الأرض والفلاح في سوريا ( الحلقة – 7.. والأخيرة)!
إعداد : علي رهيف الربيعي*
بعد جلاء المستعمر الفرنسي عن سورية عام ١٩٤٦، ورث عهد الاستقلال اوضاعا اقتصادية متخلفة في جميع الميادين ، ولكن عهد الاستقلال لم يحدث تغييرا جوهريا في العلاقات الاقتصادية في الريف ، فالاستثمار الاقطاعي ، وبخاصة المحاصصة، بقي على حاله، واستمرت استثمارات الفلاحين الاغنياء والمتوسطين كما كانت ، وأما الذي تطور نسبيا فهو الاستثمار الرأسمالي، الذي استخدم الآلات والجرارات والحصادات لا سيما في الغاب والجزيرة وضواحي المدن الكبيرة . وخلال مرحلة الاستقلال وحتى صدور قانون الإصلاح الزراعي في عهد الوحدة ، واستمر تطور الزراعة عفويا دون تدخل منجزات العلم إلا في حدود ضيقة جدا ، وبقي مئات الألوف من سكان الريف فريسة للاضطهاد الاقتصادي والسياسي و المتمثل في سيطرة البرجوازية والوطنية والاقطاعية، التي حاولت احتكار ثمرات الاستقلال السياسي دون أن تقدم شيئا الفلاحين، ولقد تعاونت البرجوازية الكبيرة وملاك الأراضي وشيوخ العشائر مع رجال السلطة على اغتصاب مزيد من الأراضي الواسعة الخصبة في عدد من المحافظات، وذلك بعد أن شعرت هذه الفئات بما يمكن أن تدره الأراضي المذكورة من خيرات وارباح. خصوصا وان قسما كبيرا من هذه الأراضي يقع على مقربة من الأنهار الغزيرة كالفرات الخابور، فوضعوا يدهم على مساحات شاسعة ثم تقدموا بمعاملات لتسجيل هذه الأراضي بأسمائهم بحجة التصرف بها منذ مدة تفوق المعدل القانوني المقرر ( ١٠ سنوات) وكانت هذه المعاملات تكتفي بشهادة بعض الأشخاص، وتصديق المختار ليتم تسجيلها.
وتعددت أساليب الاحتيال لاغتصاب اراضي املاك الدولة، واراضي صغار الملاك، ومن هذه الأساليب استغلال حاجة بعض صغار الملاك إلى الاقتراض من المرابين أو كبار الملاك أو التجار بفوائد سنوية خيالية كانت تصل في بعض الحالات إلى ١٥٠ ٪ (1). مما يجعل المالك المقترض عاجزا عن تسديد الفائدة ، وتكون النتيجة تراكم الديون على المالك الصغير المدين ، والتنازل عن أرضه للدائن مع البقاء فيها بعد أن يتغير وضعه الاجتماعي ويتحول من مالك إلى فلاح أو مزارع مأجور.
ومن أساليب الاحتيال أيضا، أن يملك احد المتنفذين قرية في السجلات التركية القديمة ( الدفتر خانة) معروفة بحدودها : هضبة ( كذا) من الشمال وتل ( كذا) من الجنوب … إلخ . فيلجا المالك المتنفذ إلى إقامة دعوى لابدال السند القديم بسند جديد ، ويوسع المساحة بأن يطلق اسم الهضبة والتل على هضبة أخرى وتل آخر، يبعد ان مسافة كبيرة عن الهضبة والتل المعنيين بالسند القديم . فتتسع المساحة الجديدة لتبلغ احيانا أضعاف المساحة الحقيقية.
ولقد ساعدت القوانين التي طبقت خلال السنوات العشرة التي اعقبت الجلاء على تكريس هذا الوضع وعلى تدعيم وتقوية الملكية الكبيرة الخاصة، على حساب املاك الدولة والملكيات الخاصة الصغيرة.
ورغم ان مقدمة دستور عام ١٩٥٠ ، وعدت بأقامة نظام اقتصادي واجتماعي صالح، ( يحقق العدالة الاجتماعية ويحمي العامل والفلاح ، ويؤمن الضعيف والخائف ، ويوصل كل مواطن إلى خيرات الوطن) رغم هذا فإن هذا النظام الموعود ، لم تتبين ملامحه خلال تلك المرحلة . إلا إمعانا بالظلم الاقتصادي والاجتماعي.
وقد أورد الاستاذ منير الشريف في كتابه قضية الأرض في سورية عن الملكية الزراعية في الأراضي المخصصة لزراعة الحبوب فقط ، ورغم ان هذا الإحصاء يشمل الأراضي المخصصة للحبوب و فإنه يبقى دليلا هاما على ضخامة الملكية الكبيرة، لا سيما إذا ما عرفنا ان زراعة الحبوب كانت تحتل المركز الأول في البلاد سواء من حيث مساحة الأراضي أو المنتج.
يقول الاستاذ الشريف : أن عدد الذين يملكون ٤٠ هكتار فأكثر من اراضي و الحبوب فقط ، ومساحة ما يملكون من الأراضي حسب المحافظات، استنادا لاحصاء قام به مخاتير القرى عام ١٩٥١ ، عندما طلبت عن طريق وزارة الداخلية، وكنت آنذاك مديرا عاما لمكتب حبوب سورية بأن قسما كبيرا من هذه المساحات المستثمرة قد سجلت باسماء كبار الملاك والشيوخ، وإن هذه الفئة و من كبار الملاكين من الحسكة ، تملك إضافة إلى الحد الأعلى المعتمدة للملكية ، حوالي نصف مليون هكتار من الأراضي الزراعية الخاضعة للاستيلاء.
وبرر سوء توزيع الأراضي الزراعية، وما يترتب عليه من سوء توزيع الدخل الزراعي، بصورة واضحة نسبيا اعتبارا من عام ١٩٥٩ ، اي بعد تفريغ الاقرارات التي قدمها الملاك والمستثمرين تنفيذا لأحكام القانون ١٦١ لعام ١٩٥٨.
انتهى
المصادر :
(1) المرحلة الانتقالية في سورية عهد الوحدة ١٩٥٨ – ١٩٦١، د. بدر الدين السباعي. دار ابن خلدون ، بيروت ١٩٧٥.
(2) منير الحمش، تطور الاقتصاد السوري الحديث، دار الجليل، دمشق
2025 /11/16