحصيلة العامة لعملها الحواري إيجابية. وقد أصفها من موقعي، ولست في الموقع الذي يسمح لي بالرؤية الكلية، بأنها حصيلة عامة تقبل المزيد من التحسن. ويهمني هنا أن أسجل تحفظاً على ممارسة أزهرية واحدة لدي خبرة شخصية مباشرة فيها. بعد أن طَلَبْتُ من الفاتيكان في 29/7/1992، برسالة وجهتها إلى قداسة البابا الراحل، تقديم شرح يقترب من الاعتذار عن حروب الفرنجة، وبعد استجابة البابا الجزئية إلى الطلب في 11/3/2000، وجّه الأزهر الشريف في 27/3/2000 طلباً مماثلاً تقريباً لطلبي. ولو كان الأزهر الشريف قد أيّد مسعاي عام 1992، وقد أعلمته به مباشرة بعد رسالتي إلى الفاتيكان، ولو كنا قد ”نسقنا”، لكان من الممكن لاستجابة الفاتيكان أن تغدو ”كلية” لا ”جزئية” . وتعاونوا على البر والتقوى.
تضاهي القدرة الهرمية الملزمة التي يتمتع بها الفاتيكان قدرة هرمية موازية يتمتع بها الشيعة. ولست في موقع الاطلاع الكافي على آليات الحوار الفاتيكاني – الشيعي.
وفي المسيحية ثمة إلى جانب العائلة الكاثوليكية، عائلتان كبيرتان أخريان، هما البروتستانتية والأرثوذكسية. أولى هاتين العائلتين تنقسم إلى ما حصر له من الفرق. فالبروتستانتية تتيح لكل بروتستانتي قراءة فردية للكتب المقدسة. وهي بذلك تقترب من أهل السنة. وليس من الخطأ التاريخي القول بأن اتجاه القراءة الفردية للكتب المقدسة في البروتستانتية إنما هو اتجاه له جذوره في القراءة الفردية للقرآن الكريم وللسنة النبوية الشريفة. وتعود تلك الجذور إلى عصر الاشتباك المسلح الذي كان اسمه حروب الفرنجة، وما رافق ذلك الاشتباك المسلح من تلاقح فكري.
ولدى المسلمين تتعدد الملل والنحل إلى حد يصعب حصره. ويطيب لي أن أذكر بعض ما وقعت عليه مما نشر في سورية من إشارات إلى ”طوبوغرافيا” الفرق الإسلامية أثناء الإنشغال بإعداد هذا البحث.
في سورية أسست كلية الشريعة عام 1954 وبدأت الدراسة فيها يوم 18/12/1954. وقد ورد في تقويمها الصادر في مستهل العام الجامعي 1968 -1969 أن أحدى مهمتي البحث العلمي فيها ”القيام بأعمال المشروع الفقهي العظيم: موسوعة الفقه الإسلامي” غاية هذا المشروع الذي صدر بمرسوم جمهوري في 3/5/1956 “صياغة مباحث الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وإفراغها في مصنف جامع على غرار الموسوعات القانونية الحديثة” (ص 14). ومن مقررات السنة الثالثة مقرر عنوانه “تاريخ الفرق والأديان” (ص 21). كذلك ورد في مفردات مقرر “مناهج العقائد والأديان” دراسة “العقيدة الإسلامية واتجاهاتها عند الفرق الإسلامية” السلفية والأشاعرة والمتصوفة والمعتزلة والإمامية…” (ص 31) وضمن مقرر تاريخ الأديان والفرق ذُكر أن الطالب يدرس “الفرق والمذاهب التوحيدية في الإسلام” وهي: الخوارج – المرجئة – الشيعة وفرقها المعتدلة (الإمامية – الزيدية) – السبائية والكيسانية – إخوان الصفا – السبعية والقرامطة – الإسماعيلية – النصيرية – الدروز – البابية والبهائية – القدرية والغيلانية – الجعدية – الجهمية – الاعتزال – أهل السنة والمذهب الأشعري”.
ثم أن مما وقع بين يديّ كراس من منشورات وزارة الأوقاف السورية عنوانه مناسك الحج على المذاهب الخمسة (دمشق، وزارة الأوقاف، لا تاريخ لنشره وبه مقدمة مؤرخة في أيلول 1980 موقعة من “خادم الشريعة الإسلامية السمحاء عبد الرحمن الخير”) ويقع في /31/ صفحة من القطع الصغير. الشاهد هنا: المذاهب الخمسة . ولم يذكر الكراس أسماء المذاهب.
وفي كتاب عنوانه مسيرة تضحية وجهاد (لندن، مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية، 2003، 319 صفحة) وهو كتاب توثيقي عن الإمام الشهيد السيد أبو القاسم الخوئي الذي ولد في 16/8/1962، وقعت على صورة إعلان عن مؤتمر للتقريب بين المذاهب عقد في دمشق أيام 10-12/4/1999. ورد في الإعلان ما يلي: “مؤسسة الإمام الخوتي الخيرية تعقد بالاشتراك مع مؤسسات ومعاهد وعلماء من المذاهب الإسلامية السبعة ندوة بعنوان: اجتماع دولي لوضع استراتيجية مشتركة للتقريب بين المذاهب الإسلامية”. الشاهد: السبعة.
ومغزى ما سبق واضح. ثمة إشكالية في معرفة عدد الفرق. ونعلم بالطبع أن ثمة إشكالية أخرى في أسماء الفرق. المسلمون العلويون لا يحبون أن يدعوا بالنصيرية. كما ورد في تقويم كلية الشريعة. والمسلمون الموحدون لا يحبون أن يدعوا بالدروز، كما ورد أيضاً في تقويم كلية الشريعة.
إلا أن أفضل ما وقعت عليه في التجوال مع ما حوته مكتبتي من الإسلاميات، أفضل ما وقعت عليه في موضوع الملل والنحل عشر صفحات صورتها لكم وجعلتها ملحقاً لهذا البحث. وهي من كتاب ميثم الجنابي: علم الملل والنحل: تقاليد المقالات والأحكام في ثقافة الإسلام (دمشق، دار كنعان، ط /1/ 1994، 275 صفحة) ومن المؤسف أن الدار لم تعرف بالمؤلف الذي أعرف أنه عراقي، أقام ردحاً من الزمن في دمشق، وأنه يساري التوجه، علمانيه. وكتابه جيد.
ثم أنني أثق بأن لدى معظمكم جداول بأسماء الفرق تماثل بل وتزيد عما وضعته أمامكم.
وأكتفي بهذا القدر من الشرح غير اللازم – فهو معروف – لمشكلة: ما أسماء الفرق الإسلامية التي يراد أن يتم بينها التقريب.
وآتي الآن إلى تبيان مظاهر أربعة أخرى في عديد معوقات الآليات، فأقول بلغة البرقيات:
1- اللغة: للإسلام لغته وليست للمسيحية لغة. تكلم السيد المسيح عليه السلام السريانية، وأول ما دون مما وصلنا من كلامه كان باليونانية. أما اليهودية فلها لغة استحدث كثير منها. واللغة أساس في فهم الدين. النسبة الأكبر من المسيحيين الذين قتلوا بأيد مسيحية إنما كانت الهرطقة ذريعة قتلهم. ثم ثبت أن هرطقتهم كانت نتيجة خطأ في الترجمة أي في اللغة، أي في المصطلحات اللغوية المستخدمة لاهوتياً. ولم يتبين هذا الخطأ إلا بعد ألف وخمسمائة عام. بذلك أشير إلى حملة القائلين بطبيعتين على القائلين بطبيعة واحدة. وأهنئ من قام بالتصويب اللغوي. وأتعاطف مع الضحايا من السريان والأقباط والأرمن.
إلا أن الحملة كانت سياسية تزيت بزي ديني. ومن المفيد في هذا المجال الرجوع إلى كتاب برتراند راسل الكلاسيكي: تاريخ الفلسفة الغربية الذي أعانني شخصياً في الخروج من حمأة المناقشات اللاهوتية غير المفهومة بين أنصار الطبيعة الواحدة وأنصار الطبيعتين.
بطل الحملة السياسية – العسكرية القتالية هو الإمبراطور قسطنطين، ذلك الذي لولاه – ربما – استمرت المسيحية ديناً للمستضعفين. هو الذي جعل منها ديناً للدولة، وهو مَنْ يعتبره البعض مسؤولاً فكرياً وسياسياً أول عن الهولوكوست الهتلري كما في كتاب : سيف قسطنطين: الكنيسة واليهود لجيمس كارول James Carroll الذي صدر عام 2001.
وبشأن اللغة تثور حالياً ضجة عالية حول تحبيذ الفاتيكان، تحبيذاً يقترب من التوجيه، العودة بالقداس إلى اللاتينية.
وللغة في فهم الإسلام دورها الكبير. التفسير القرآني، الذي يعلو فيصبح – في بعض الأحيان – تأويلاً، كان وما يزال أساساً في نشوء الفرق الإسلامية. وما أظن أنني بحاجة إلى إيراد شواهد عن هذا الموضوع لأنه موضع علم عام. وتنتج عن مسألة اللغة في الإسلام مشكلة هامة: إلى أي حد يستطيع فقيه ليست العربية لغته الأم، إلى أي حد يستطيع مثل هذا الفقيه الغوص في أعماق المعاني والمشاعر التي تولدها اللغة؟ يثير البعض هذه المشكلة الهامة خاصة بشأن ما طرحه فهم أبو الأعلى المودودي للإسلام. وبالطبع فالرد جاهز: هل يمتنع على غير العربي، ولادةً ولغةً أمٍ، أن يغدو فقيهاً؟
2- المكان: أشرت في موضع سابق إلى مدرستَيْ الحديث والرأي في تفسير السنة. إلا أن للمكان آثاراً أخرى. فلنأخذ الصيام مثلاً. يتوازن النهار والليل في أيام شبه الجزيرة العربية وفي معظم البلاد ذات الأغلبية المسلمة. يزداد انتشار الإسلام في بلاد الشمال. الصيام في مكان كإيرلندا قد يمتد في بعض أيام العام إلى عشرين ساعة فيصبح مرهقاً يكاد يستعصي. وينقص في أيام أخرى إلى بضع ساعات فتكاد تنتفي الحكمة منه. هل سنجد على جدول أعمال مجلس الإفتاء الأوربي بنداً يختص بهذا الأمر، يستفيد من أحاديث نبوية شريفة متداولة يرى البعض أنها تتيح الرخصة؟ يشجعني على طرح هذا السؤال لقاء عن الصيام وغيره أجرته أسبوعية الأمان اللبنانية مع أمين عام المجلس، الشيخ حسين حلاوة. (العدد 577، 5/10/2007) وأحب أن أسجل لباحث إسلامي سوري أنه عرَّفني بموضوع الرخصة. ثم: هل سيلقى الترخيص في تنقيص فترة الصيام اليومي رضى إسلامياً عاماً؟
3- الظرف السياسي: ثمة دول إسلامية الطابع لديها صعوبات مع تيارات أو فرق إسلامية فيها. هل تصلح هذه الدول مكاناً لكي تقام بها جهود للتقريب؟ هل يمكن اعتبار تعهدها هي إقامة جهود للتقريب محاولةً منها لتبييض صفحتها إسلامياً؟ تلك أسئلة تثور في الذهن.
ولي، بعد، أن أسأل ونحن في معرض الحديث عن صعوبات السلطة مع تيارات أو فرق إسلامية، صعوبات قد تصل حد الاضطهاد، لي أن أسأل الزملاء الكرام فضلاً قد يستطيع أحدهم إضفاءه عليّ. قرأت من سنوات في جريدة يومية أن ابن تيمية حلل الخمرة لحكام ظلمة سيطروا على بلاد الشام. سبب التحليل: إذا صحوا من السكر مارسوا اضطهاد الرعية. هل بإمكان أحد أن يصوب ما أذكر أنني قرأت؟ أو أن يدلني على المرجع؟ قد تفيد هذه الفتوى في تبيان مدى مرونة الإسلام في مداورة الاضطهاد بل وفي معاندته. فإذا وقعنا على نص الفتوى فقد يحسن بنا أن نضعها أمام الرئيس الأمريكي الذي يشغل نفسه –كما يرى كثيرون- باضطهاد المسلمين لتعليمهم الديموقراطية، دون أن نقول له أن بعض الذين يتلقون بالاضطهاد علم الديموقراطية يودون منه أن يعود إلى إدمان الخمر.
4- التدخل غير الإسلامي في الشؤون الإسلامية: وأمثلته الحقيقية أو المتخيلة عديدة. حين أصدر الدكتور محمد شحرور مؤلفه الشهير الكتاب والقرآن كان ثمة تعليق عليه في مجلة دينية سورية رصينة هي مجلة نهج الإسلام الصادرة عن وزارة الأوقاف. جوهر التعليق الذي كتبه فقيه شهير جاد يحظى بتقدير إسلامي عام هو أن ذلك الكتاب الذي أثار ضجة قطباها العصرنة والتكفير إنما عُرض في عاصمة أوروبية على الفقيه الشهير الجاد لكي يضع توقيعه عليه كمؤلف فرفض. ثم كان توقيع الكتاب من قبل مؤلفه الراهن. من المرجح أن الحادثة ليست دقيقة بالكلية، وليس لديّ سبيل إلى التحقق منها. إلا أن سبب إيرادها واضح. ثمة في عمق التفكير العام الإسلامي العام شعور مستمر مستقر –وليس دائماً غير مُبرر- مؤداه أن الخارج الشرير يريد أن يقضي على المقدسات الإسلامية. ولعل من أبرز من حاول مؤخراً توثيق أثر التدخل الخارجي في فهم الإسلام الباحث المحامي محمد صياح المعراوي في كتاب: الماركسلامية والقرآن أو الباحثون عن عمامةٍ لدارون وماركس وزوجة النعمان: قراءة في دعوى المعاصرة (دمشق، لا ذكر للناشر، 2000، 1014 صفحة).
وفي أيامنا هذه –ولا سيما بعد الأحداث الإجرامية في الشهر التاسع من عام 2001- يزداد اهتمام العالم غير الإسلامي بالإسلام وبالدراسات الإسلامية. وهو اهتمام مشكور لدى كثيرٍ من المسلمين، وهو أيضاً موضع شك لدى كثير منهم. ومن أمثلة الاهتمام ندوتنا هذه. ومن الجميل أن الممول الألماني يتعاون في إقامتها مع جامعة الزيتونة الإسلامية العريقة. هل يقطع الشكَ هذا التعاون؟ هل الهدف من ندوتنا هذه ومن ندوات أخرى تماثلها، في قليل أو كثير، هل هدفه العلم المجرد؟ و/أو معه العلم التطبيقي المحايد؟ و/أو معه العلم ذو التوجه الإنساني؟ و/أو معه الرغبة في حوار المذاهب والديانات والحضارات؟ أم أن الهدف الحقيقي غزو الإسلام وتخريبه؟ أو حتى ما هو أبعد حتى من التخريب؟ تلكم أسئلة تدور يومياً في أذهان الكثيرين. ولكلٍ من الذين تدور هذه الأسئلة في أذهانهم جوابه الخاص. وأضع أمامكم كمرفق بهذا البحث بِضعَةً من أجوبة وجدتها في اللوموند بتاريخ 9/11/2007 .
مقطع القول في المعوقات إذن أنها عديدة، وأنها لا يجب أن يستهان بها، وأنها ينبغي أن تؤخذ بكل جدية رغم أن بعضها يبدو متخيلاً لا يقبل به الحس العام السليم.
رابعاً: آفاق التقريب:
إذا كان المزيد من الوحدة في فهم الإسلام مطلوباً، والتقريب بين المذاهب الإسلامية مرغوباً، وبذل الجهد في هذا السبيل مندوباً، فإن الاستمرار في الحال التي نحن فيها ليس دائماً سيئاً بالمطلق. يرى البعض في اختلاف الفروع المقترن مع اتفاق الأصول غنى ينبغي الحرص عليه، شريطة ألا يتدهور الاختلاف إلى حملات تكفير متبادل.
الأمران المتناقضان، الوحدة والفرقة، كلاهما طبيعي يجيزه المنطق والواقع. وقديماً علمنا هيغل أن المنطقي واقعي والواقعي منطقي.
والحديث في آفاق التقريب، بعد حديثنا عن موجباته ومعوقاته، يبدو كأنما استُكْمِلَت فيما سبق عناصره. تنطلق بنا إلى الآفاق الموجبات، لتردنا إلى الواقع المعوقات.
ابتدأت محاولات التقريب بين المذاهب في الإسلام منذ سنوات الإسلام الأولى، وما تزال مستمرة. في هذا القول المنطبق على الواقع خلاصتان. الأولى: التقريب كان مطلوباً وما يزال. والثانية: حصيلة التقريب متواضعة.
وتؤدي بنا الخلاصة الثانية إلى نتيجة يتطلبها منطق البحث العلمي. ثمة حاجة لجهد بحثي رصين يوضح لنا الحصيلة التي انتهت إليها محاولات التقريب، ولاسيما منذ عصر النهضة العربية. ولعل بيننا في هذه الندوة مطلع على جهود بحثية أجهلها تبين لنا حصيلة محاولات التقريب.
ولديّ في هذا المجال اجتهاد يخضع للمناقشة. بناء على القاعدة الفقهية العامة التي تحكم بأنه حيث المصلحة فثم شرع الله، فإنني ألاحظ أن معظم المذاهب، وربما كلها إنما تتجه في أيامنا هذه إلى شرح نفسها لتقترب من وثيقة انعقد عليها إجماع شبه كامل، هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، والذي يحتفل معظم العالم سنوياً بذكرى صدوره في 10/12 من كل عام وهو اليوم العالمي لحقوق الإنسان. ومن الجميل أن الرئيس زين العابدين بن علي يلقي في تلك المناسبة، ومنذ التحول قبل عشرين عاماً بالضبط، كلمة يتحدث فيها عن حقوق الإنسان. وأظن أن ثمة بعض القادة العرب ممن أخذوا يحذون حذوه في هذا المضمار. وهنا مكان لرجاء عارض وليس بالعارض. حبذا لو يذكر الرئيس التونسي في كلمته القادمة بعد أسابيع قليلة، حبذا لو يذكر أن العرب، في خطوة من أيام الجاهلية مباركة نبوياً، كانوا أول من أنشأ منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان هي حلف الفضول. ثم: ما أحوجنا إلى حلف فضول دولي في عالمنا الراهن المهدد يومياً بالنكبات!
تلح على العالم ظروف العولمة، وتلح علينا في منطقتنا من العالم ظروف تبدو لدى معظمنا وكأنها تسير بنا إلى مزيد من التبعثر الإسلامي والعربي. وبعض الظروف التي تلح على منطقتنا تتجلى لدى كثيرين منا وكأنها نتيجة مؤامرة أو مؤامرات خارجية هادفة إلى إضعافنا.
ونعم! ثمة مؤامرة بل مؤمرات.
ونعم أخرى أيضاً ! ليس كل ما نعاني منه نتيجة مؤامرة أو مؤامرات علينا بالذات.
نشكو من تصاعد مظاهر بعثرتنا. ولكن ما نشكو منه ليس وقفاً علينا. في بلجيكا تفشل محاولات التقريب بين الفلامان والوالون. ولن يدهش أحد إن استمع إلى نشرة أخبار هذا اليوم أو غداً فكان أول ما فيها إعلان انقسام بلجيكا إلى دولتين. أما عن مشكلة حكومة اسبانيا المركزية مع باسكييها وكاتالونييها فحدث ولا حرج. وحين سئلت قبل ثلاثين عاماً ونيف، إثر محاضرة ألقيتها في جامعة أوكسفورد عن فكرة الوحدة العربية، ومدى جديتها، أجبت بالإشارة إلى تطورات الحركة الاستقلالية في سكوتلاندا. وها إن تلك الحركة وصلت في أيامنا هذه إلى أبعاد غير مسبوقة. إلا أن الاستئناس بصعوبات غيرنا ينبغي ألا يحجب عنا ضرورة معالجة صعوباتنا لتجاوزها.
وفي آفاق التقريب بين المذاهب في الإسلام مواضيع تبدو لي قابلة لكي يتم فيها إنجاز خطوات تزيد قدراتنا بمواجهة التبعثر واختار من قائمة المواضيع الطويلة التي أنشأتها بمناسبة كتابة هذه الصفحات، موضوعين أحدهما سياسي له جوانبه الدينية والمذهبية، وثانيهما مذهبي محض.
الموضوع السياسي هو فلسطين. في ساحة منطقتنا اليوم لغط سياسي بشأن قضية فلسطين يجعل الدول العربية والإسلامية الكبرى كتلة سنية معتدلة، ويجعل من إيران وسورية وحزب الله وحماس كتلة شيعية متطرفة. إذ نقف هذه الأيام مع الذكرى التسعين لصدور وعد بلفور المشؤوم فإنني أكرر ما قلته في الشهر الخامس من عامنا هذا في الملتقى العالمي للعقل والإيمان المشار إليه في مكان سابق. ابتدأ التطرف الديني الفاعل في منطقتنا مع توجه وعد بلفور إلى منح فلسطين للشعب اليهودي – بحسب نص الوعد – نتيجة معتقدات مشكوك في صحة مرتكزاتها الدينية. وهكذا فليس من الخطأ القول أن بن لادن، في تطرفه، حفيد فكري لبلفور. وعلى الغرب الذي يطالبنا بالعلمنة – وأقف مع العلمنة، وأحيي مشروع الدستور الأوربي الذي فشل، ومشروع المعاهدة الجديدة التي ينتظر أن تقر قريباً، إذ لم يشر أي منهما إلى المسيحية -، على الغرب الذي يطالبنا بالعلمنة أن يعلمن نفسه بأثر رجعي فيعتذر عن وعد بلفور. وهذا مطلب حق وصدق تزيد من حقيّته وصدقيّته الصراعات السياسية الراهنة حول الإبادة الأرمنية. كان للهولوكوست الذي أوقعه هتلر باليهود أثر بالغ في قيام إسرائيل. ألا يرى المتحمسون للشعائريات الهولوكوستية أن نص وعد بلفور إنما هو هولوكوست معلن لأنه أنكر وجود شعب فلسطين، فكأنه حكم بإبادته؟ أتوجه هنا إلى المؤسسة الممولة لندوتنا هذه لكل تقوم بواجبها في هذا الشأن. أما المقربون بين المذاهب الإسلامية، أما مسؤولو هذه المذاهب فأقول لهم: من منكم لم تعتره قشعريرة رهيبة، منذرة بشر مستطير وبنقصِ فهمٍ خطير، وهو يستمع، عبر الفضائيات، إلى جماهير منظمة فلسطينية لها احترامها عندي، يهتفون: حماس شيعية؟
الموضوع الثاني، الفقهي المحض، الذي ينتظر جهود المقرِّبين، هو استيعاب الإناث للتركة. لماذا لا يتم استيعاب الإناث للتركة؟ لماذا لا يتم تبني المذهب الجعفري في هذا الشأن؟ رئيس مجلس الوزراء في لبنان سني دائماً حسب التقاليد التي أرساها الميثاق الوطني قبل ثلثي القرن. هل تعلمون أن ثلاثة من رؤساء الوزارات في لبنان اعتنقوا المذهب الشيعي ولم يحل هذا دون أن يكونوا من السنة الذين يتولون المنصب السياسي الرفيع؟ إنهم رياض الصلح وحسين العويني، رحمهما الله ، وسليم الحص، ضمير لبنان الحي، أمد الله في عمره. لم يكن لأي منهم وريث ذكر من صلبه فكان التشيع اختياراً مناسباً.
خامساً: كلمات على سبيل الختام:
عنونت بحثي: التقريب بين المذاهب في الإسلام: نقاط تأسيسية. ما أن انطلقت فيه حتى ألحّ عليّ عامل التقدم في السن فأخذت أُدخل حكايات شخصية في صميم البحث، مما يخالف المنهج العلمي. وكي لا أضلل القارئ بالعنوان داعبتني فكرة أن أجعل العنوان الفرعي: نقاط تأسيسية وحكايات شخصية. لم أعبث بالعنوان الأصلي، لكنني أريح ضميري إذ أشير هنا إلى فكرة داعبتني، فوجدت لها هذا المكان الذي لا يلفت النظر.
ثم إنني أصرح بأن كل ما ورد في الصفحات السابقة إنما ينطبق عليه قول مأثور لصاحب يتيمة الدهر، قول اعتذاري أحتاج إليه وأنا أخوض في مياه قد يراها البعض أنها ليست لي:*
” وكلما أعرته على الأيام بصري، وأعدت فيه نظري، تبينت مصداق ما قرأته في بعض الكتب، أن أول ما يبدو من ضعف ابن آدم أنه لا يكتب كتاباً فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غدها أن يزيد فيه أو ينقص منه. هذا في ليلة فكيف في سنين عديدة”*.
وأختم بحكايتين. الأولى من مدينتي صافيتا، والثانية من بيروت.
المربي والخبير التربوي المتميز الأستاذ بهجة جبور أطال الله عمره – وهو يصر على كتابة اسمه بالتاء المربوطة ابتعاداً عن الصيغة التركية – يدعو منذ عقود إلى تصحيح اسم “طائفة الروم الأرثوذكس” ليصبح “طائفة العرب الأرثوذكس”. فأبناء الطائفة من العرب سلالة وثقافة، وليسوا من الروم. في اجتماع عقده في منزله مع بعض أمراء الكنيسة – وتعبير أمراء الكنيسة يدل على رجال الدين ذوي الرتبة الكهنوتية العليا – ضعفت حماسته لما هو حق نتيجة رأي جابهه به أحد الأمراء: “إن وافق المجمع المقدس لطائفة الروم الأرثوذكس على اقتراحك، فليس معنى الموافقة أن الحق استوى سيداً. بل معناه أن طائفة جديدة قد أضيفت إلى قائمة الطوائف المسيحية”. ألا يذكر هذا الجواب بما يقال من أن أحد الظرفاء أنهى الاعتزال حين خاطب المعتصم: “عظم الله أجرك بالقرآن الكريم. أليس كل مخلوق فان؟”
الحكاية الثانية أقرب إلى التقريب. سمعتها من حكيم جليل انتقل إلى رحمة الله. سمعتها من الأستاذ الدكتور بطرس ديب، المتفقه والمؤلف في المذهب الحنفي، عميد كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، ورئيس الجامعة، وسفير لبنان في باريس، والمتحدث باسم السفراء العرب في باريس، والشخصية التوافقية التي تردد ترشيحها لرئاسة الجمهورية، وأحد أبناء عمومتي أذ يقال أننا من صلب واحد، هو الماروني وأنا الأرثوذوكسي. وهو سمعها من فضيلة العلامة الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله، الذي جاد فأغنى المكتبة العربية بمؤلفات قيمة جداً عن الشيعة، وكان له تأثيره الشخصي الكبير ليس على أبناء شيعته فحسب بل على أبناء العائلات الروحية اللبنانية المتعددة. تقول الحكاية أن الأزهر الشريف، إذ قرر الاستجابة لمطالب متكررة بضرورة إقامة حوار مع الشيعة، أوفد أحد أقطابه إلى بيروت، رداً على زيارات وفود شيعية متعددة إلى الأزهر الشريف. قام القطب الأزهري بزيارة الشيخ الشيعي الكبير في منزله تحبباً. وصف المضيف صَلَفَ دخول الضيف عليه. ما أن جلس حتى خاطب مضيفه بأنفٍ عالٍ: أظن أنكم أنتم الشيعة الإمامية تؤمنون بعصمة الإمام؟ أُجيب: نعم. وبأنكم أيضاً تؤمنون بعودة الإمام الغائب؟ – نعم. وأنكم فوق ذلك تؤمنون بالتقية؟ يوضح المضيف عند هذا الموضع من الحديث بأنّ صدره ضاق فلم يعد يتسع للصلف، فبماذا أجاب؟ قال: نعم! لعن الله من كان السبب!
ختام الختام: في الحديث عن التقريب لابد من رهافة التهذيب.
وفي المناظرات الدينية والفقهية الإسلامية ملامح تثير الإعجاب في رهافة التهذيب. ثم إنني أقدر عالياً كتاباً أصدره الفاتيكان عن أوجه التهذيب الواجب في الحوار مع المسلمين. وهذا لا يمنع التأكيد على تحفظاتي إزاء محاضرة قداسة الباب في أيلول 2006. وقد أفضت في شرحها في تونس قبل نيف وستة أشهر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
دمشق في 22/10/2007
جورج جبور
drjabbour@mail.sy
هاتف جوال: 363464-944-00963
المنزل: هاتف وفاكس: 6118866-11-00963
المنزل: هاتف وجهاز إجابة: 6119966-11-00963
العنوان البريدي: ص. ب 9877 دمشق.