“أنا يوسف يا أبي”…!
خالد عطية
وأنا من رام الله أصرخ باسم من لا يُسمع، وأكتب باسم من لا يُكتب لهم إلا قوائم الشهداء.
في العاشر من أيام الجوع، لم نعد نحفظ أسماء الجوعى في غزة فقط، بل صار لرام الله أيضًا أسماء تحفر في الذاكرة الفلسطينية معنىً آخر للتضامن: أحمد، ربى، عمر، نبيل، جميلة، هناء، عصام، نجمة… ثمانية أجساد تُذيبها الإرادة، لا لتموت، بل لتقول: غزة ليست وحدها.
ثمانية ليسوا مجرد مضربين عن الطعام، بل حُراس المعنى في زمن انهارت فيه المفاهيم. في مدينة حاصرتها السلطة بالعتمة والتنسيق الأمني والبيانات الخشبية، يخرج صوتٌ نحيل، هشّ، لكنه صلب كجدار مخيم بلا أبواب… يخرج ليقول:
“نحن هنا، وهذا هو شعبنا… شعب لا يتضامن بالشعارات، بل يقدّم الجسد كمنبر، والألم كبيان سياسي.”
ثمانية يواجهون القصف بالتجويع الذاتي، كي لا يُقال لاحقًا إن الضفة صمتت، أو إن رام الله ماتت سياسيًا. هؤلاء ليسوا نشطاء، ولا رموز نخبويّة، بل بسطاء، مؤمنون أن فلسطين لا تُقسم بين مقاوم وجائع، ولا بين سلطة ومحاصَر، بل تُوحّدهم الدمعة الواحدة، والرغيف المفقود، وصوت الطفل في غزة يقول لأبيه:
أنا يوسف يا أبي، وقد أكَلني الذئبُ في صمت القبيلة.
أولئك الثمانية ليسوا فقط ضد الإبادة. هم ضد النسيان.
ضد أن تتحوّل غزة إلى عنوان يُقال ثم يُطوى، إلى صورة تُنشر ثم تُنسى، إلى خريطة تُختصر بخط حدود ومؤتمر دولي.
هم ضد الدولة التي تُبنى بشرط أن تكون بلا سلاح، بلا مقاومة، بلا كرامة، بل بشرط أن تكون دولة تابعة، تُصفّق للمحتل حين يمنحها “الاعتراف” على جثث أطفالها.
في وجوههم، وجه خيمة الاعتصام أمام مقر الصليب الأحمر .
وفي أجسادهم، وجع الطفلة التي ماتت على بوابة الشفاء تنتظر كيس دقيق.
وفي أصواتهم، نداء من بقي في المخيمات، من شُرِّد في اللجوء، من مات في البحر، من كُبّل في سجنٍ بلا تهمة.
هم الصرخة التي لم تُنقل على الهواء، لكنّها تصدح فينا جميعًا.
وما فعلوه ليس “احتجاجًا” فقط، بل وثيقة.
وثيقة تقول إن شعبنا لا يُختصر في بيانات السلطة، ولا يُمثله من يسير في مؤتمرات الاستسلام حاملًا ملف “دولة بلا سيادة”.
وثيقة تقول إننا هنا نُضرب عن الطعام، لأنهم في غزة يُضربون بالصواريخ…
وإن الجوع في رام الله، حين يكون خيارًا نضاليًا، أكرم من الشبع في ظل سلطة تُنكر المقاومة، وتخجل من السلاح، وتعتذر عن دم الشهيد.
هذا الإضراب ليس رمزيًا فقط… إنه رمحٌ صغير في خاصرة الصمت، وخنجر في وجه الخضوع، وهو فعلٌ سياسي أبلغ من كل خطابات العواصم ومؤتمرات التطبيع.
نكتب عنهم لأنهم لا يصمتون، بل يصرخون.
• يصرخون باسم أمٍّ تبحث عن حليب لطفلها في خان يونس.
• يصرخون باسم مُسنّ يسير سبعة كيلومترات على عكازه ليصل نقطة توزيع مساعدات لا تصله.
• يصرخون باسم الشهداء الذين لم يُدفنوا، باسم الأحلام التي احترقت مع البيوت، باسم الكتب التي لم تُقرأ لأن مدارس غزة صارت أطلالًا.
هؤلاء الثمانية في رام الله، لم يعلنوا فقط الإضراب عن الطعام…
بل أعلنوا استمرار الكرامة الفلسطينية.
أمام تواطؤ دولي، وهرولة نحو تصفية المشروع الوطني، يخرج منهم صوت يشبه صرخة يوسف:
“أين القبيلة؟ لماذا أنتم صامتون؟”
لكنهم لا ينتظرون الجواب، لأنهم هم الجواب .
هم الذاكرة في وجه النسيان، والإنسان في زمنٍ باتت فيه الإنسانية ترفًا لا يُتاح إلا لمن يوقّع اتفاقًا مع القاتل.
من رام الله إلى غزة… الصوت لا يُحاصَر.
من أجسادهم المُضربة… يولد الصوت الحر من رحم الجوع، لا ليقول “كفى”، بل ليقول “ما زلنا نقاتل حتى في صمتنا”.
2025-08-04