اذكر حادثة بقيت ترافقني طيلة العمر وقد جرت في طرابلس حين كنت طفلا، وذلك ابان استقبال حاشد في هذه المدينة لقائد جيش الانقاذ المناضل فوزي القاوقجي، فقد كنا نقيم في محلة الزاهرية التي اصطحبني فيها اخي الاكبر الى المنشية في التل، واذ بي اسمع رصاصاً وصراخا فعدنا مسرعين إلى البيت لم افهم ما حصل يومها إلى ان اتت السنوات واوضحت لي كيف تحول استقبال بطل من ابطال النضال من اجل فلسطين إلى مسرح دام بين ابناء مدينة مجاهدة عريقة كطرابلس بسبب منافسات محلية.
هذان المشهدان ما زالا يسكنان وجداني وانا انظر اليوم إلى واقعنا العربي، مقاومة بطولية ، حيثما احتاج الامر، في فلسطين في لبنان في العراق وفي كل ارض عربية، واحتراب اهلي يمزق دولنا واقطارنا جيوشنا في الوقت نفسه، فتساءلت إلى متى نبقى محكومين بهذين المشهدين، كيف لا نغلّب مشهد نضالنا من اجل ارضنا المغتصبة في فلسطين أو في الاماكن المتعددة التي اشار اليها الدكتور محمد المجذوب في فلسطين أو في الاهواز أو اسكندرون أو في سبتة ومليلة أو في الجزر الثلاث، بالفعل هذا هو السؤال الذي نعتقد ان الاجابة عليه لا تكون الا بالتوجه مجدداً وجميعا نحو فلسطين.
ولعلها من محاسن الصدف ان تتزامن في هذا اليوم، مناسبات عدة كلها مرتبطة ببعضها البعض وان بدت بعضها ذا طابع ديني وبعضها ذا طابع وطني وبعضها ذا طابع محلي، من هذه المناسبات تاتي اليوم ليلة الاسراء والمعراج، ومن يستطيع ان يذكر الاسراء والمعراج دون ان يذكر المسجد الاقصى ويذكر معه القدس وفلسطين، فالتوجه الى فلسطين واجب شرعي، لقد اسرى الله برسوله (ص) إلى القدس ليقول ان هذا هو طريقنا جميعاً، أما المناسبة الاخرى فهي ذكرى استشهاد المفتي الشيخ حسن خالد الذي مهما قلنا في استشهاده علينا ان نتذكر ان هذا الرجل، كان رجل التواصل الحقيقي بين لبنان وفلسطين، وكان تجسيدا لهذه العلاقة التي قدم فيها اللبنانيون الاف الشهداء وخصوصاً في طرابلس على طريق فلسطين
والمناسبة الثالثة، وهي عزيزة على قلبي واعتقد على قلب الدكتور عبد المجيد الرافعي، ورئيس المنتدى في الشمال الاخ فيصل درنيقة واخرين بينكم، وهي 12 ايار 1970، في ذلك اليوم المشهود وخلال غزوة صهيونية لجنوب لبنان قام مقاتلون في الدفاع عن ارضنا في الجنوب واستشهد ثلاثة من أبناء حي الرمل في طرابلس احمد هوشر ومحمد ديب الترك و سمير حمود ومعهم رفيقهم من العراق من الموصل صقر البعث.
فلنقرأ ماذا تعني هذه الذكرى، ماذا يعني استشهاد هؤلاء من ابناء الشمال على ارض الجنوب، يجب ان نتذكرهم ونتذكر كل شهداء طرابلس الذين استشهدوا في فلسطين وفي رحاب الوطن العربي ولا ننسى هنا شهداء طرابلس ضد الاستعمار الفرنسي الذين نلاحظ اغفالا مستمرا لهم فيما يجب ان تتحول ذكرى الاستقلال أيضاً إلى ذكرى تحية لهؤلاء الشهداء الذين واجهوا باجسادهم العارية دبابات المحتلة الاحتلال الفرنسي.
اقول هذا الكلام، لأقول ان الترابط بين ما هو وطني وقومي ، وديني وانساني، في قضية فلسطين هو احد عناصر القوة الاساسية، وكل من يريد ان يضع رابطة من هذه الروابط بوجه الاخرى انما يسيء لفلسطين كما يسيء للقضية التي يعتقد انه يقاتل من اجلها، فمن يضع العروبة بوجه الاسلام فانما يسيء للعروبة اكثر مما يسيء للاسلام، ومن يضع الاسلام في وجه العروبة فانما يسيء للاسلام اكثر مما يسيء للعروبة ، ومن يضع الاثنين في وجه التقدم والديمقراطية والتحرر فانما يسيء لهما اكثر مما يسيء لهذه الاهداف، إذن فلسطين تعني هذه القضايا مجتمعة، فلسطين يجب ان ندرك انها ليست المآسي التي نراها، فلسطين أو خارج فلسطين ليست تلك المؤامرة المستمرة لتدمير كياناتنا الوطنية، لتدمير جيوشنا الوطنية، لتدمير نسيجنا الوطني الاجتماعي ، وانما أيضاً فلسطين لها وجه اخر يجب ان نتمسك به، لأن اكبر ما يخدم عدونا هو اليأس الاحباط، فاليأس والاحباط هو الاحتياط الاستراتيجي لاعدائنا، فهم حين يقودنا إلى اليأس والاحباط فانما يقودونا إلى الاستسلام فهذا غاية مناهم، لا يهمهم الجيوش التي يحطمون، ولا الاقتصادات التي يدمرون، يهمهم ان يهزموا النفس العربية، ان يهزموا العقل العربي، ان يهزموا الارادة العربية، حينها وحينها فقط يكتب لهم الانتصار، لذلك يجب دائما ان نقرأ ما حولنا ، ان نقرأ الايجابيات،
هذا الكيان الصهيوني اليوم الفرح وهو يرى الدماء العربية تسفك بايدٍ عربية وغير عربية، يجب ان ندرك انه يعيش قلقاً مصيرياً ، هذا الكيان قام على ركائز ، قام على فكرة الدعم الدولي غير المحدود، وانتم ترون الان كل يوم يمر علينا كيف تنكفئ شرائح جديدة من الرأي العام العالمي وحتى من الدول عن دعم هذا الكيان واخرها بدون شك اعتراف الفاتيكان بدولة فلسطين وهو اعتراف لا بد ان نتذكر معه المطران هيلاريون كبوجي مطران القدس في المنفى الذي بقي في الفاتيكان بانتظار العودة إلى القدس فإذ به يصطحب الفاتيكان كله ليكون معه في القدس.
كذلك من ركائز هذا الكيان العنصري الصهيوني هي فكرة الامن، كانوا يقدمون هذا الكيان ، وخصوصاً بعد حرب 1967 ، بانه الكيان الآمن المحصن الذي لا يخشى شيئاً، واذ بهذا الامن يتصدع، يتصدع من الداخل بفضل نضالات الشعب الفلسطيني ومقاومته، ويتصدع أيضاً على الحدود من خلال المقاومة على الجبتهين الشمالية والجنوبية.
كذلك الامر هناك ركيزة ثالثة لهذا الكيان، وهي الهجرة، وكل المعلومات تشير إلى ان عدد الراغبين في الهجرة من هذا الكيان يفوق عدد الراغبين في الهجرة اليه، وكذلك تلاحظون أيضاً ان اشتباكات وصدامات بدأت تحصل ضد الذين انفقوا المليارات من اجل دفعهم للهجرة إلى فلسطين كالفلاشا، اليهود ألاثيوبيين، فهذا الكيان العنصري لا يرفض السكان الاصليين من اهل فلسطين، بل بات يرفض المهاجرين انفسهم كيهود اثيوبيا وغيرها.
كذلك الامر هناك فكرة تتصل بالعقيدة الصهيونية، هذه العقيدة الصيهونية، هذه العقيدة تتحدث عن "حدودك يا اسرائيل من الفرات إلى النيل"، بدأت تضطر إلى الانسحاب من اراض احتلتها، بدأت تنسحب من سيناء وانسحبت من غزة، وانسحبت من جنوب لبنان وهذا امر من الناحية العقائدية هو تراجع كبير في عقيدة هذا الكيان وفي التزامه العقائدي، لكن علينا ان نعترف ان هذه التراجعات داخل هذا الكيان تتلازم مع هذه الانتصارات التي تحققها فلسطين على المستوى الدولي ، ومع الانتصارات التي حققتها المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين لكن علينا ان نعترف ان نقطة القوة الرئيسية التي ما زالت لهذا الكيان الصهيوني هي الواقع العربي وخصوصاً الواقع الرسمي العربي.
كتبت مرة قلت :" ان القبة الحديدية التي يحتمي بها هذا الكيان ليست التي اشتراها من الولايات المتحدة الامريكية والتي أثبتت فشلها مقابل صواريخ المقاومة"، القبة الحديدية الحقيقية هي هذا النظام الرسمي العربي الذي يتوجه بكل اتجاه إلا باتجاه فلسطين، إذا كان هناك من مشاريع اقليمية تتسلل إلى المنطقة من ايران أو من تركيا أو من غيرها، فما كان ممكنا لها ان تتسلل لو كان هناك مشروع عربي، ونحن ندرك تماما ان ما تعرض له العراق، وما تعرضت له مصر بعد كمب ديفيد، وما تتعرض له سوريا، وقبلها الجزائر، ما كان ليكون إلا من اجل ضرب ركائز هذا المشروع العربي، وهو مشروع لا يحرر فلسطين وحدها فقط، وانما يشكل رافعة على مستوى الأمة وعلى مستوى العالم كله، وكلنا يذكر ان جمال عبد الناصر لم يكن قائدا مصريا، ولم يكن قائداً عربياً فقط، وانما استطاع من خلال مشروع قاد من خلاله عالما ثالثا بأكمله وبقي رقماً صعبا على المستوى الدولي.
اذن من اجل هذا الامر لا بد من فلسطين لكي نتوحد حولها، انا ادرك تماماً، اننا بيننا خلافات كثيرة، وانا سعيد ان الندوة اليوم تضم ممثلين لتيارات واراء مختلفة في هذه المدينة وهذه اهمية فلسطين، وهذه قوة فلسطين، ولكن هذه الخلافات لا نعتقد انه بالامكان ازالتها بين يوم وآخر، ولكن نستطيع ان نوجد آلية من اجل تنظيم هذه الخلافات، من اجل عقلنة هذه الخلافات، من اجل وضعها تحت سقف معين، وهي آلية الحوار حيث يجب ان نعمل جميعاً من اجل تعميم ثقافة الحوار في مجتمعاتنا، ثقافة قبول الاخر، ثقافة ترفض الاقصاء والابعاد، ترفض الاجتثاث الذي رأيناه في العراق حيث اراد الاحتلال وادواته ان يجتثوا حزباً فإذ به يجتثون وطناً وكيانا عربيا عزيزاً كالعراق.
اقول هذا الكلام لأؤكد اننا امام هذه الفكرة الاساسية المركزية، فكرة الدعوة للحوار، وفكرة المشروع العربي، اما في لبنان فقد قلتها مرة في مهرجان اقامته الثورة الفلسطينية في ذكرى تأسيسها وتحدث فيه ممثلون عن تيار المستقبل وحزب الله وحركة امل والحزب التقدمي الاشتراكي قلت لهم تتحدثون هنا عن حقوق الشعب الفلسطيني، وأنتم تشكلون اغلبية اعضاء المجلس النيابي، نريد منكم ان تتحدثوا بهذا الكلام في البرلمان اللبناني، وتحولوه إلى مشاريع قوانين ترفع الغبن عن اخوتنا الفلسطينيين ، اذ لا يجوز ان تبقى قضية حقوق الشعب الفلسطيني متروكة بهذا الشكل، ، وبالمناسبة نحن أيضاً في ذكرى الاعتداء على جيشنا اللبناني وسقوط شهداء له على يد المجموعات التي وضعت يدها على نهر البارد.
في هذه الايام أيضاً يجب ان نتذكر ما قاله لنا هذا الصباح الشيخ عبد اللطيف دريان امام ضريح المفتي الشهيد حسن خالد في ذكرى استشهاده: "ان الفقر رفيق التطرف " إذا اردنا ان نقضي على التطرف يجب ان نقضي على الفقر"، ليس في المخيمات وحدها وانما أيضاً في مدننا وخصوصاً في طرابلس التي اشعر انها معاقبة منذ الاستقلال، معاقبة لانها وقفت بوجه الاستعمار، معاقبة لانها وقفت في وجه اعداء القضية العربية، فهذا الذي نراه اليوم من حرمان في طرابلس وفي كل مدننا وقرانا، وهذا الذي نراه من حرمان في المخيمات والاحياء الفقيرة انما ينعكس أيضاً عدم استقرار وفلتان امني وتطرفا مدمراً.
لذلك، البوصلة إلى فلسطين، هي بوصلة التلاقي فيما بيننا رغم خلافاتنا، بوصلة البناء العربي، بوصلة احترام حقوق شعبنا الفلسطيني والدفاع عنها، بوصلة احترام وتلبية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لفقرائنا اينما كانوا