متى كان للفرنسيين عهد مع الجزائريين؟
عبد الحميد عثماني
لم يطق الفرنسيّون الصبر أكثر من بضعة أيام على مكالمة الكذب والوعود الزائفة بالرغبة في عودة الهدوء إلى علاقاتهم مع الجزائر، حتى تكشّفت مرة أخرى أحقادهم المخبوءة ونيّاتهم المبيّتة في النيل من سيادتها والسعي الخائب لممارسة الابتزاز معها.
ما تفسير إحياء قضيّة مفتعلة من الأساس قبل عام كامل في هذا التوقيت السياسي؟ والتجرّؤ على اعتقال دبلوماسي قنصلي يتمتع بكل المزايا القانونية الدولية، من الشارع، على خلفية اتهام مفبرك؟
هل توقّع الفرنسيون تراجع البرلمان الجزائري عن مشروع تجريم الاستعمار، بمجرد تلقّي الرئيس تبون مكالمة هاتفية تعوّد على سماع مضمونها مرات عديدة؟ أم صدمتهم الخطوة الجديدة بإقرار اللغة الإنجليزية في آخر معاقل الفرنسية بالجامعة الجزائرية وهو العلوم الطبية؟ أم أن الشكوك تراودها حول مصير صنصال مع القضاء؟
مهما يكن الأمر، فإنّ سلطات باريس تمارس لعبة المناورة والمقايضة الدنيئة، إذ اختارت الدبلوماسي الجزائري رهينة في معركتها الخاسرة مع بلاده، لكنها فضحت أوراقها قبل الوقت المناسب، إذ لم يخفت بعد صدى المكالمة المعسولة بين الرئيسين، حتى ثبتت نيتها الخبيثة في المراوغة.
وبهذا الصدد، لا يمكن التفريق بين الأطراف الفرنسية في موقفها من الجزائر، والحديث الرسمي والإعلامي بمنطق الصراع بين مؤسسات الدولة الفرنسية واختلاف حساسياتها السياسية في منظومة الحكم الحاليّة، لأنّ فرنسا ملّة واحدة في رؤيتها الاستعمارية وأحلامها الاستعلائية، وحتى لو صدق التحليل التمييزي، فلسنا ملزمين كجزائريين بالتماس الأعذار لسلطة ماكرون إن كانت لا تقرّر سياستها الخارجيّة، لأنّ العبرة بالواقع الملموس والأضرار المترتبة في حق بلادنا.
لو افترضنا أنّ مسؤولية الواقعة الجديدة ترتبط بتآمر اليمين المتطرف وأذرعه الحكوميّة الحاقدة على الجزائر، والكارهة لأي تقارب معها بصفتها دولة مستقلّة تقف الندّ للندّ مع المستعمر البائد، فإنّ سلطة القرار العليا في الإليزي تتحمّل كلّ التبعات المترتّبة، ولا يعقل تبرئة ساحتها من هذا التجاوز الخطير، لأنّ ضبط إيقاع العلاقات مع الدول تحكمه مصلحة الدولة الكبرى وتقديرات سلطتها الأولى، ولا تحدّثونا عن ضوابط القانون واستقلاليّة العدالة في فرنسا.
بالنسبة لنا، ما يجرى منذ سنوات في عهد ماكرون ليس صادما قطّ، من حادثة التهريب الشهيرة لرعية جزائريّة من الإقليم الوطني، والموقف من الملف الصحراوي إلى تصريحاته حول الأمة الجزائرية، ثم كلامه الوقح حول قضية صنصال، وصولا إلى خطف دبلوماسي محصّن بقوة القوانين الدولية، ولا ندري ما يخفيه المستقبل.
إنه التعبير الفعلي عن الأخلاق الدنيئة المتأصّلة في الفرنسيّين، فما عرفهم التاريخ في علاقتهم بالجزائريين منذ قرنين إلا خونة من سفلة الغدر والتنكّر، إذ لا عهودا مؤتمنة معهم ولا ميثاقا محفوظا عندهم، ومن اعتقد فيهم سوى ذلك فما عرفهم حقّ المعرفة.
في كل المحطات المفصليّة مع الجزائريين، غدرت فرنسا بهم وسامتهم سوء العذاب، وقد حدث ذلك مع دخول الاحتلال الغاشم بلاد البواسل، يوم خدع الجنرال دي بورمون الداي حسين، منتهكا كافة شروط الاستسلام وتسليم مدينة الجزائر التي عاث فيها نهبا وفسادا، فلم تسلم من خرابه الوحشي حتى قبور الموتى من النبش وتحويل عظامها إلى مصانع الصابون بمرسيليا، ناهيك عما أوقعه من أضرار بحرّية السكان ودينهم وممتلكاتهم.
وتكرّرت الخديعة الشنيعة مع المقاوم المغوار، الأمير عبد القادر، فقد أرادت فرنسا البغيضة إذلال البطل الذي أرعب قادتها العسكريين، باقتياده إلى سجنها في تولون عام 1948، عوض تركه يهاجر وأتباعه أحرارا طلقاء نحو الإسكندرية أو إلى عكا بفلسطين، مثلما اشترط على الجنرال لاموريسير لإنهاء الحرب، ليقضي سنوات منفاه في ظروف سيئة قبل الرحيل إلى تركيا ثم دمشق.
أمّا مجازر 08 ماي 1945، فستبقى العلامة الفارقة على نذالة الفرنسيين، هؤلاء الجبناء الذين عجزوا عن صدّ ألمانيا النازية، فوعدوا الجزائريين بالحرية مقابل إسنادهم قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، لكن الجنرال ديغول واجههم بالرصاص يوم الاحتفالات بانتصار دول المحور، حتى سقط منهم 45 ألف شهيد.
إذا رحنا نسرد خيانات الفرنسيين، فلن نحصيها عدّا، لكن المتيقّن منه أنهم لم يتغيروا في طباعهم السيئة، ولا تزال نخبُهم في الحكم والسياسة مسكونة بثقافة الاستعمار القديمة، ويؤرّقها حنين “الفردوس المفقود”، ما يرسم الغشاوة على بصائرهم العمياء ويحُول دون إدراكهم تحوّلات العصر والجغرافيا، ولن يكون آخرهم ذاك الماكر الصغير، إيمانويل ماكرون.
سيقول البعض: “ما العمل الآن مع فرنسا إذا كانت لا تعتبر من دروس التاريخ؟ هل باتت القطيعة معها حتميّة؟ وكيف يستقيم هذا الأمر بينما تسعى السلطات الجزائرية إلى فتح صفحة جديدة معها إثر كل أزمة مستجدّة؟
لا شكّ أن العاقل هو من يفكّر بهدوء، غير أن التفكير البراغماتي لا ينسف أبدا عقيدة السيادة التي لا تقبل الدنيّة في الوطنيّة، لأنها صمام الأمان لحفظ المصالح العليا للوطن.
إذا كنّا نثق في مؤسسات الدولة للتعاطي الكيّس مع مناورات عدوّ تقليدي، فإنّ أفق التعاون وبناء مستقبل أفضل مع فرنسا يبدو مسدودا، وليس من مصلحة الجزائر تضييعُ مزيد من الوقت، بل عليها الاكتفاء بتأمين مصالحها الحتميّة مع باريس والتفرّغ لاستكمال طريقها مع شركائها الآخرين ممن يبادلونها الإرادة والإخلاص.
2025-04-14