ثلاثاء أسود يزور نزار قباني!
مهدي مصطفى
هذه الأيام يطفو على ذاكرتى شبح ثلاثاء دموي، وقعت أحداثه قبل أربعة وأربعين عاما، والثلاثاء يوم عار من البهجة، يتوسط أيام الأسبوع، مسكين يتيم، لا هو يوم مقدس كالجمعة أو السبت أو الأحد، ولا هو يوم الإثنين استراحة حلاقى الرؤوس، ولا هو أربعاء الرماد عنوان قصيدة الشاعر البريطانى الشهير ت. س. إليوت، ولا هو يوم خميس يستريح فيه الناس بعد ستة أيام شاقة، يوم أهملته القداسة، وتجنبه أرباب المهن.
قرر الشعراء والروائيون والقصاصون والرسامون فى مصر ألا يتركوه فى بطالة، دون اتفاق، اتخذوه يوم «الجمع» فى مثلث النخبة وسط القاهرة العامرة: الأتيليه، ومقهى ريش، ومقهى زهرة البستان.
الثلاثاء الخامس عشر من ديسمبر عام 1981 لم يكن له شبيه، التقى فيه الأصدقاء والرفاق مساء كالعادة فى مثلث وسط المدينة، كان مساء حامضا ضبابيا، ففى صباحه المبكر وقعت بيروت ضحية لكارثة مروعة، شاب يدعى «أبو مريم» ضل طريقه إلى الجنة، فوجد نفسه فى جهنم، قاد حافلة عملاقة مليئة بالمتفجرات، وفجر نفسه فى السفارة العراقية فى بيروت على من فيها، سقط على الفور واحد وستون قتيلا، ومئات المصابين.
بعد أن مر ما يقارب نصف قرن، عاد هؤلاء القتلة مع غزو العراق على دبابة أمريكية، بعضهم كان يهتف فى الميادين بالثورات الملونة فى عواصم العرب، وبعضهم الآخر احتفى به رمزا خالدا، فقد فاز بشرب عدد من كئوس الدم أكثر من الآخرين.
فى ذلك الثلاثاء البعيد، ومع ثلة من الأصدقاء، كانت الأنباء تتوالى من بيروت عن الكارثة، وبلغت ذروة الحزن مع توارد الأخبار بأن من بين الضحايا زوجة الشاعر الكبير بلقيس الراوى البغدادية، ابنة جميل الراوي، حبيبة نزار قبانى التى انتظرها سبع سنوات، من عام 1962 إلى عام 1969، ولولا تدخل الرئيس العراقى الأسبق أحمد حسن البكر ما تزوجها، ولا صارت أما لزينب وعمر، ولولا إرسال الرئيس البكر للشاعرين الكبيرين، شفيق الكمالى وشاذل طاقة إلى أبيها المثقف المحترم جميل الراوى، لرفض تلك الزيجة وارتاح من الأسى، وكأن قلب الأب كان يحاول الهروب من شاعر تتعلق به قلوب النساء، فجاءته الفجيعة من أبناء جلدته، فجع نزار قبانى بمقتلها، ومعه العراق من شماله إلى جنوبه.
نعاها نزار قبانى فى قصيدة طويلة، جاءت مثل طلقات رشاش أصابت العقل العربى فى مقتل، ورثت الوجود برمته، وكشفت عن جوهر عقل ظلامى يدهس الورود، معتقدا أن الانتحار طريق الجنة.
كتب نزار قبانى مذبوحا: «بلقيس.. كانت أطول النخلات فى أرض العراق».
كان محض يوم ثلاثاء أسود فى ست الدنيا بيروت، جعل نزار قبانى يكتب واحدة من أهم قصائد العربية فى الرثاء، تتفوق على رثاء أبى ذؤيب الهذلى لأبنائه، وأقسى من رثاء الخنساء لأخيها صخر.
مر الخامس عشر من ديسمبر هذا العام 2025، وتكسرت العواصم فوق العواصم، وكأن بلقيس تنبأت بما سيجرى لأعظميتها، وبغدادها، وبيروتها، ودمشقها، وكل مدينة عربية فكرت يوما أن تكون طافية فوق الغناء.
وليفرح أبناء الناتو قليلا، قبل أن يتخذوا طريقهم المحتوم إلى جهنم.
2025-12-18