بإيجاز
حق تقرير المصير
الطاهر المعز
يعتبر بعض أصدقائنا ورفاقنا الأعاجم، وحتى بعض العرب إن اليهود يُشكلون شعبًا ( أو أُمّةً) رغم تعدّد المناطق والبُلدان والقارّات التي تضمّهم، فاليهودية ديانة، جعلت منها الحركة الصهيونية إيديولوجية، وحركة سياسية تدّعي إن لليهود قواسم مُشتركة، غير الدّيانة، وطورت الحركة الصهيونية برنامجًا رجعيا واستعماريا جعل من الإحتلال الإستيطاني لفلسطين – بدعم من القوى الإمبريالية وبتواطؤ من القوى الرجعية العربية – هدفًا وجعل من إعلان الدّولة الصهيونية يوم “استقلال”، لا أحد يدري هو استقلال من وأي حركة تحرر نشأت غير الحركة الوطنية الفلسطينية ضد الإستعمار البريطاني؟
كما صفّق بعض رفاقنا وأصدقائنا، وكذلك بعض العرب وبعض العراقيين للإنفصال الكُرْدي في شمال العراق الغني بالماء والمحروقات، وتحويله إلى قاعدة عسكرية أمريكية وصهيونية ووكر تجسّس على سوريا وإيران، بذريعة تطبيق مبدأ حق تقرير المصير، وحصل نفس الشيء في سوريا، حيث مارست المليشيات العشائرية الكُرْدِيّة القمع ضد غير الأكراد، بدعم امبريالي أمريكي وأوروبي، ولا تندرج حروب الإنفصال في إقليم كردستان العراق أو في سوريا أو في جنوب السودان ضمن “حق الشعوب في تقرير مصيرها”، بل ضمن مخططات امبريالية لتقسيم الوطن العربي وتفتيته، من اتفاقيات سايكس-بيكو ( 1916) ووعد بلفور ( 1917) إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير، بنسخته الصهيونية ( 1982) أو الأمريكية، إثْر احتلال العراق ( 2004)…
طَوَّرَ فلاديمير لينين أُطْرُوحة “حق الشعوب والأمم في تقرير مصيرها”، قبل الثورة البلشفية بسنوات، وعند إنشاء اتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفييتية، أدْرَجَ دستور الإتحاد حق تقرير المصير وحق الإنفصال للشعوب والأمم المُنضوية تحت لواء الإتحاد السُّوفييتي…
نُشرت أطروحة فلاديمير لينين بعنوان «المسألة القومية في برنامجنا» سنة 1903ن وتضمّنت : « يَفْتَرِضُ الحكم الذاتي الإقليمي وجودَ مستوى عالٍ من التطور السياسي والاقتصادي يسمح للإقليم بإدارة شؤونه الداخلية»، وذَكَر في كرّاس «حق الأمم في تقرير مصيرها» سنة 1914، سنة انطلاق الحرب العالمية الأولى، وكذلك في ” مشروع الأطروحات حول المسألة القومية والاستعمارية”، الذي وجّهه إلى الأممية الشيوعية، سنة 1920: “يجب على الشيوعيين دعم الحركات الثورية في المُسْتَعْمَرَات، فقط عندما تكون ثوريّة بحقّ، لا مجرَّد محاولات لإنشاء دولة قومية برجوازية جديدة»، ولم يُقِرّ لينين حق تقرير المصير كمبدأ غير مرتبط بالمناخ السياسي وبالمحيط والسياق التاريخي، كما لم يدعم الاستقلال القومي أو الانفصال السياسي وتأسيس دولة، دون قيد أو شرط ، بل ربط ذلك بتوفُّر الظّروف السياسية والمادّية التي تحول هذا الإستقلال أو الإنفصال إلى أداة تُحسّن أوضاع الطبقة العاملة والفئات الشعبية، وليس إلى أداة تقسيم العمال والكادحين أو تسهيل عملية استغلالهم من قِبَل الرأسمالية والإمبريالية، لأن الشرط الأول لنضال الشيوعيين هو تحقيق مصالح البروليتاريا في بلدهم وفي جميع بُلدان العالم، ولا يمكن دعم انفصال أو استقلال إقليم أو أُمّة إذا لم يكن الإقليم قابلا للحياة ولا يمتلك استقلالية سياسية واقتصادية، لأن الإرادة السياسية لا تكفي، فلا بُدّ من توفير العامل الإقتصادي و” لا يمكن تقسيم المناطق الإقتصادية الكبرى إلى وحدات صغيرة ومعزولة دون إلحاق ضرر جسيم بالتنمية الاقتصادية… فالرأسمالية تقود حتمياً إلى تقارب الأمم لا إلى عزلها» (ملاحظات نقدية حول المسألة القومية – لينين 1913) وقد يَتَحَوَّلُ الإنفصال إلى كارثة أذا كانت المنطقة المُرادُ فَصْلُها مُرتبطة بسوق اقتصادية مُوَحّدة (مراكز صناعية وشبكات نقل وتوزيع وتكامل اقتصادي…)، لأن التّفكّك الإقتصادي، بدون وجود بديل قابل للحياة، يُؤَدِّي إلى التفكك السياسي ويُضعف كل جهود التنمية ووحدة الطبقة العاملة…
الأكراد أُمّة وشعب موجودان قبل الأتراك في منطقة تمتد بين فارس وأنطاكيا، ويوجد حاليا أكبر عدد من الأكراد في تركيا، ثم إيران فالعراق وأخيرًا في سوريا حيث كان عدد الأكراد قليلاً قبل استخدامهم من قِبَل الدّولة العثمانية ثم تركيا في إبادة الأرمن، ثم تقتيلهم بدَوْرِهم من قبل جيش تركيا، ولجأ بعضهم إلى سوريا حيث بقوا في شريط لا يزيد عرضه عن خمس كيلومترات داخل حدود سوريا، ولما تمت الوحدة بين سوريا ومصر ( الجمهورية العربية المتحدة بين 1958 و 1961) سمح لهم جمال عبد النّاصر بالإستقرار في أي مكان من سوريا وحصولهم على الجنسية ومساواتهم في الحقوق والواجبات وقبل السماح للاجئين من تركيا بالإستقرار في مناطق غير حدودية، لم يعرف الأكراد ميزًا عنصريا أو لغويا أو أثنيا في سوريا – كما يحدث ذلك في تركيا أو إيران – وكان الرئيس حُسني الزعيم ( 1897 – 1949 ) من عائلة كردية مستقرة منذ زمن في حلب، وكذلك الرئيس أديب الشيشكلي ( 1909 – 1964)…
كانت ولا تزال حركة الأكراد الإنفصالية في العراق وسوريا رجعية، رغم البريق الذي صنعه لها بعض اليسار “الغربي” الذي لا يُناصر القضية الفلسطينية ويدّعي إن ما سُمِّي “روج آفا” أو الإدارة الذاتية العشائرية في شمال شرقي سوريا قمّة الإنجازات الثّورية، ويتجاهل هذا اليسار الأَعْوَر الدّعم الأمريكي العسكري والسياسي والإعلامي والمالي لمليشيات العشائر الكردية في سوريا…
إن الأكراد شعب واحد من بلاد فارس إلى بلاد الخزر التّركية، مرورًا بالعراق وسوريا، ولهم حق الإنفصال إن أرادوا، لكن أظهرت تجربة انفصال أكراد العراق إن الإقليم تحوّل تحت القيادة الكُردية الرّجعية إلى قاعدة عسكرية وقاعدة تجسّس تُهدّد إيران والعراق وسوريا، ولذا فإن طرح السّؤال التّالي يُصبح مشروعًا: “هل يمكن للإمبريالية دَعْم مبدأ حق تقرير مصير الشعوب ” دون التفكير في مصالحة شركاتها الإحتكارية بالدّرجة الأولى؟
2025-11-13