قيود الممكن والمستحيل في تدبير السياسية السورية!
أمجد إسماعيل الآغا*
يتصدر المشهد السوري الحالي تساؤل جوهري يتصل بحدود الممكن والمستحيل ضمن نطاقاته السياسية والاجتماعية، حيث تبدو سوريا محاطة بتوتر مزدوج بين واقع مرير يعاني منه السوريين، وطموحات سياسية تبدو ناقصة أو غير مكتملة. يتجلى هذا التوتر في التفاعل المتناقض بين الفعل الواقعي والتمني السياسي، ما بين حالة سياسية وأمنية قائمة ليست فقط صعبة بل حتمية في بعض جوانبها، وما يلوح في الأفق من آمال قد تكون مبهمة أو مرتكزة على حسابات مدروسة أو حتى مشروطة ومجزأة. نتيجة لذلك فإن الأزمة المركزية تكمن في تحديد ما يمكن تحقيقه عمليًا ضمن الإطار السوري الراهن، مقابل الأوهام والهياكل السياسية التي تقتنع بها الأجندات المحلية والإقليمية والدولية، والتي في كثير من الأحيان تغطي على واقع متراجع يتمثل في تزايد التشرذم السياسي والاجتماعي والانسداد في آفاق الحلول. هذا التناقض يعكس حالة من الجمود وصعوبة تحريك المشهد نحو انفراج سياسي حقيقي، ما يستدعي قراءة نقدية واعية تحلل بدقة مستويات الفاعلين ومصالحهم وأدوارهم المتشابكة.
في ظل هذه المعطيات، تصبح المهمة الأساسية هي الفصل بين ما هو قابل للتحقق ضمن الظروف السياسية الراهنة، وما يُشكل من قبيل الأوهام الاستراتيجية التي قد تؤدي إلى المزيد من التمزق والتراجع، ما يجعل من القدرة على التمييز أداة حاسمة في إعادة التوازن واستشراف طريق يقود إلى استقرار مستدام، وضمن ذلك يبدو أن سوريا تمارس لعبة مزدوجة بين الواقع المرير والطموحات المنقوصة، بين الفعل والتمني، وبين ما هو قائم حرجٌ ولا مفرّ منه. هذا الأمر يتطلب الإجابة على سؤال مركزي؛ ما الذي يمكن تحقيقه فعلياً في المشهد السوري، وما هي الأوهام التي تتدثر بها الأجندات المحلية والإقليمية والدولية، في حين يتقهقر الواقع السوري إلى مزيد من التشرذم والانسداد؟.
لا يمكن تناول مسألة الممكن في سوريا بمعزل عن السياق السياسي والاجتماعي المعقد الذي يحدد أُطره وشروطه. إذ تنبع هذه الإمكانيات من دينامية متغيرة بين قوى داخلية متناحرة ومصالح خارجية متداخلة، بحيث لا يمكن اختزال الممكن إلى مجرد رغبات أو تطلعات فردية، بل هو انعكاس لتوازنات القوى الحقيقية والمحددات التي تشكل معايير الفعل السياسي القابل للتحقيق، إذ تتأسس الإمكانيات السياسية في سوريا على وجود رغبة واقعية لدى بعض الجهات الفاعلة، سواء من داخل النظام أو خارجه، في السعي لتجاوز النزاع وإرساء مشروع لإعادة البناء السياسي الوطني. ومع ذلك، تتعرض هذه الرغبة لحاجز جوهري يتمثل في غياب بيئة سياسية واجتماعية مستقرة، وهو وضع تحكمه عوامل متعددة من بينها الاستمرار في التداخل والتنافس المرتبط بالنفوذ الأجنبي، حيث يلعب الفاعلون الإقليميون والدوليون أدواراً فاعلة في إعادة رسم خريطة النفوذ السوري ضمن سياق جيوسياسي أوسع.
هذه الحال تعني أن إمكانية التدبير السياسي في سوريا ليست مجرد عملية داخلية بحتة، بل هي خاضعة لتقاطع مصالح وتوازنات معقدة تتطلب فهماً حكيماً وشاملاً للتحديات، فضلاً عن استراتيجيات متعددة المستويات توازن بين الطموح لفرض إرادة الحل وبين الواقع الميداني والسياسي المحكوم بمصالح وتدخلات خارجية متعددة.
من هنا، تبدو أوهام الحدث السوري متعددة الطبقات. أولى هذه الأوهام هي تصور أن حل الأزمة ممكن عبر حلول خارجية ترتكز على تفاهمات بين القوى الكبرى، وتتجاهل متطلبات التوافق المحلي والبنية المجتمعية المتصدعة؛ هذه الأوهام تدعو إلى واقع يعيش على أمل مباحثات دولية لا تُنشئ طرقاً عملية لاستعادة الشرعية الوطنية أو تعزيز الديمقراطية الحقيقية في سورية، كما يتمركز الوهم الثاني حول قدرة النظام المركزي على توحيد البلاد عبر استعادة القوة الأمنية فقط، مما يغذي ديناميكيات الاحتقان والصراع ولا يحقق الاستقرار المطلوب. أما الوهم الثالث فيتعلق بفكرة المصالحة السريعة التي تُطلب من المجتمع، والانتقال إلى تسويات سياسية دون معالجة حقيقية لجذور النزاع، وبدون محاسبة عادلة تضمن عدم تكرار الانتهاكات.
ما يمكن استيعابه من المشهد هو أن الممكن في سوريا ليس العودة إلى وضع سابق، ولا هو مشروع إصلاح شامل متكامل يُنجز بضغط خارجي أو بقرارات مركزية رافضة للحقائق الجديدة على الأرض، وإنما تكوين مسارات سياسية واقعية تبني خطوة تلو الأخرى اتفاقات جُزئية قابلة للاستمرار، وتوافقات حول قضايا محددة تبدو اليوم بعيدة من النظرة الشمولية لكنها تشكل أساسات للتغيير. هذا يتطلب تنقية أجواء العمل السياسي من الكبرياء الإيديولوجي “إن أمكن التعبير” والمواقف المتصلبة، وتشكيل قنوات تواصل مستدامة بين كافة الفواعل، مع استيعاب أن عملية بناء الدولة والديمقراطية في سوريا ليست خطاً مستقيماً بل هي خبرة انكسارات وتصحيحات مستمرة.
يُمكن أيضاً وصف الممكن في سوريا كمشروع تحكمه التوترات حول العودة إلى المؤسسات وإعادة توزيع الموارد واستعادة علاقات الثقة، وصولاً إلى خلق فضاءات صغيرة للتوافقات الاجتماعية والسياسية تسبق كل مشروع متعدد الأبعاد. لكن هذا المشروع قابل للارتداد والانفجار إذا لم يبنَ على مشاركة شاملة وفعالة للشرائح الاجتماعية المتنوعة، خصوصاً الشباب والنساء والمناطق المهمشة والمشرذمة، ممن يمثلون البنية الاجتماعية الضرورية لبقاء أي نظام سياسي ينبني على التعددية والعدالة الاجتماعية.
بهذا المعنى فإن قيود الممكن والمستحيل في تدبير السياسة السورية تحكمها مجموعة من الفخاخ متعددة الأبعاد سياسية واقتصادية وفكرية، تُعقّد فرص البناء والاستقرار، ويمكن إيجازها بالآتي:
أولاً، القيود المتعلقة بالحسم العسكري، والتي تتمعن في التفكير بأن القوة وحدها قادرة على إنهاء الصراعات وتحقيق الوحدة الوطنية؛ هي وهمٌ خطير يغفل أثر العنف المستمر في تعميق الانقسامات المجتمعية وتأجيج الصراعات. فالحسم العسكري لا يحقق السلام المستدام بل يولّد حالة من الاستقطاب والعنف المتجدد، ويعزز ثقافة الاستبعاد التي تُنفر الفئات الممثلة لمكونات المجتمع المختلفة.
ثانياً، الرغبة في العودة السريعة إلى الدولة المركزية باعتبارها الحل الأمثل، تُعدُّ تصوراً مبسطًا وغير واقعيّ لطبيعة الأزمة السورية وحجم التشرذم الإجتماعي والسياسي الموجود. هذا الوهم لا يأخذ بالاعتبار التحولات العميقة في بنية المجتمع السوري، ولا يقدّر الحاجة إلى بناء مؤسسات تُعبّر عن التنوع والتعدد، مع ضمان العدالة والمشاركة السياسية الحقيقية؛ نتيجة لذلك فإن الإصرار على نموذج دولة مركزية قوية دون ضمانات اجتماعية حقيقة يُخاطر بإعادة إنتاج الأزمة بأساليب جديدة، ويزيد من حدة الاستقطاب.
ثالثاً، التطلعات المفرطة للتدخل الخارجي، سواء عبر الدعم السياسي أو العسكري، تنطوي على خطأ استراتيجي بعيد المدى، إذ تمحو دور الفاعلين المحليين الرئيسيين في صياغة موازين القوى وبناء الحلول، فالاعتماد على تدخلات خارجية يعزز ديناميكيات إقليمية ودولية متضاربة المصالح، مما يُؤخر أو يُعرقل بناء توافقات وطنية حقيقية. بحسب ذلك، يصبح الاستقرار مرتبطاً بمصالح تلك القوى أكثر من طموحات المجتمع السوري نفسه.
رابعاً، تشكل الصراعات الخارجيّة على النفوذ في سوريا بُعداً أساسياً في تفكيك الدولة، عبر فرض واقع جغرافي متناثر تحكمه مناطق نفوذ متباينة. هذا الانقسام الجغرافي لا يُضعف فقط فرص الوحدة الوطنية، بل يقيد الفضاء السياسي ويعزّل القوى الوطنية، إذ تتحول المحاصصات الإقليمية والدولية إلى حواجز أمام أي مشروع سياسي وطني جامع، مما يقلص قدرة السوريين على وضع أجندة سياسية مستقلة ينطلقون منها نحو الاستقرار والتنمية.
ما سبق قد يُولّد حالة من الجمود والتشنج السياسي والاجتماعي والاقتصادي، تعوق إمكانية بناء تسويات حقيقية وتفكك الأفق السياسي، بينما يبقى المجتمع السوري محاصراً بين تبعات الأوهام وتحديات الممكن والمستحيل، في وقت يُحتم فيه الواقع اتخاذ خيارات رشيدة تراعي تعقيدات المشهد وتبتعد عن الحلول السريعة والمختصرة.
في المعنى والمضمون يبدو واضحاً أن سوريا تواجه معضلة مزدوجة بين إمكانية بناء تسويات سياسية متدرجة ذات مسارات حقيقية ومفتوحة على التغيير، وبين أوهام تغذيها الأنانيات المحلية والإقليمية والدولية، وما ينتج عنها من انقسامات مزمنة تمتص طاقات الشعب وتستنزف آماله؛ بهذا المعنى فإن التمييز بين الممكن والمستحيل له مردود عملي على زمن التحولات المقبلة، فهو الذي يحدد إلى أي حد يتقبل المجتمع السوري أن يتعامل مع الواقع السياسي بواقعية ناضجة، أم سيبقى أسيرا لأوهام تبرر الإطالة في الصراع وتعقيد الحلول.
كاتب وباحث سياسي.
نائب رئيس مجلس النهضة السوري.
2025-11-07