“خارج الإطار القانوني” انتشار السلاح وتاثيراته على مستقبل السلم الأهلي!
أمجد إسماعيل الآغا*
تشكل الحوادث الأمنية المتكررة في غالبية المحافظات السورية امتداداً لسياق متشابك من الأزمات السياسية والأمنية التي يمر بها المشهد السوري برمته؛ هذه الأحداث ليست سوى انعكاسات لواقع هشّ تعاني منه السلطة، حيث تجسدت الفوضى المتراكمة عبر إخفاق المؤسسات الأمنية والسياسية في صياغة وتنفيذ آليات فعالة لمعالجة الخروقات التي تهدد السلم الأهلي، كما أن استمرار هذه المظاهر يعكس ضعف السلطة المركزية في فرض سيادتها على كامل الجغرافية، مما أتاح تنامي نفوذ الفاعلين الموازين وانتشار السلاح بشكل غير محكم، مساهماً بذلك في تفاقم الانتهاكات التي تعرقل تحقيق الأمن والاستقرار. في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة النظر في المسارات الأمنية بأبعادها المختلفة، لضمان تجاوز محطات العنف والتوتر، وتحقيق استقرار مستدام يرتكز على حوكمة رشيدة ومؤسسات قادرة على فرض القانون.
بهذا المعنى لا يمكن فَصل طبيعة الحوادث والإنتهاكات الأمنية عن الإطار السياسي والأمني الأعم الذي تمر به سورية حالياً. فهذه الحوادث ليست حالات منعزلة، بل تمثل تجليات حقيقية لانفلات أمني عميق وفوضى سياسية متدهورة، تسهم بشكل مباشر في تعميق حالة عدم الاستقرار، إذ تتداخل في هذا المشهد عوامل متعددة، منها ضعف مؤسسات السلطة الأمنية وتشتتها بين أطراف متباينة، إضافة إلى غياب رؤية وطنية موحدة قادرة على إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. في ظل هذا الواقع، يتسع الفضاء أمام انتشار السلاح بشكل غير منضبط، واستغلال الفراغات الأمنية، الأمر الذي يزيد من تعقيد المشهد ويرسخ حالة اللا إستقرار المتواصلة.
لا ينبع الانفلات الأمني في سورية من فراغ، بل هو نتيجة تراكمات تتصل بفقدان رؤية وطنية جامعة تعيد بناء الثقة بين المواطنين والدولة وتواجه التهميش والتمييز وخيبات التجربة السياسية التي أصابت البنية السياسية والاجتماعية عميقاً، وحين تتراجع منظومة الأمن وتضعف المؤسسات الشرعية، تتسع فجوات الثقة وتصبح المجتمعات أكثر عرضة للاحتكاكات التي تتجاوز البعد الأمني لتكتسب دلالة رمزية تعبّر عن هشاشة الواقع الأمني وعجزه عن فرض القانون وحماية السكان. هذه الحوادث تكشف فشل السلطة في مساءلة الفاعلين المحليين والجهات المسلحة غير النظامية، وتؤكد أيضاً قصور بنيتها في بناء شبكة حماية اجتماعية متينة تقوّي المجتمع وتقلل من آثار العنف المتكرر.
إن تفشي السلاح وإبقاءه خارج الإطار القانوني والرسمي، يمثل تهديدا خطيرا للسلم الأهلي، ليس فقط من جهة الخوف والقلق الذي يعيشه المواطن يومياً، بل من الجانب الرمزي والسياسي الذي يعبر عن الفشل في ضبط المشهد الأمني، وقد يبدو الأمر في بعض الأحيان كمجرد حوادث أمنية متفرقة، إلا أنها في الحقيقة مؤشرات حيوية تنبه إلى انزلاقات أوسع نحو انعدام السيطرة والتي قد تخرّب النسيج الاجتماعي بكل مكوناته.
السلم الأهلي، من جهة أخرى، لا يمكن بناؤه على مجرد غياب العنف أو تراجع الحوادث الأمنية، بل يجب أن يرتكز على ركائز سياسية واجتماعية واضحة. هذه الركائز تشمل ضمان مشاركة سياسية شاملة وعدالة اجتماعية تعالج المظالم والتهميشات، وصولاً إلى نزع السلاح المنفلت مؤسساتياً ومنهجياً، وإقامة مؤسسات قانونية وأمنية تحظى بثقة الأفراد والمجتمعات، وبدون توفر هذه الشروط، تبقى أي محاولة لترسيخ السلم الأهلي هشّة ومهددة بالانهيار.
للحد من حالة الانفلات الأمني، هناك أدوار متعددة يجب أن تتضافر، بداية من تعزيز دور الدولة في فرض القانون وحماية جميع المواطنين بلا استثناء، وهذا يعد حجر الزاوية، لكن لا يقل أهمية عن دور المجتمع المدني الذي يجب أن يطالب بالمساءلة ويساهم في بناء ثقافة مجتمعية ترفض العنف والسلاح المنفلت، كما يجب أن يكون هناك دور فعال للأطراف المحلية والعشائرية في مشاركة الدولة في ضبط الأمن ووضع حد للإنتهاكات والحوادث الأمنية.
في النهاية، الحلول لا تكمن في التعامل مع الفوضى كأحداث أمنية معزولة فحسب، بل تتطلب رؤية أعمق تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد السياسية والاجتماعية والأمنية معاً، فـ تعزيز السلم الأهلي في سورية، يشكل ضرورة ملحّة ليس فقط من منظور منع العنف المباشر، بل كركيزة أساسية لاستقرار المجتمع وتمكينه من مواجهة مختلف التحديات، فالسلم الأهلي هو الحاضنة الحقيقية لأي عملية إصلاح سياسي ناجحة، وهو الضامن الأساسي لاستمرارية دولة القانون واحترام مؤسساتها، ودون السلم الأهلي تظل المجتمعات عرضة للتوترات والصراعات التي تعيق التنمية وتُكرّس ظواهر الانقسام والاقتتال الداخلي، الأمر الذي يزيد من هشاشة الدولة ويهدد وحدةً نسيجها الاجتماعي.
لذلك، يجب أن يكون تعزيز السلم الأهلي هدفاً استراتيجياً يتصدر أولويات كل جهد سياسي وأمني واجتماعي، عبر بناء ثقة متبادلة بين مكونات المجتمع السوري، وتوفير فرص متساوية للحقوق والعدالة الاجتماعية، وضمان حيادية القانون وسيادته على الجميع دون استثناء.
كاتب وباحث سياسي
نائب رئيس مجلس النهضة السوري
2025-11-15