زَهْران مَمْداني، أبعَدُ من مُجَرَّدِ عُمدةٍ لِمدينة!
د. عصام الخواجا*
لَمْ يَكُن فَوزُ المُرَشَّحِ زَهْران ممداني لِيَتَبَوَّأَ موقِعَ عُمدةِ نيويورك حَدَثًا مَعزولًا، أو طَفْرةً تِلقائيّة، بل جاءَ بِفِعلِ تَراكُماتٍ مُتسارِعةٍ ومُزلزِلةٍ حَدَثَت خِلالَ العَامَيْنِ الماضيَيْن، وأبرَزُها غَزّة، بِكُلِّ ما بَثَّتْهُ لِلعالَمِ مِن تَوثيقٍ لِبَشاعةِ الإبادةِ، وعَظَمةِ الصُّمودِ، واستِثنائيّةِ المُقاوَمة.
جاءَ ذلك في ظِلِّ واقِعٍ آخِذٍ في التَّشكُّلِ في المُجتَمَعِ الأمريكيّ، وَسْطَ بِيئاتِ المُهاجِرينَ بِأُصولِهِم المُختَلِفة، والأمريكيينَ مِن أُصولٍ إفريقيّة، وقِطاعاتٍ واسِعةٍ مِن الطَّبقةِ الوُسطى، ونُخَبِ المُفَكّرينَ والمُثقّفينَ والفنّانينَ، والشَّبابِ وطُلّابِ الجامِعات، وصُعودِ أعضاءَ في مَجلِسَيِ النُّوّابِ والشُّيوخِ؛ رَشيدةَ طَليب وإلهانَ عُمر، بَعَثَت مِن جديدٍ قِيَمَ العَدالةِ والحَقيقةِ، بِمَفهومِهِما الواسِعِ والشّامِلِ والإنسانيّ، لِتَصدُرَ المَشهَد.
نَحنُ أمامَ فَوزِ أحَدِ رَوافِعِ رايةِ العَدالةِ والحَقيقةِ في مُواجَهةِ الظُّلمِ والتَّضليل، العَدالةِ والحَقيقةِ لِفِلسطينَ ولِشَعبِها، العَدالةِ والحَقيقةِ لِلفُقراءِ والمَحرومينَ والمُهمَّشينَ والمُهاجِرينَ مَنقوصي الحُقوقِ في الوِلاياتِ المُتَّحِدة، العَدالةِ لِمَن لَمْ يَكُن يُعتَدُّ بِصَوتِهِم ورَأيِهِم وحُقوقِهِم.
استَطاعَ زَهْران ممداني عَبْرَ أَدائِهِ وخِطابِهِ تَحفيزَ قِطاعاتٍ واسِعةٍ مِنَ النّاخِبينَ الأمريكيينَ لِلمُشارَكةِ في الاقتِراع، وكانوا سابِقًا مِنَ الغالِبيّةِ المُستنكِفَةِ عن الاقتِراع، يَطغى عَلَيها الفِئةُ العُمريّةُ الشّابّة، تآزَرَت مَع تَحوُّلاتٍ جَوهَريّةٍ في مَواقِفِ اليَهودِ الأمريكيينَ، الّذينَ كانَ جُلُّهُم داعِمًا لِلكِيانِ الصّهيونيِّ الاحتِلاليِّ الإحلاليِّ عندَ إنشائِهِ عامَ 1948، بَينَما الآنَ، فإنَّ 61% مِنهُم يَعتَبِرون “إسرائيل” مُرتكِبَةً لِجَرائمِ حَربٍ في غَزّة، و40% مِنهُم يَعتَبِرونَ ما يُرتكَبُ في غَزّةَ إبادةً جَماعيّةً.
إنَّ تَحوُّلَ وَعيِ أكثَرَ مِن نِصفِ الشَّبابِ اليَهودِ الأمريكيينَ نَحوَ خِطابِ مُناهَضةِ الصّهيونيّةِ ودَعمِ حَقِّ الشَّعبِ الفِلسطينيِّ في تَقريرِ مَصيرِهِ، وتَحريرِ فِلسطينَ مِنَ الاحتِلالِ الاستِيطانيّ، شَكَّلَ عامِلًا مُقَرِّرًا في تَوسيعِ فارِقِ نِقاطِ تَفَوُّقِ وفَوزِ ممداني كَعُمدةٍ لِمدينةِ نيويورك.
مِنَ الأبعادِ المُهِمّةِ الّتي سيكونُ لَها أَثَرُها وفِعلُها في المَدى المُتوسِّطِ والأبعَدِ، دونَ السُّقوطِ في فَخِّ المُبالَغةِ، ما يَلي:
أوّلًا: تَعزيزُ دَورِ التَّيّارِ الاشتِراكيِّ داخِلَ الحِزبِ الدِّيمقراطيّ، الّذي تَحوَّلَ ممداني إلى أحَدِ رُموزِهِ، بِقيادةِ بيرني ساندرز، واتِّساعُ دائِرَةِ تَأثيرِهِ في جُمهورِ ناخِبيهِ، ما يُنَبِّئُ بِتَحوُّلاتٍ أعمَقَ سَيَشهَدُها هذا الحِزبُ، سَتُقَلِّصُ نُفوذَ الدّاعِمينَ لِلكِيانِ الصّهيونيِّ في صُفوفِهِ، وقد يَترتَّبُ على ذلكَ وِلادَةُ حِزبٍ جديدٍ يُمَثِّلُ هذا التَّيّارَ في الوِلاياتِ المُتَّحِدةِ الأمريكيّةِ، يَكسِرُ هَيمَنَةَ الحِزبَيْنِ؛ الجُمهوريِّ والدِّيمقراطيّ.
ثانيًا: أنْ تَكونَ مَدينَةُ نيويورك هي ساحَةَ تَحقيقِ هذا الفَوزِ الجَلِيّ، وهي المَدينَةُ الّتي تَتميَّزُ بِحُضورٍ وقُوّةِ اللّوبي الصّهيونيِّ فيها، وهي الأكثَرُ تَأثُّرًا بِقُوَّتِهِ ونُفوذِهِ، يُنَبِّئُ بِما يُمكِنُ أنْ يَتَكَرَّرَ في وِلاياتٍ أمريكيّةٍ أُخرى، تُوازِيهِ بِتَشَكُّلِ لوبيّاتٍ أُخرى مُناهِضَةٍ لِلصّهيونيّة.
ثالثًا: لُغَةُ ومُصطَلَحاتُ خِطابِ ممداني تَعكِسُ وَعيًا سياسيًّا وفِكريًّا وإنسانيًّا سِمَتُهُ الواضِحةُ “خِطابٌ يَساريّ”، يَشُقُّ مَسارًا سياسيًّا هَدَفُهُ تَحقيقُ العَدالةِ الاجتِماعيّةِ في قَلبِ الدَّولةِ الرَّأسماليّةِ الأكْبَرِ والأكثَرِ تَوَحُّشًا.
رابعًا: أنْ يَضطَرَّ ترامب لِلتَّدخُّلِ وقيادةِ التَّحريضِ الإعلاميِّ الانتخابيِّ المُضادِّ لِممداني، والتَّهديدِ بِحَجْبِ الدَّعمِ الماليِّ الفيدراليِّ عن مَدينَةِ نيويورك لأكثَرَ مِن مَرّةٍ، لِلتَّأثيرِ على نَتائجِ التَّصويتِ في مُحاوَلاتٍ يائِسَةٍ باءَت جَميعُها بِالفَشلِ، مُؤشِّرٌ على حالَةِ القَلَقِ الّتي انتابَت ترامب جَرّاءَ صُعودِ نَجمِ زَهْران ممداني، الّذي فازَ في المُنافَسَةِ (المُنازَلَةِ) الشَّرِسَةِ بِدَعمِ الطَّبَقاتِ المَحرومَةِ والوُسطى في مُواجَهَةِ مُنافِسيهِ المَدعومينَ مِن قِبَلِ 26 مِليارديرًا.
خامسًا: بِدايَةُ تَصَدُّعاتٍ في صُفوفِ قِوى وقِطاعاتٍ اجتِماعيّةٍ وَثِقَت بِبَرنامَجِ ترامب الانتِخابيِّ الشَّعبويِّ واكتَشَفَت عُقْمَ قُدرتِهِ على الوَفاءِ بِها، مُتَرافِقَةً مَع حالَةِ الاستِقطابِ ذاتِ المُحتوى والبُعدِ الطَّبَقيِّ الّتي حَفَّزَتْها وتُحفِّزُها سياساتُ ترامب الاقتصاديّةُ الدّاخليّة، ما يُنَبِّئُ بِمُقَدِّماتِ تَصاعُدِ الصِّراعِ الطَّبَقيِّ داخِلَ الوِلاياتِ المُتَّحِدةِ الأمريكيّةِ.
الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني
2025-11-16