محاولات إجرائية ممنهجة لتسقيط الجنسية العراقية عن المواطنين المقيمين خارج العراق!
بقلم: البروفيسور وليد الحيالي
تتصاعد في الآونة الأخيرة شكاوى الجاليات العراقية المقيمة في الخارج من تعقيدات غير مبرّرة في المعاملات الرسمية المرتبطة بالهوية الوطنية، كالحصول على البطاقة الوطنية الموحدة أو تجديد الجوازات أو حتى استخراج وثائق الولادة للأطفال حديثي الولادة.
هذه الإجراءات، وإن كانت في ظاهرها تنظيمية أو إدارية، إلا أن تراكمها وتعقّدها الزمني والبيروقراطي يثيران شبهة وجود توجه ممنهج نحو تضييق الخناق على العراقيين في المنافي والمهاجر، بل وربما نزع الصفة القانونية عن انتمائهم الوطني عبر تسقيط فعلي غير معلن للجنسية.
الإطار التحليلي للمشكلة
تتذرع بعض المؤسسات الرسمية بـ”التدقيق الأمني”، أو “تحديث البيانات”، أو “الربط الإلكتروني المركزي” لتبرير رفض أو تأخير المعاملات، لكن الواقع يشير إلى وجود خلل بنيوي في فلسفة التعامل مع المواطن المغترب.
فبدل أن يُنظر إلى العراقي المقيم في الخارج كـ”رصيد وطني بشري ومعرفي”، يُعامل غالبًا كـ”موضع شك” أو “عنصر مراقبة”، خاصة إذا كانت إقامته في بلدان الهجرة القديمة التي ضمّت أعدادًا من المعارضين السياسيين أو المفصولين أو المهجّرين قسرًا في العقود السابقة.
إن البطاقة الوطنية الموحدة، التي كان يُفترض أن توحّد العراقيين في هوية رقمية حديثة، تحوّلت لدى المغتربين إلى أداة إقصاء إجرائي، بسبب اشتراطات الحضور الشخصي في العراق أو إلزامية الوثائق القديمة التي يصعب الحصول عليها من الخارج.
أما تجديد الجوازات، فقد غدا معاناة إنسانية حقيقية، إذ يُجبر المواطن على السفر من بلد إلى آخر بحثًا عن قنصلية عاملة أو موعد متاح، لتُختم رحلته في الغالب بخيبة بسبب انتهاء الصلاحية القانونية للوثائق الداعمة أو تعقّد التعليمات بين وزارة الداخلية والسفارات.
الدلالات السياسية والإدارية
هذا النمط من الإجراءات لا يمكن عزله عن السياق الأوسع للأداء البيروقراطي في الدولة العراقية، الذي يتسم أحيانًا بـ التمييز الضمني بين المواطن المقيم داخل البلاد والمواطن المغترب.
إنها بيروقراطية الإقصاء الناعمة، التي لا تُعلن حربًا على المواطن، لكنها تُنهكه حتى يتخلى طوعًا عن حقوقه القانونية.
وإذا استمر هذا الاتجاه، فإننا سنشهد – عمليًا – تآكلًا تدريجيًا لحق المواطنة الدستوري، خصوصًا لمن وُلدوا خارج العراق بعد عام 2003، ولم يُمنحوا وثائق تثبت انتماءهم بسبب التعقيدات الإدارية أو غياب التنسيق بين وزارتي الداخلية والخارجية.
البديل المنهجي المطلوب
1. إنشاء هيئة خاصة لشؤون العراقيين في الخارج ترتبط برئاسة الوزراء مباشرة، تكون مهمتها تبسيط الإجراءات واستحداث آليات رقمية تمنح الوثائق الرسمية بعد التحقق الإلكتروني من الأصول دون الحاجة إلى الحضور الشخصي.
2. إطلاق منصّة إلكترونية موحّدة تتيح تقديم طلبات البطاقة الوطنية والجوازات وتسجيل المواليد إلكترونيًا عبر السفارات، على أن تُعتمد بصمة إلكترونية أو تطابق بيانات بيومترية مؤمنة.
3. مراجعة قانون الجنسية العراقية لضمان حق أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين في الحصول على الجنسية العراقية دون عراقيل، بما ينسجم مع مبادئ الدستور وحقوق الإنسان.
4. إعادة النظر في فلسفة التعامل مع المغترب العراقي من منظور وطني تنموي، لا أمني أو رقابي، لأنهم يمثلون امتداد العراق في العالم، وجسرًا حضاريًا واقتصاديًا يجب الحفاظ عليه لا إضعافه.
5. تفعيل الرقابة البرلمانية والقضائية على عمل البعثات الدبلوماسية، وإصدار تعليمات ملزمة لمنع أي تجاوز أو تأخير متعمد في إنجاز معاملات المواطنين.
خاتمة معمّقة
إن الظواهر الإجرائية التي تمس هوية المواطن العراقي في الخارج لا يمكن النظر إليها كحوادث إدارية معزولة، بل هي انعكاس لأزمة عميقة في مفهوم الدولة ذاتها. فالدولة التي تُبنى على الخوف من مواطنيها، أو على الشك في انتماء المغتربين إليها، تُعيد إنتاج منطق الإقصاء الذي كان سببًا في موجات الهجرة والاغتراب منذ عقود.
لقد تحوّل الجهاز الإداري في العراق إلى ما يشبه “الحدود الداخلية”، حيث تُمارس السيادة لا لحماية المواطن، بل لضبطه ومساءلته حتى في وجوده البعيد. إن هذا النمط من السلطة الإجرائية غير المرئية، التي تتخفى وراء النصوص القانونية، أخطر من القوانين نفسها، لأنها تخلق واقعًا موازياً بلا إعلان، فتُسقط الجنسية بالفعل قبل أن تُسقطها بالقرار.
إن المطلوب اليوم ليس مجرد إصلاح إداري، بل تحول في فلسفة المواطنة؛ من مواطنة مشروطة بالولاء الجغرافي والسياسي، إلى مواطنة قائمة على الانتماء القانوني والإنساني والحق الطبيعي في الوطن. فالعراقي الذي اضطرته الظروف إلى الهجرة لم يغادر وطنيته، بل حملها معه في ذاكرته ووجدانه، وفي سعيه لأن يظل جزءًا من وطنٍ لم ينصفه.
إن الإنصاف الحقيقي يبدأ من الاعتراف بكرامة المواطن المغترب، وحقه في أن يكون عراقيًا بلا قيود بيروقراطية ولا امتحانات في الوطنية. فالمواطنة لا تُقاس بتجديد جوازٍ أو بصمةٍ في دائرة، بل بشعور المواطن أن دولته لا تزال تعترف به، وتحميه، وتفخر بانتمائه إليها.
2025-11-13