سلاح المقاطعة الاقتصادية العربية لاسرائيل
عميرة أيسر
تعتبر المقاطعة أحد أهم الأسلحة التي تستخدمها الدول بفعالية من أجل تحقيق أهدافها السِّياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، ويكتسب هذا السِّلاح أهمية خاصة حين تستخدمه الشعوب المظلومة سلاحاً شعبياً وسياسياً رسمياً في حربها العادلة ضدَّ الاستعمار الغاشم، والغزاة المستوطنين وترجع بدايات استعمال سلاح المقاطعة إلى بدايات القرن 18م، عندما استخدمته الولايات الأمريكية ضدَّ الاستعمار البريطاني إبان فترة حرب الاستقلال في عام 1775-1783م، ولدى لكلوزفيتز المنظر العسكري البروسي قول مأثور في تعريفه للحرب بأنها استمرار للسِّياسة بوسائل أخرى، ويطور ماوتسي تونغ هذا المفهوم ليصف الحرب نفسها بأنها عمل سياسي، وبأنه لا يمكن فصل الحرب لحظة واحدة عن السِّياسة ، فالسِّياسة عنده هي عبارة عن حرب دون إراقة الدماء، في حين أن الحرب هي سياسة دامية ويلخص الزعيم السُّوفيتي فلاديمير أوليانونف لينين للسياسة بأنها تعبير مركز عن الاقتصاد. فالحرب لها أربعة أشكال وليست بين طرفين فقط، وهذه الأشكال تشمل الصراع السِّياسي، والصراع المسلح، والحرب النفسية، وأخيراً الحرب الاقتصادية كما جاء ذلك في خطاب للفريق المصري محمد فوزي ألقاه عند افتتاح المؤتمر 28 لمكاتب المقاطعة العربية لإسرائيل في مدينة الإسكندرية، وهو الخطاب الذي نشر في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 3-8-1969م، فالحرب الاقتصادية والتي تعتبر المقاطعة أهم وسائلها في وجه العدو والتي يعتبرها مديلكوت الخبير الاقتصادي البريطاني في كتابه الذي يحمل عنوان الحصار الاقتصادي، بأنها السبب في ظهور الصلة بين الطابع العسكري والحروب الاقتصادية بشكل أعمق وأدق، فهو يقول بأن الحرب الاقتصادية هي عملية من حيث أنها تماثل عمليات القوات المسلحة من ناحية، في أنَّ وظيفتها هي حرمان العدو من الوسائل المادية للمقاومة، ولكن خلافاً لعمليات القوات المسلحة فإن نتائجها لا تتحقق بالهجوم المباشر، بل أيضاً بالضغط على الدول المحايدة والتي يحصل منها العدو على تمويله، وهذه يجب أن تميز عن التدابير الاضطرارية المُناسبة والتي تطبق في وقت السِّلم. لتسوية الخلافات الدولية دون الالتجاء إلى الحرب مثل العقوبات الاقتصادية أو التأثير الاقتصادي وذلك لأنها وعلى النقيض من هذه التدابير يتوافر لها التصديق الكامل لاستخدام جميع حقوق المتحاربين.
ومن أهدافها الاقتصادية في العادة ضمان الموارد الخام، وضمان الأسواق وتحسين شروط التجارة ومنع دولة ما من الحصول على الموارد الخام أو سلع ذات قيمة إستراتيجية، هذا وقد عرَّفت الكلية الصناعية التابعة للقوات المسلحة الأمريكية عام 1956م، مثلما جاء في كتاب الأستاذ فؤاد محمدي بسيسو والذي حمل عنوان تأثير المقاطعة العربية على الاقتصاد الإسرائيلي- منشورات دائرة الأبحاث والدراسات، البنك المركزي الأردني في العاصمة عمان سنة 1971م وذلك في صفحة رقم 12-13 هذه الحرب بأنها استعمال التدابير الاقتصادية للهجوم على الأهداف الاقتصادية وتهدف عادة إلى تمزيق قوة العدو، والعمل على شلِّ حركته حتى لا يستمر في الحرب. وهي تستخدم مجموعة متنوعة من الأسلحة التي توجه ضدَّ العدو كأيِّ حرب أخرى، والفارق بينهما هو أن الحرب الاقتصادية لا توجه مباشرة إلى جسد العدو، وأهم الأسلحة التي تستعمل في هذه الحرب هي استخدام الحصار البحري، والعسكري التجاري، وحظر النقل وعدم التعامل مع البضائع المحظورة، والرقابة على الاستيراد والتصدير و استعمال نظام القوائم السُّوداء، والمشروبات التحويلية…… ثم الغارات الجوية لضرب الأهداف الاقتصادية والقصد الأساسي منها هو منع التعامل وإيقاف التبادل التجاري، وتأتي المقاطعة الاقتصادية باعتبارها مساهمة في هذا التعامل، في مقدمة الأسلحة المستخدمة في الحرب الاقتصادية ويصف الدكتور لطفي عبد العظيم كما جاء في مقال له نشر بتاريخ 1-12-1965م، في مجلة الأهرام الاقتصادي بالقاهرة، في العدد رقم 247 بأنها أعنف صور الحرب الاقتصادية وأنواعها كثيرة تبدأ من تلك التي تهدف إلى حماية عادات وأخلاق معينة وهي التي يطلق عليها المقاطعة الاجتماعية إلى المقاطعة الاقتصادية البحتة للتكتلات الاقتصادية في المُجتمع الرأسمالي، وأنصار ذلك النوع من المقاطعة الذي يستعمل في الأوسط العمالية سلاحاً للضغط على أرباب العمل، ووقف توريد سلعة معينة وهناك نوع أخر من المقاطعة، وهو إضراب المستهلكين عن استهلاك سلعة معينة للقضاء على تصرفات معينة تصدر عن منتجها.
وقد كانت المقاطعة الاقتصادية العربية للكيان الصهيوني والتي طبقت بفعالية منقطعة النظير حتىَّ توقيع اتفاقيات السَّلام المصرية الصهيونية في عهد الرئيس الراحل أنور السَّادات في17سبتمبر 19778م، بعدما كان التطبيع السري والعلني يعتبر خيانة كبرى تهدد منظومة الأمن السِّياسي والاقتصادي الإقليمي القومي العربي، فالمقاطعة كسلاح سياسي واقتصادي فعَّال وناجع في رد الهجمة الاستيطانية الصهيونية، و التي بدأت تتبلور تدريجياً منذ التواجد البريطاني في فلسطين المحتلة وذلك بالرغم من كل المحاولات البريطانية لإجبار سكان فلسطين المحتلة على التطبيع الإجباري مع العدو الصهيوني، وذلك باستعماله لسياسة الترهيب والترغيب، فقد جاء في أحد فصول كتاب المقاومة العربية في فلسطين 1917-1948، تأليف الأستاذ ناجي علوش والذي أشار فيه الكاتب إلى سياسة السير واكهوب الذي كان يشغل منصب المندوب السَّامي البريطاني في فلسطين المُحتلة في تلك الفترة، وذلك في رغبته التقرب من الزعامات والوجهاء العرب وما نجم عن هذه السِّياسة الخبيثة من اندفاع السماسرة لتسهيل بيع الأراضي العربية للصهاينة، ص 75-76 حيث سيطرت فكرة التعاون على قطاع واسع من قيادات الحركة الوطنية آنذاك، كذلك أكثر المندوب السّامي البريطاني في تنظيم المآدب والولائم والحفلات لهم، وكانوا يدعون الزعامات العربية لها والصهاينة أيضاً، وقد ولدت هذه الاتجاهات الاستسلامية للصهاينة ردود فعل شعبية غاضبة جداً، فاضطرت اللجنة التنفيذية العربية نتيجة ازدياد الضغوط الجماهيرية والنقمة العارمة لأن تدعوا لإجتماع عقد في مدينة يافا الفلسطينية بتاريخ 26-3-1933م، كان في مقدمة قراراته تقرير مبدأ اللاتعاون والمباشرة في تنفيذ أولى درجاته منذ الآن، كمقاطعة الحفلات والمجاملات مع الحكومة، ومقاطعة لجان الحكومة ومقاطعة كذلك البضائع الانكليزية والمصنوعات والمتاجر الصهيونية وذلك في الصفحة 78 من نفس الكتاب.
وفي كتاب مقاطعة إسرائيل قواعدها وأهدافها والصادر عن جامعة الدول العربية- قسم الأمانة العامة، منشورات المكتب الرئيسي لمقاطعة العربية لإسرائيل وذلك في شهر أب- أغسطس من سنة 1965م وذلك في الصفحة رقم 8، جاء فيه بأن فكرة مقاطعة الصناعات الصهيونية اتسعت تحت تأثير ازدياد الوعي العربي العام، وشعوره بالسَّخط نتيجة تغلغل السرطان الصهيوني فيه، و الذي أخذ يتمركز في قلب الوطن العربي. وقد ظهر هذا جلياً بوضوح في محاولة الصهاينة تركيز صناعاتهم في فلسطين المُحتلة، وتدفق اليهود إليها من كل أنحاء العالم، وبأن المقاطعة العربية لإسرائيل مرت بمرحلتين تختلف كل مهما عن الأخرى، في إعراضها ووسائلها ويذكر بأن المرحلة الأولى منها بدأت بقرار اتخذه مجلس الجامعة العربية في جلسته المنعقدة بتاريخ 2-11-1954م، فالمقاطعة العربية في هذه المرحلة لم تكتمل لها أسباب الإحكام، وذكر فيه كذلك أن المرحلة الثانية منها صدرت بتوصية من اللجنة السِّياسية التابعة لجامعة العربية وذلك في شهر آب- أغسطس سنة 1950م، وأصبحت تلك التوصية قراراً شاملاً يقضي بإنشاء مكاتب للمقاطعة في كل قطر عربي، وتكون كلها تحت إشراف المكتب الرئيسي للمقاطعة العربية لإسرائيل، والذي له مقر دائم في مبنى الجماعة العربية بالقاهرة، ويرى الأستاذ جوزيف مغيزل في كتابه الذي حمل عنوان المقاطعة العربية والقانون الدولي في صفحة رقم 55 بأن المقاطعة العربية لكيان الصهيوني الغاصب قد مرت بثلاث مراحل كانت الأولى بمقاطعة السِّلع الصهيونية المنتجة في فلسطين المحتلة من قبل أبناء فلسطين العرب من عام 1936-1945م، والثانية تدخل الجامعة العربية ومشاركة بعض الدول العربية في المقاطعة من عام 1945م إلى غاية 1949م، والثالثة تنظيم المقاطعة واللوائح السَّوداء من عام 1951 إلى اليوم.
وبالرغم من العلاقات السِّياسية والاقتصادية المعلنة والسرية لكيان الصهيوني مع عدد من الدول العربية وهذا خلافاً لكل شعوبها، فإن المقاطعة الاقتصادية تكبد الكيان الصهيوني مبالغ فكلية تصل إلى مئات المليارات سنوياً، فحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن الجامعة العربية فإنَّ الكيان الغاصب خسر حتى نهاية 1999م حوالي 90 مليار دولار منها حوالي 20 مليار دولار كصادرات متوقعة لدول العربية، و 24 مليار دولار للاستثمارات المباشرة في تلك الدول، بالإضافة إلى أكثر من 46 مليار دولار خسائر مباشرة وغير مباشرة جراء مقاطعات الشركات العالمية الداعمة لكيان المحتل، ومنذ انطلاق المقاطعة الشعبية العربية لكيان الصهيوني و دخول منظمات عربية وأوروبية فاعلة على الخط منذ سنة 2005 م، بهدف الضغط على الحكومات العربية والغربية من أجل وقف التعامل نهائياً مع تل أبيب في المجالات الإنمائية والبحثية والاقتصادية والزراعية، فالأرقام تشير إلى أن قطاع الزراعة وحده خسر أكثر من 30 مليون شيكل في عام 2005 م لوحده، فاستمرار تشبث العرب بمقاطعة الكيان الصهيوني اقتصادياً جعل الكثير من الشركات العالمية تحجم عن الاستثمار في الاقتصاد الصهيوني بالرغم منه من أقوى الاقتصاديات في الشرق الأوسط برقم ناتج محلي قدر بحوالي 283.3 مليار دولار في سنة 2012م، كما أنه تمتع بنمو مضطرد على مدار السنوات القليلة الماضية، بنمو سنوي تراوح ما بين 5.5 -7.5 بالمائة في الفترة من 2007- 2012م، وقد أشارت البيانات الاقتصادية المتوافرة بأنه وبتاريخ2- 2014م انسحبت شركات عملاقة من عطاء لبناء موانئ إسرائيلية خوفاً من تنامي حركة المقاطعة، وفي نفس التاريخ قررت الحكومة الألمانية استثناء الشركات و المؤسسات الإسرائيلية العاملة في أراضي 1967م المحتلة من التعاون البحثى والعملي والأكاديمي مع الكيان الصهيوني، كما قرر بنك دانسكه أكبر بنك في الدنمارك مقاطعة بنك هابوعاليم الصهيوني لتورطه في دعم المستوطنات المحتلة، وهناك الكثير من الأمثلة عن تلك الخسائر التي فرضتها المقاطعة العربية لإسرائيل على اقتصادها، وهذا ما دفع بوزارة المالية الصهيونية إلى التأكيد على أنًّ المقاطعة هي أكبر خطر يهدد الاقتصاد الصهيوني، وبالتالي على الدول العربية استخدام هذا السِّلاح مجدداً، وتفعيل البنود والقوانين الموجودة أصلاً في ترسانتها القانونية لتنظيم الاستخدام الأمثل لها السِّلاح الذي أثبت فعالية كسلاح فتاك في وجه الآلة الدعائية الاقتصادية والإعلامية الضخمة التي يمتلكها الاحتلال الصهيوني المدعوم أمريكياً بالأساس.
2018-01-02
-كاتب جزائري