غير مأسوف عليها .. الهيمنة الأمريكية على العالم إلى زوال!
د. عمر ظاهر
ها قد جاء يوم السادس عشر من شباط، ومرّ، ولم يقع اجتياح روسي لأوكرانيا. إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن دأبت، منذ بداية المناورات الروسية داخل أراضيها قرب الحدود مع أوكرانيا، على العويل بأن بوتين مقبل لا محالة على غزو أوكرانيا، حتى أن هذه الإدارة حددت ساعة الصفر وأبلغتها إلى إسرائيل. وذلك العويل أزعج حتى القيادة السياسية في أوكرانيا نفسها، والتي لم تكن منذ البداية تشعر بالقلق من سيناريوهات الغزو الروسي. ناهيك عن أن القيادة الروسية بدورها نفت وبشدة نيتها غزو أوكرانيا. ما الذي جرى؟
يرى بعض المراقبين أن إدارة بايدن أرادت بالتهويل من شأن المناورات الروسية استفزاز روسيا، وجعلها تقدم على التصعيد، ومن ثم توريطها بالفعل في الإقدام على غزو أوكرانيا، وكأن الحروب يمكن تفجيرها بالحرب النفسية والدعائية دون وجود دواع حقيقية لنشوبها. الفكرة هي أنه إذا فعلت روسيا ذلك، فإنها ستجد نفسها إزاء أوروبا خائفة، ترتمي مباشرة في أحضان أمريكا طلبا للحماية، وتبدأ بمعاقبة روسيا كما يشتهي بايدن.
يبدو الهدف من التهويل غير معقول، والثمن باهظا، فقد عرضت إدارة بايدن نفسها، وأجهزة استخباراتها إلى فضيحة كبرى، فالحرب النفسية والدعائية شيء، وتحديد تاريخ محدد للغزو شيء آخر. انتهى الأمر إلى فشل استخباراتي ذريع، والولايات المتحدة البايدنية سجلت هدفا نظيفا في مرماها هي، وهذه سابقة خطيرة تكشف مدى التخبط الذي تعاني منه ولايات السيد بايدن.
لكن القول بمحاولة جر بايدن الروس إلى غزو أوكرانيا ليس خطأ، بل هو غير دقيق بعض الشيء. المحاولة لم تجر مع الروس لجرهم إلى الغزو، بل جرت مع الأوروبيين لجعلهم يصدقون أن روسيا تريد غزو أوكرانيا، ودفعهم إلى التصعيد ضدها. التهويل البايدني يمكن فهمه في سياق العلاقات الأمريكية الأوروبية، فهي محط اهتمام بايدن في محاولته رأب الصدع الذي برز في هذه العلاقات في السنوات الأخيرة.
واضح أن السيد بايدن لم يُسقط في يده، كما يقول التعبير الشائع، بل إنه أسقط في يديه الاثنتين. وهو أوقع نفسه في هذه الحالة من التخبط لأنه استهان بالأوروبيين، وقلل من شأن ذاكرتهم القريبة. إنه لا يدرك كم ضعيف هو إذ يحاول استعادة ثقة الأوروبيين بعد الشرخ الذي تسبب فيه سلفه دونالد ترامب.
أوروبا أفاقت في عهد ترامب على الحقيقة، وعلى واقع أن العالم قد تغير، وأن الحليف الأمريكي قد تغير، فترامب لا يمثل فقط شخصا، بل إنه يمثل نزعة أمريكية جديدة تتلاءم مع مصالح أمريكا، فعبارة (أمريكا أولا) التي أطلقها ترامب لم تأت من الفراغ، بل من واقع أمريكي، وعالمي جديدين. حين قال ترامب أن أمريكا لن تدفع أموالا لحماية الأوروبيين، وحين ضرب عرض الحائط الاتفاقيات التجارية مع أوروبا التي كان الأوروبيون يحسبون أنها راسخة رسوخ الجبال، فإنه أيقظ الأوروبيين من حلم جميل. ألم تظهر فكرة الحلف العسكري الأمني الأوروبي المستقل على خلفية إجراءات ترامب وتصريحاته الصادمة؟
ثقة الأوروبين بالحليف الأمريكي تزعزعت، ومن الصعب أن تستقر من جديد لمجرد أن جو بايدن فاز في انتخابات رئاسية مضطربة سجلت سابقة خطيرة في تاريخ أمريكا، وفتحت عهدا جديدا يتميز بظهور تناقضات المجتمع الأمريكي على السطح. ترامب، وهو في الحكم، وكذلك وهو يرفض الاعتراف بنتائج الانتخابات، كشف حقيقة الوضع الأمريكي الجديد بكل وضوح. والآن ليس هناك ما ينفي عودة ترامب، أو أحد من أنصاره، إلى الحكم مجددا في الانتخابات المقبلة ليثبُت أن ما قاله ترامب، وما فعله، هو الحقيقة المرة. ولهذا ترى أوروبا وتشعر أن الاستقلال عن القرار الأمريكي، وعدم الاعتماد على أمريكا، أمران باتا يشكلان ضرورة وجودية ملحة. ليس الأمر بتلك السهولة، واستقلالية القرار لن تحدث بسرعة، لكن العملية بدأت.
هذه هي مشكلة السيد بايدن، فهو يريد أن يجعل الأوروبيين يصدقون بأن كل شيء على ما يرام، وأن بإمكانهم الاعتماد على العجوز المريض بايدن في ضمان الأمن لهم، وأن حقبة ترامب كانت سحابة صيف ومرت، في حين يمكن اعتبار محاولات بايدن مجرد صحوة قصيرة من سكرات موت العهد القديم الذي أعلنه ترامب. ويمكن اعتبار أزمة أوكرانيا مناسبة لممارسة أوروبا لميولها الاستقلالية المشروعة في ضمان أمنها، والإفلات من الهيمنة الأمريكية في نفس الوقت.
تبين جليا في هذه الأزمة أن الأوروبيين يتميزون بعقلانية سياسية، وبرصانة استراتيجية جعلتهم يأخذون أمن أوروبا بأيديهم. إنهم يدركون أن تحقيق هذا الأمن ممكن عبر التفاهم مع الروس، وطمأنتهم، فالروس عندهم مخاوف مشروعة. وفي آخر المطاف لا أحد في أوروبا يريد حربا في أوروبا تكون نتيجتها الخسارة المؤلمة لجميع الأطراف.
السيد بايدن يعاني من مشكلة تخص أمريكا وحدها، ولا يمكن له أن يصدر هذه المشكلة إلى الخارج. وهذه المشكلة هي في حقيقتها بسيطة، وممكنة الحل بسهولة. ما هي؟ أمريكا لم تعد قادرة على فرض هيمنتها على العالم؛ أولا، لأن قوى عالمية أخرى صاعدة تريد أن يكون لها دور في تحديد مقدرات العالم؛ وثانيا، لأن شعوب العالم تعبت من الهيمنة الأمريكية التي لم تجلب لها غير الحروب، والعنف، والويلات تحت يافطة نشر الديمقراطية الزائفة؛ وثالثا لأن أمريكا تواجه اضطرابات داخلية تقترب من الانفجار، فالأولى بالساسة الأمريكيين توجيه جهودهم نحو الداخل لتجنب التشرذم، والتفكك، والتدمير الذاتي. الحل يكمن في فتح الأعين، ورؤية الواقع الجديد، واختصار معاناتهم وذلك بتقبل حقيقة أن الهيمنة الأمريكية على العالم لم تعد ممكنة. لماذا التكابر؟
لهذا، وبدلا من أن يختلق السيد بايدن صراعات هنا وهناك ليلعب دور صاحب الهيمنة، فإنه أولى به أن يتعلم من خيبته في دفع الأوروبيين إلى التصادم مع الروس، أو جر الروس إلى غزو أوكرانيا، وأن يستسلم للقدر المحتوم للهيمنة الأمريكية؛ إنها وصلت إلى نهايتها. التاريخ يقول له: أيها السيد بايدن، بوتين ليس صدام حسين وأوكرانيا ليست الكويت حتى تورطوا بوتين بغزوها، والأوروبيون ليسوا عربان الخليج العربي حتى تدفعوهم إلى تمويل تدمير أنفسهم في حروب لا مستفيد منها غير الأمريكيين!
إنها النهاية أيها السيد بايدن.
2022-02-18