من ترامب إلى ممداني.. أميركا إلى أين؟
سعود قبيلات
في لقاء مع فضائيَّة «الميادين»، برنامج «آخر طبعة»، أُجرِيَ في تاريخ 17. 11. 2016، سُئلتُ عن رأيي في فوز ترامب في دورته السَّابقة، وكان فوزه قد أُعلِنَ للتَّوّ (في 8 تشرين الثَّاني 2016)، ولم يكن قد تسلَّمَ منصبَه بعد؛ فقلت:
«الواقع أنَّ الانتخابات الأميركيَّة، هذه المرَّة، اتَّخذتْ طابعاً مختلفاً جدَّاً؛ وهذا يؤشِّر أنَّ قبضة المؤسَّسة الأميركيَّة الحاكمة قد تراخت، بعد الأزمة الاقتصاديَّة الضَّخمة (في 2008)، وبعد التَّدخُّلات العسكريَّة الأميركيَّة في أكثر مِنْ مكان ومردودها السَّلبيّ على الولايات المتَّحدة، وبعد بروز أكثر مِنْ قوَّة دوليَّة، وتراجع مستوى الهيمنة الأميركيَّة على النِّظام الدَّوليّ.
ومِنْ هذه الثَّغرة (تراخِي قبضة المؤسَّسة الحاكمة)، دخل ترامب.
ترامب – كما هو واضح – جاء مِنْ خارج المؤسَّسة الأميركيَّة الحاكمة؛ في حين أنَّ هيلاري كلنتون (منافسته في الانتخابات في تلك الدَّورة) تمثِّل هذه المؤسَّسة.
ولو لم يكن هناك شيء ما حدث في المؤسَّسة الأميركيَّة الحاكمة، لما كان ترامب قد وصل إلى سدَّة الرئاسة في الولايات المتَّحدة».
وأضفتُ قائلاَ: «الآن، من المتوقَّع أنْ تحاول المؤسَّسة الحاكمة أنْ تحتوي ترامب؛ والسُّؤال، هنا، هو: هل التَّغيير الَّذي حدث في أميركا هو من القوَّة والفعاليَّة بحيث يتيح لترامب أنْ يواجه ضغوط هذه المؤسَّسة؟ أم أنَّ المؤسَّسة لديها من القوَّة ما يكفي لإعادة احتوائه في النِّهاية، كما فعلتْ مع غيره؟
في كُلِّ الأحوال، هناك شيء ملموس تغيَّر في الولايات المتَّحدة. ومن الواضح أنَّ هناك قطاعاً واسعاً من الأميركيين يؤيّد ترامب وطروحاته؛ هذا أصبح ملموساً وملحوظاً؛ وبهذا، فثمَّة قوَّة حقيقيَّة تقف وراء هذه الطّروحات.
وبناء عليه، سيكون هناك صراع؛ لكن، بأيّ اتِّجاه سيُحسم هذا الصّراع، من السَّابق لأوانه أنْ نتحدَّث عن ذلك. لكنَّني أعتقد أنَّ الصّراع سيبقى يتفاعل، في المدى المنظور، وسيؤدِّي إلى إحداث تغيير ملموس».
وفي تقرير سياسيّ قدَّمته إلى اللجنة المركزيَّة للحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ، في تاريخ 6. 1. 2024، قلتُ: «في العام 2008، اِنفقأت الفُقَّاعة الاقتصاديَّة، بعدما تضخَّمتْ إلى حدودٍ لم يعُد بإمكان اقتصادات دُولُ المركز واقتصادات العالم ككلّ تحمُّلَها، وأصبحت الأزمةُ أكبرَ مِنْ إمكانيِّةِ تجاهلِها أو احتوائها..
بعضُ الأوساط، في دُول المركز، راحت – آنذاك – ترى في النُّموذج الاقتصاديّ للدُّول الصَّاعدة (نموذج الاقتصاد الحقيقيّ) خياراً معقولاً لتجاوز الأزمة..
ويمكن النَّظرُ إلى ظاهرة دونالد ترامب ضمن هذا الإطار..
ترامب أراد إعادة العمل الإنتاجيّ الخاصّ بالشِّركات الأميركيَّة من الخارج (خصوصاً من الصِّين) إلى الولايات المتَّحدة، وراح يتحدَّث، في هذا السِّياق، عن إمكانيَّةِ خلقِ فُرَصِ عملٍ كثيرةٍ للأميركيين؛ لذلك، أيَّد انتخابَه كثيرون من المحسوبين في عداد الطَّبقةِ العاملةِ الأميركيَّة..
ترامب جاء إلى السُّلطة مِنْ خارج المؤسَّسة الحاكمة، وفوزُه في الانتخابات كان مؤشِّراً على تراخي قبضة المؤسَّسة..
خيارُ المؤسَّسة الأميركيَّة الحاكمة لمواجهة الأزمة الاقتصاديَّة كان (ولا يزال) مختلفاً..
خيارُها كان التَّركيزَ على وقف صعود الدُّول الصَّاعدة عن طريق «العقوبات» الاقتصاديَّة (خصوصاً ضدَّ روسيا والصِّين)، والتَّصعيد العسكريّ؛ الأمر الَّذي قاد إلى الحرب في أوكرانيا، وإلى التَّوتُّرات المتواصلة في المياه الإقليميَّة للصِّين وجوارِها..».
إذاً، مِنْ مظاهر الأزمة، في الولايات المتَّحدة، الَّتي قادت إلى فوز تراب، تراخي قبضة المؤسَّسة الحاكمة، كما سبق أنْ أسلفنا؛ وفوزه، مجدَّداً، يؤكِّدُ أنَّ تراخي قبضة المؤسَّسة ليس لحظة عابرة..
ومِنْ المظاهر الأخرى الخطيرة للأزمة، حالة الاستقطاب، الَّتي كان يمثِّل طرفيها في انتخابات العام 2016: ترامب وبيني ساندرز؛ والآن، في مظهر أشدّ وضوحاً، زهران ممداني.
يمثِّل ترامب أقصى اليمين في حالة الاستقطاب هذه؛ وبينما كان بيني ساندرز يمثِّل أقصى يسار الحالة، إلى وقتٍ قريب، فقد أصبح ممداني، الأن، هو الَّذي يمثِّل أقصى يسار هذه الحالة.
كان ساندرز أوَّل سياسيّ أميركيّ بارز، في العقود الأخيرة، يُصنِّف نفسَه، علناً، بأنَّه اشتراكيّ؛ فجاء ممداني ليقف على يساره. الأمر الَّذي يؤكِّدُ أنَّ الاستقطابَ آخذٌ في الاتِّساع، وليس حالةً مؤقَّتة.
وحالة الاستقطاب، هذه، لم تكن موجودة في السَّابق؛ حيث كانت المؤسَّسة الحاكمة (وأنا لا أُحبّ مسمَّى الدَّولة العميقة، ولا أجده دقيقاً)، تُحكمُ قبضتَها على السُّلطة وعلى الدَّولة؛ أمَّا الآن، فقد أصبح لها شُركاء (بل منافسون وخصوم) على دفَّتي اليمين واليسار، كليهما؛ ونُفوذُها يتراجع، وتخسر مساحات منه، باستمرار، لصالح هؤلاء الخصوم والمنافسين.
ويُلاحَظ أنَّ أوَّل قرارات ترامب، بعد تولِّيه الرِّئاسة، استهدفت مصادر قوَّة المؤسَّسة الحاكمة: البنتاغون، السِّي. آي. أيه، والوكالة الأميركيَّة للتَّنمية الدَّوليَّة (USAID).
وهذا الاستقطاب يعبِّر عن حالة صراع يتفاقم، ومآلاته مفتوحة على احتمالات متباينة.
وشعار أميركا أوًّلاً، الَّذي يطرحه ترامب ومؤيُّدوه أحياناً، أو شعار لنجعل أميركا عظيمة مجدَّداً، الَّذي اتخذته جماعة “ماغا” (MAGA)، شعاراً لها، يمكن ترجمته، بالدَّعوة إلى تفرّغ أميركا لحلّ مشاكلها، وتَرْكِ الحلفاء ليقوم كُلٌّ منهم بتدبير أموره بنفسه.
والطريقة الَّتي يُعامِل بها ترامب حُلفاءه في أوروبَّا وحلف الأطلسيّ، تؤكِّد ذلك.
في كُلِّ الأحوال، لا يمكن عزل الصِّراع، الجاري في الولايات المتَّحدة، عن الصِّراع الدَّوليّ المحتدم مِنْ أجل تغيير النِّظام الدَّولي مِنْ نظام أحادي القطب إلى نظام متعدِّد الأقطاب..
وعلى هذا الصَّعيد، فإنَّ ما يجري في الولايات المتَّحدة، الَّتي تُعدُّ رأس الإمبرياليَّة العالميَّة، ورأس الغرب الإمبرياليّ، يشكِّلُ تهديداً خطيراً لتماسك هذا المعسكر ولنفوذه، ويُعزِّز قوَّة العاملين مِنْ أجل قيام نظام دوليّ جديد متعدِّدة الأقطاب.
2025-11-17