النيجر وعربها: قصة تلاقي الأصول والثقافات!
إدريس آيات*
الأصول والثقافات
تتشابك الروايات الإعلامية والتاريخية بخصوص أصول العرب في جمهورية النيجر، وبشأن تاريخ قدومهم وأماكن تواجدهم والقبائل التي ينتمون إليها، وقد ازدادت هذه الروايات تعقيدًا بسبب الضجة الإعلامية المرافقة لوصول الرئيس المعزول محمد بازوم إلى الحكم، وما تبع ذلك من أحداث بعد الإطاحة به في يوليو من العام الماضي.
يتألف النسيج العربي في جمهورية النيجر من عدة فئات، تتمايز كل منها بخصائصها التاريخية والثقافية، ويهدف المقال إلى تصحيح الأخطاء الشائعة التي وقع فيها الكثيرون، الذين استقوا معلوماتهم من مصادر غير متخصصة أو متحيزة، من بعض الدول التي تنحدر منها قبيلة عربية معينة، فأضفوا على كل عرب النيجر النسب نفسه، وهو ما يتعارض مع الحقيقة التاريخية؛ حيث تزعم بعضٌ من تلك الروايات بأن وصول العرب إلى النيجر حديث ويعود للقرن العشرين الميلادي، وهو ما يخالف السجلات التاريخية الدقيقة.
إذ يمكن تقسيم العرب في النيجر إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
القسم الأول:
العرب المتجذرون، الذين يعود تواجدهم في النيجر إلى حوالي 2-3 قرون، قادمين من المملكة الموريتانية البربرية القديمة، التي كانت موجودة في شمال أفريقيا ضمن المغرب العربي القديم؛ ويُعتقد أن هؤلاء العرب هاجروا إلى المنطقة في عهد الخلافة الأموية في أواخر القرن السابع، حيث ساهموا في نشر الإسلام والثقافة واللغة العربية، ومن موريتانيا انتقلوا إلى مناطق مجاورة في الدول التي تُعرف اليوم باسم مالي وجمهورية النيجر، واستقروا هناك في بيئات بدوية تتناسب مع طبيعتهم الرعوية والمشيخية، التي دفعتهم لتدريس العلوم الدينية وفق المذهب المالكي السني.
وهناك حوالي 12 قبيلة عربية في النيجر في هذا الصنف، من أبرزها قبيلة “لغلال” العريقة، التي لها جذور في موريتانيا، ولديها وجود كذلك في دول الجزيرة العربية، مثل المملكة العربية السعودية؛ لكن -وبالرغم من انتمائهم إلى قبائل متعددة، وانتشارهم في عدة دول عربية بالمنطقة- يؤكد عرب النيجر من الرعيل الأوّل على أنهم لا ينتمون إلى أية دولة أخرى.. “نحن نيجريون، نحن هنا قبل تأسيس موريتانيا الحديثة، وحتى قبل تأسيس النيجر الحديثة، نحن نيجريون بكل فخر واعتزاز على قدم المساواة مع كل قبيلة نيجرية أخرى”.
هكذا يؤكد الجيل الحالي من هؤلاء العرب في النيجر انتماءهم التام لهذه الأرض، مشددين على أنهم لا يعرفون لأنفسهم أصولاً وبلدًا غير النيجر، ويطالبون بوقف اعتبارهم وافدين حديثين، ويتحدثون لهجة عربية فريدة تبرز أصالتهم وتميزهم عن القبائل الأخرى في النيجر، مع وجودهم الكثيف في عديد مناطق البلاد، بما في ذلك إقليم طاوا، وديفا، بل وحتى جنوب أغاديس شمالي البلاد.
القسم الثاني:
يُعتبر المعروفون بـ”عرب ديفا” – إشارة إلى حيث يقطنون حاليًا، شرقي البلاد- مثالاً بارزاً للقسم الثاني من عرب النيجر؛ ويُعرفون أيضًا بأنهم من مجموعات “شوا” أو عرب البقارة، ويعود وصولهم إلى مطلع القرن العشرين من ليبيا في زمن الحكم الاستعماري الفرنسي للنيجر، وهم ينحدرون من قبائل أولاد سليمان، التي كان لها دور في الغزوات على إمبراطورية كانم التشادية، وواجهت صراعات مع قبائل التبو، قبل أن تلتحق برعاة شوا المستقرين بالفعل في منطقة تينتوما شرق جمهورية النيجر.
وبحلول منتصف القرن العشرين، شهدت هذه المنطقة تدفقًا ملحوظًا لقبائلهم من ليبيا بغرض الرعي وتجارة المواشي، خاصة الإبل، متنقلين بين مدن مثل انقيقمي وتاسكر في النيجر، وماو في تشاد، وصولًا إلى ليبيا، ومن ثم العودة إلى النيجر.
تكمن صعوبة تحديد هوية هؤلاء العرب وانتمائهم إلى دولة محددة، في كونهم بعد استقرارهم في النيجر، يعتبرون أنفسهم نيجريين، ليبيين، وتشاديين على حد سواء. وإلى هذا الصنف الثاني ينتمي الرئيس النيجري المعزول محمد بازوم، وتختلف لهجته العربية عن اللهجة العربية للصنف الأول؛ فهو يتحدث اللهجة السليمانية الخاصة بأولاد سليمان، القادمين من ليبيا.
القسم الثالث:
أما القسم الثالث من العرب في النيجر فيتألف من ثلاثة فروع رئيسية من القبائل العربية؛ الفرع الأول نزح من السودان إلى النيجر بعد موجات الجفاف في سبعينيات القرن العشرين، حيث بدأ عدد أكبر بكثير من قبائل المحاميد من بطون قبائل الزريقات – التي ينتمي إليها محمد حمدان دقلو (حميدتي)؛ قائد قوات الدعم السريع السودانية- والعشائر العربية السودانية الأخرى في الانتقال إلى النيجر وتشاد؛ ثم تبعهم الفرع الثاني من العرب الفارين من الحرب الأهلية والصراع التشادي الليبي في الثمانينيات، من قبائل المحاميد السودانية- التشادية نفسها، واستقروا قرب منطقة ديفا، منجذبين إلى حالة الاستقرار، والضيافة التي تشتهر بها النيجر. أما الفرع الثالث، فيشمل عرب الجزائر الذين لا يزالون يواصلون الوفود إلى النيجر نتيجة التصاهر والتداخل القبلي، ويستقرون غالبًا في المدينة الصحراوية شمال النيجر المعروفة بـ “أساماكا”، القريبة من الحدود الجزائرية، بالإضافة إلى أن لهم وجودهم الكبير في إقليم زندير ومنطقة أرليت.. يتميز هؤلاء بلهجة عربية قريبة من اللهجة الجزائرية، وهي تختلف بشكل ملحوظ عن اللهجات العربية الأخرى في النيجر.
وهنا، يظهر لنا بوضوح – من واقع الأصناف الثلاثة المذكورة سابقاً- سبب أزمة الانتماء التي تواجهها الفئتان الأخيرتان، حيث يعتبرون أنفسهم جزءًا من محاميد السودان ولكنهم في الوقت ذاته من عرب النيجر، أو أنهم نيجريون ولكن من أصول أولاد سليمان الليبية.. هذه الثنائية في الانتماء تفسر -مثلاً- سبب إظهار بعض المحاميد تعاطفًا مع ميليشيا الدعم السريع وقائدها حميدتي، خلال النزاع الراهن مع الحكومة والجيش السوداني تحت قيادة عبد الفتاح البرهان. في الوقت نفسه، يرى هؤلاء أنفسهم نيجريين عند الإحصاءات السكانية، بل يصفون أنفسهم كـ”عرب النيجر”، مقدمين ذلك على أي انتماءات أخرى، سودانية أو تشادية أو موريتانية أو ليبية.
مثال على ذلك ما حصل في عام 2006، فبسبب الصراع المستمر مع القبائل النيجرية الزراعية – باعتبارهم رعاة- قررتْ حكومة النيجر طرد عرب المحاميد الذين وصلوا في الثمانينيات من القرن العشرين إلى جمهورية تشاد، فقاوم النواب العرب في البرلمان النيجري القرار بشدة، معلنين انتماءهم الواضح للنيجر، ورفضهم للترحيل القسري الذي وصفوه بأنه “عنف سيقابله عنف”، حسب تعبيرهم؛ ومن بين هؤلاء النواب كان محمد بازوم، الذي سيصعد لاحقًا لمنصب الرئاسة قبل أن يُنقلب عليه.
واليوم، تتوزع القبائل العربية في شمال وشمال شرق النيجر، بالقرب من الحدود مع ليبيا والجزائر، وفي أقاليم ديفا، طاوا، زندير، وجنوب أغاديس وفق مصادر محلية. ولدى عرب النيجر حضور قوي في مؤسسات الدولة والبرلمان والوزارات، وهم يساهمون بتميز في الاقتصاد النيجري؛ ومع ذلك، فإن تأثير اللغة العربية يقتصر على المدارس ودور العبادة، نظرًا لأن الإسلام يدين به 99٪ من الشعب، بينما لا تزال اللغات المحلية والفرنسية هي السائدة في المعاملات الإدارية.
حسب الإحصاءات الأخيرة، يُقدر عدد العرب في النيجر بحوالي 250-300 ألف نسمة، ما يمثل حوالي 1% إلى 1.5% من إجمالي عدد السكان الذي يناهز 25 مليون نسمة؛ وهم يشتغلون بالتجارة، والصناعة، والرعي والسياسة.
وعلى الرغم من الضجة الكبيرة التي أحاطت بأحداث الانقلاب العسكري، ومحاولات إثارة النعرات القبلية، فإن العرب في النيجر يتوزعون على مختلف الأحزاب السياسية، ويدعم كثيرون منهم محمد بازوم كشخصية سياسية وليس فقط لأنه ينتمي إلى عرقهم، كما يصوت العديد منهم للأحزاب المعارضة، معبرين عن رؤى سياسية مختلفة تنبع من قناعاتهم الشخصية، وليس فقط من خلال الانتماء العرقي. وهم يمارسون حياتهم اليومية بوئام مع الإثنيات الأخرى، متحدثين العربية ولغات محلية أخرى كالهوسا والزرما، وهذا ما يؤكد الرواج الواسع والشهير للتعايش السلمي والتنوع الثقافي في النيجر.
https://x.com/AyatIdrissa/status/1782834497681023297
2024-04-24