بعيدا عن النعي الكامل الذي أطلقته (عوالم ما بعد الحداثة) للايديولجيات الكبرى بالإمكان إعلان نعي آخر للطابع الكلاسيكي للرأسمالية كما للايدلوجيا السوفاتية كطبعة رسمية للماركسية وبالإمكان ثانيا مقاربة موت الايدولوجيا الكبرى على الصعيد الفلسفي بموت السرديات الكبرى على الصعيد الأدبي فمقابل موت الانسان (هيدغر) وموت العقل (مدرسة فرانكفورت, ثمة موت للمؤلف – بارت).
وبالإمكان ثالثا مقاربة هذه السرديات الروائية في ايدولوجيا هلسا الماركسية وايدولوجيا السبول (القومية) حيث انتهى المؤلف فيهما إلى حالة من الاغتراب والقلق الوجودي بعد موت سريري لحيلة الكتابة وللحضور النسائي بما هما إزاحة عن الواقع نحو أحلام اليقظة عند هلسا والأحلام الفرويدية عند السبول ونحو حنين جارف للمكان الأول فيما يشبه تداعيات ما بعد الحداثة:
البعثرة والعبث وتقنيات التشظي الروائية (كما سنرى).
فكان متوقعا إذن مع ذبول البريق الايدلوجي العام والسرديات الروائية بشكل خاص استنفاذ حيلة الكتابة والمرأة والأحلام وأن يدير الاثنان هلسا والسبول ظهريهما إلى حائط الإعدام:
السبول بصورة مباشرة بإطلاق النار على نفسة وهلسا بصورة غير مباشرة بانتحار بطله ايهاب بالسيانيد..
ولنا أن تستخلص من ذلك كيف مات السارد (السبول) وظل بطله الراوي عربي حيا وكيف مات الراوي عند هلسا وظل السارد حيا..
وفي التفاصيل يمكن ملاحظة ذلك في المقارنات التالية:
– ثنائية المكان (القرية – المدنية)
– ثنائية الزمان (الواقع – الاحلام)
– ثنائية المرأة (الفاضلة – المومس)
– ثنائية الحزب وضده.
– مصادفة أو مفارقة الجنوب المعرفي السيكولوجي الحميم عندهما بولادتهما وطفولتها الجنوبية (جنوب الأردن).
– اختلاط الراوي بالمؤلف
– اهتمامات نقدية مشتركة بأعمال روائية وشعرية وأدبية مثل اهتمام السبول وهلسا بأعمال محمد البساطي ويوسف ادريس والطيب عربيا وبأعمال فوكنر وهمنغواي والأدب الأمريكي خصوصا.
– ما قاله هلسا عن أنت منذ اليوم: كانت روايتي ” الضحك” التي كتبتها قبل رواية السبول “أنت منذ اليوم” بفترة طويلة تعبر عن الأزمة نفسها ففيها تفتت رؤية كاملة إلى شظايا عبثية.
– الغربة والمنفى الروحي والسياسي وحيث نلمس ذلك في معظم قصائد السبول وفي روايته، كذلك عند هلسا وخاصة في استهلال روايته البكاء على الأطلال:
كأني غداة البين يوم تحملوا لدى سمرات الحي ناقف حنطل
وواد كجوف العير قفر قطعته مع الذئب يعوي كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى ان شاننا قليل الغنى ان كنت لما تمول
كلانا اذا نال شيئا أفاته ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
– اختلاط السرديات بالايدلوجيا (الماركسية) عند هلسا والقومية عن السبول بأشكال من الوجودية.
السياب وغالب هلسا
يشترك الأديبان العربيان، الشاعر العراقي، بدر شاكر السياب، والروائي الأردني، غالب هلسا، في استحضارات معرفية إشكالية داخل النص الأدبي.
ومن هذه الاستحضارات ما يتعلق بالمكان (الباشلاري) في ذاكرته الحميمة وتفاصيله، وفيما يتعلق يظاهر ة النيكروفيليا، وكذلك النوستالوجيا كما يلاحظ الدكتور زياد الزعبي.
فالأولى (اشتهاء الموتى) والثانية الحنين إلى الماضي، حاضرتان بشكل أو بآخر عند الأديبين.
ومن الاستحضارات الأخرى بينهما ما تركه الاهتمام بالأدب الانجليزي عند السياب، والأدب الأمريكي عند هلسا من تأثيرات وتوظيفات يمكن إدراجها ضمن الأدب المقارن وحدود التناص المتعالق عند الاثنين، مع مرجعيات انثروبولوجية وأسطورية ومعرفية..
فالسياب استعار التوظيفات الأسطورية بعد توظيفها بأساطير شرقية رافدية وفرعونية (تموز وعشتار وايزيس واوزيريس).
وهلسا باستعاراته عوالم فوكنر على نحو خاص (الجنوب والأم كمكان أمومي أليف دافيء) مقابل (الشمال الصناعي – المدينة – العوالم الذكورية).
ويلاحظ هنا أن ماعين عند غالب كما جيكور عند السياب مثقلة بالدلالات والإسقاطات المشار لها..
على أن المشترك الأكثر حضورا عندهما، هو سيكولوجيا الجلاد عند هلسا، وحفار القبور عند السياب وعلاقتهما بالجنس.
فهل يمكن للبيئة المورفوليوجية للفرد أن تكون أرحب من جسده الفيزيولوجي ومتى وكيف يتحقق ذلك في نموذج قابل للنقاش وبالأحرى لإسقاطات مقبولة غير مقحمة..
في رواية السؤال عند غالب هلسا وفي قصيدة حفار القبور للسياب، ما يسمح بهذا الاختبار.
عندما يقول كامبل أن الإنسان يعيش بواسطة الموت ومفرداته وقاموسه، التعذيب والإخصاء والاغتصاب والمصادرة فلإنه لا يزال الإنسان الأول، الإنسان الصياد الذي يعيش نفسه، جوهره البدائي في امتحاناته العسيرة..
ومما يذكره كامبل في هذا السياق حكاية المحارب الساموراي.. فبعد أن تمكن هذا المحارب من محاصرة خصمه المطارد المتهم بقتل الملك، وتعرض لإهانته من هذا الخصم الذي بصق في وجهه، كف الساموراي عن قتله.. لأنه لو فعل ذلك لكان ناجما عن إهانته الخاصة..
فالقتل أعقد من ذلك بالنسبة لكل المحاربين تحت سلطة الزعيم أي زعيم في الحقبة الذكورية لاستعادة الطوطم الأول الأعظم لحضوره ولثاراته التي لا تنتهي من أبنائه الذين اعتدوا عليه وشاركوه اغتصاب نسائه.
الموت، الإخصاء، التعذيب، المصادرة تحين دوري أبدي لعملية الخلق الأولى في العصور الذكورية التي تترافق مع إسقاطات جنسية في كل مرة فهو عملية موجهة إلى خصم مزدوج..
ولنتذكر فيما يخص الثأر الذكوري من العصر الامومي أن الخلق ارتبط دائما بقتل الوحش المائي (الأمومي) وشطره نصفين..
في الأسطورة الهندية الفيدا يقوم إله الحرب بقتل التنين فريترا ويفصل السماء عن الأرض.
وفي الاسطورة المصرية يقوم رع بقتل نون أو هاتور ويفصل السماء (فوق) عن الأرض(جب) والهواء(شو).
وفي حفريات رأس شمرا يقوم الرب بقتل يم أو اللوياثان.
وفي اينوما ايلتش البابلية يقوم مردوخ أو مردوك بقتل تعامت أو تيامات رمز الماء المالح ويفصل السماء عن الأرض.
ويعرف الذين قرأوا السياب وغالب جيدا أن ثمة إمراة مهزومة دائما عندهما،
ومما له دلالة في في قراءات فرويد وفروم وكامبل كما أعاد هلسا والسياب إنتاجها، في ربطها بين تجليات المواجهة والقمع السلطوي (الأبوي) مع خصمه الإرث الأمومي وبين العمل الجنسي حيث يتحول الجسد في الحالتين إلى فريسة صياد من أجل الطعن وفي طقوس احتفائية غريبة..