حين تخاف الدولة النووية من ضحكة طفل!
غانية ملحيس
القدس بين المسرح المُقتحم وبنية الحداثة المادية العنصرية
في اللحظة التي اقتحم فيها الجنود مسرح الحكواتي في القدس، لم يكن المشهد سياسيا فحسب، كان فلسفيا، ذا بعد وجودي، يكشف عن جوهر النظام الذي يقف خلف هذه القوة العمياء.
لم يكن الاقتحام مجرد حادث أمني، بل تعبيرا دقيقا عن العقل الأداتي الذي يحكم بنية الحداثة الغربية الاستعمارية المادية العنصرية، ذلك العقل الذي خبرناه في فلسطين بأوضح صوره في قتل الأطفال في غزة، والذي وجدت الصهيونية فيه قاعدتها، وشرط إمكانها، وتجليها الأكثر خشونة.
1. الحداثة التي تخاف من الأغنية
يخيَّل للمرء – للوهلة الأولى – أن الحداثة الغربية التي تحدثت طويلا عن التقدم والعقل والحرية، قد تجاوزت الخرافة والخوف. لكن المشهد أمس في مسرح الحكواتي، المزدحم بالأطفال والفرح والدفوف الصغيرة، يُظهر العكس تماما:
فالحداثة حين تتحول إلى أداة للسيطرة، تصبح أكثر خوفا من أكثر ما هو بشريّ وبسيط: الضحكة، الأغنية، الطفولة.
هذه الحداثة ليست مشروعا للتحرر، كما أرادها فلاسفتها الأوائل، بل مشروعا لإدارة العالم عبرالقوة، وإخضاع الشعوب عبر تحويل البشر إلى “معطيات” و” أشياء” و” تهديدات”. هنا يتلاقى العقل الأداتي مع البنية الاستعمارية:
العقل الذي لا يرى في الطفل إنسانا، بل “احتمالا سياسيا”،
و“خطرا ديموغرافيا”، و“سكانا يمكن إخضاعهم”.
ولهذا، حين يغني طفل فلسطيني بصوت خافت عن زيتونة أو باب العامود، يشعر النظام أن بنيته تهتزّ.
2. لماذا تخاف الدولة النووية من مسرح أطفال؟
لأن الدولة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية – منذ نشأتها – لا تخاف السلاح، بل تخاف المعنى. المعنى هو ما يجعل الوجود الفلسطيني مستعصيا على المحو.
السلاح النووي لا يحمي من سؤال الهوية، ولا من الذاكرة، ولا من صوت طفل يقول: “أنا هنا: بحكاية أجدادي، بلغتي، بثوبي، برقصة دبكة تحفظها الأرض.”
يخاف الاحتلال من المسرح لأن المسرح ليس مكانا، بل بنية إنتاج للمعنى، بينما يقوم مشروعه كله على “إدارة الفراغ”: فراغ الأرض، فراغ التاريخ، فراغ الديموغرافيا، فراغ السردية، فراغ الذاكرة.
وفي تلك اللحظة، لم يكن الحكواتي يقدم عرضا، كان يعيد إنتاج امتلاء الفلسطيني، وهو أكثر ما تخشاه الصهيونية لأنها تقوم أصلًا على نفيه.
3. الطفولة كخطر وجودي على النظام الاستعماري
من غزة إلى القدس، يتعامل النظام نفسه مع الطفل نفسه:
طفل يمكن قتله في رفح، أو إخافته في القدس، أو طرده من الخشبة، أو اقتلاع بيته وأهله من غزة وخانيونس ورفح وجنين ونابلس ونور شمس والخان الأحمر وحي الشيخ جراح والعراقيب والبقيعة وتل السبع…
الطفل هنا ليس طفلا في نظر هذا النظام، الطفل هو الاستمرارية الفلسطينية.
إنّ بنية الحداثة المادية العنصرية لا ترى في البشر بشرا، بل “مخرجات”. ولذلك لا تتردد في قصف الحضانة في غزة، أو اقتحام مسرح في القدس، أو شن هجوم عسكري على بيت أسير سيطلق سراحه ليمنع الفرح والزغرودة والأغنية والرقصة والثوب، لأنها تعتبرهم “تهديدا قوميا”.
وهنا يتكشف الوجه الأكثر خطورة لهذا العقل: عقل لا يفهم الفرح، ولا يحتمله، لأنه لا يستطيع قياسه ولا ضبطه.
4. الصمت الإسرائيلي: بنية لا تسمح بالاستثناء
بحث الناس – كما قال يحيى بركات – أمس عن فنان أو شاعر أو مسرحي إسرائيلي واحد يمكنه أن يقول: “ما حدث في مسرح الحكواتي جريمة.”
لكن الصمت لم يكن حدثا، كان دليلا. لم يكن صدفة، كان قاعدة.
هذا مجتمع لا “يحتوي” العنصرية، إنه مبنيّ عليها.
لا يسمح بالاستثناء، لأن الاستثناء يسقط الأسطورة، ويكشف أن ما يسمونه “ديمقراطية” ليس أكثر من جهاز يعمل على توحيد الوعي لصالح التفوق العرقي.
ولهذا، حين يقتحم الجنود المسرح لوقف عرض مسرحية للأطفال في القدس، يصمت المفكرون والفنانون والمثقفون الإسرائيليون.
وحين ترتجف يد طفل فلسطيني، ترتجف معها كل إمكانية للاعتراف بالآخر.
5. من مسرح أطفال القدس إلى مهرجان الطفل فوق ركام غزة:
المعنى الذي قاوم العقل الأداتي
في غزة، يرفع الأطفال الشاشة فوق الركام. وفي القدس، تُطفأ الأنوار بالقوة.
ماذا يعني ذلك؟
يعني أن الفلسطيني – رغم كل شيء – يصرّ على إنتاج المعنى من داخل الموت. وهذه هي الهزيمة الكاملة للعقل الأداتي المادي العنصري: أنه يملك كل القوة، ولا يملك المعنى. يستطيع أن يقتل وأن يطفئ الضوء، ولا يستطيع أن يُميت الفرح.
في كل قصف على غزة، في كل اقتحام للقدس ونابلس والخليل وجنين والنقب والمثلث، يظهر الشيء الذي لا يمكن لنظام الحداثة الغربي المادي العنصري إسكاته: إنسان فلسطيني يصرّ أن يكون.
6. الفرح كمقاومة:
لماذا لا يفهم الاحتلال هذا الفرح؟
لأن الفرح ليس انفعالا، بل إعلان وجود. ولأن الطفولة ليست مرحلة عمرية، بل إمكان تاريخي. ولهذا فإن ضحكة واحدة في مسرح أطفال تفعل في بنية الاستعمار أكثر مما يفعله ألف خطاب وألف بيان سياسي.
فالفرح ليس ترفا، بل نقيضا مباشرا لبنية النظام الذي يريد فلسطينيا مطيعا، صامتا، قابلا للقولبة، ممتثلا لترامب ووكيله الصهيوني كما هو حال زعماء الأمة.
والطفل الفلسطيني – الذي لا يمنعه الحزن والفقد والجوع من حضور مسرحية فوق الركام في غزة، كما لا يمنع أخاه من الغناء للزيتون في القدس – يعلن أنه غير قابل للقولبة، وأنه يحمل ذاكرة جماعية لا يستطيع النظام الاستعماري وحماته وأعوانه اختراقها.
7. ما الذي لم يفهمه الجنود؟
لم يفهموا أن الخشبة التي أطفأوها ستُضاء في مكان آخر.
ولم يفهموا أن الطفلة التي نزعت عن خشبتها ستعود إليها يوما، وفي صفوفها جمهورلا نهائي من الشهداء والأحياء معا.
لم يفهموا أن الفرح الذي طاردوه سيولد من جديد لأنه يأتي من مكان لا يصل إليه السلاح: من عمق الوجود الفلسطيني.
لم يفهموا أن الطفولة لا تُهزم. وأن الشعب الذي يشتعل وطنه من ضحكة طفل، هو شعب لا يمكن محوه.
العقل الأداتي يهزم نفسه أمام طفل
ما حدث في القدس لم يكن اقتحاما لمسرح، كان انكشافا للعقل الأداتي الذي يدير هذا الاحتلال:
عقل يرى العالم كشيئ، ويرى الفلسطيني كمشكلة، ويرى الطفولة كتهديد. لكنّ الفرح – بما هو نقيض مطلق للهيمنة المادية – يعيد المعنى إلى مكانه:
من تحت الركام، من فوق الخشبة،
من فم طفل يصرّ على الغناء.
ربما يستطيع الاحتلال أن يقتل الأطفال ويطفئ الأنوار، لكنه لا يستطيع أن يقتل أو يطفئ المعنى. والمعنى- في فلسطين – يولد من كل يد طفل تمتد من تحت الركام، ومن كل ضوء صغير، ومن كل أغنية صغيرة، ومن كل قدم صغيرة تدبّ على الأرض.
وهذا الضوء، هو ما يهزم نظام الحداثة المادي العنصري حين يتحول إلى آلة للموت.
25/11/2025