وطنية بيت القصب وعمالة ناطحة الدولارات!
عبدالرضا الحميد
علمتني البراري الجرد ان صمتها ثابت وان متحولها ما يطرأ عليها من ضجيج هجين ، وعلمتني الشطوط ان خدودها من طين وطير ، والطين والطير ثابتان لا تحول فيهما الا منهما اليهما ، وعلمتني بيوت القصب ان النوافذ المعمدة بالماء تعلل الريح السموم ، وعلمني الفقر ان ايمان المرء رأس ماله الثابت في اليوم الذي له واليوم الذي عليه وفي اليوم الذي تحسر فيه الرؤوس وتنطق الابدان وتتكشف السرائر فلا ينفع مال ولا بنون ، وعلمني ابي ان الله واحد احد وان الاسلام واحد الى الابد وان الوطن واحد لايتعدد وان الشرف واحد سرمد ، وعلمني شقيقي ومعلمي حين حمل عروبته على منكبيه ومضى مدافعا عن مضارب حضارتها ومدائن صوتها وصمتها وبيوتات اناشيدها وتراتيلها وشعفات نخيلها واصابع زيتونها التي تقطر زيتا الهيا ، ان الرجولة موقف ، وموقف الرجل رأس ماله حين تتكشف الصحف في حضرة الوطن ، فمن اتاه بقلب ابيض وصحائف بيض ضمه الى حنايا حناياه ، ومنحه شرف مواطنته الحقة ، ومن اتاه بقلب اسود وصحائف سود أبعده عن اسوار اسواره ودمغه بعار خيانته.
والمواطنة واحدة لا تتجزأ ، والخيانة واحدة ايضا لا تتجزأ ، والمواطن ثابت لا يتحول ، والخائن متحول لا ثبات له ، والمواطنة استحقاق قدري وموقفي وتاريخي وايماني وشرفي وثوابي للمواطن ، تلصق به كما ظله ، وتشاركه شهيقه وزفيره ، فلا فكاك لها منه ولا فكاك له منها ، والعمالة ـ والعياذ بالله القوي العزيز ـ قرينة صاحبها وطريحة مضجعه ، وزوادته في حله وترحاله ، منها يشرب ماءها الاجاج فلا يزداد الا عطشا ولا يرتوي أبد أبده ، واليها يهجع فلا يستريح ولا يقر له حال ولا يسعد له بال ولو عام في بحور من الجواهر واللآلئ والاموال والضياع .
ولله درك يا ابا غيلان حين صرخت بقلب لم ينل من عظمته داء عضال ( كيف يمكن ان يخون الخائنون ؟ / أيخون انسان بلاده ؟ ).
وحال المواطن والخائن مثل حال حمدان وفحطان تماما ، فحمدان رجل فقير ، بل أمضه الفقر حتى ضجر الفقر من فقره ، وفحطان رجل ثري ، بل ارهقه الثراء حتى قرف الثراء من ثرائه.
ولفرط ضجر الاول وارهاق الثاني ، قررا ان يهربا معا ، حمدان يهرب من فقره وفحطان يهرب من ثرائه ، الى مكان لا يجدان فيه ما يهربان منه ، واتفقا على ان يغادرا مدينتهما بطريق لا يعرفان الى اين ينتهي ، فبكرا ذات فجر ، وخفا راجلين واحدا اثر الاخر على طريق نيسمي ضيق جدا لايتسع الا لمرور رجل واحد فقط ، واصبح الصباح وهما يمشيان بعزم ، ثم ارتقت الشمس كبد السماء وهما ماضيان في طريقهما من دون التفات الى الوراء ، ولما كادت تتحدر الشمس نحو المغيب ، استشعر فحطان ضرورة قضاء حاجته فأستأذن صاحبه وأقعى خلف شجيرات ، وحين نهض ، خف وراء صاحبه ، لكنه ما كاد يخطو عدة خطوات حتى عثر على كيس كبير لما فتحه وجده مليئا بأحجار كريمة وجواهر وذهب ، فبهت ، بل صعق ، ليس لعثوره على الكيس في ذلك المكان النائي والدرب المجهول غير المطروق ، بل لان صاحبه لم يعثر عليه قبله وقد سبقه على الدرب ، ولان موضع الكيس وحجمه لايمكن ان تخطئهما عين وان كانت شحيحة بصر ، فهرول فحطان وراء صاحبه حمدان حتى اذا لحق به واستوقفه سأله ( كيف لم تر هذا الكيس الكبير وانت تسبقني على هذا الدرب الضيق ؟ ) ، فرد حمدان بهدوء طاغ ( حين ذهبت يا فحطان لقضاء حاجتك تساءلت مع نفسي كيف يمكن للاعمى ان يسير وحده على هذا الدرب الضيق الشائك دون ان يصيبه أذى ، ولمعرفة بعض الجواب أغمضت عيني ومشيت ).
لحظتذاك ، امسك فحطان بصاحبه حمدان وخض اعطافه وقال له ( لنرجع يا حمدان الى ديارنا فلا فائدة من هروبنا ، فالغنى يلحق بي اينما هربت والفقر يلحق بك اينما فررت ).
ومثل حمدان وفحطان اذ لا فرار لهما من فقر الاول وثراء الثاني فلا عيش للمواطن الا في بياض مواطنته وروضها ولا عيش للخائن الا في سواد خيانته ومستنقع وحلها.
* مستعاد*
2025-04-13