الدرس الأوكراني للعرب!
وليد عبد الحي
دون مبالغة وبقدر من الأناة، اظن ان اغلب مفاهيم علم ونظريات الجيوبولوتيك والجيواستراتيجي ارتبطتا بالتاريخ الروسي ، فماكيندر وهو احد آباء الجيوبولتيك طرح نظريته عام 1904 حول اوراسيا، ولم تكن نظرية راتزل الالماني ايضا حول المساحة الحيوية (Lebensraum ) بعيدة عن هواجس التوسع الروسي، واحيا كارل هاشوفر نظرية ماكيندر بكل تداعيات ذلك على الاستراتيجية النازية ،ولم ير الفكر الاستراتيجي الامريكي ممثلا بنظرية نيكولاس سبيكمان مناطق الحواف او الهوامش (Rimland) الا من النافذة الروسية، فطور فكرة الاحتواء .
هذه الادبيات الغربية واجهتها ادبيات روسية جيوبولتيكية، ولعل التيار الاوراسي التقليدي (تروبسكي و سافيتسكي) الذي اعتبر روسيا جسرا بين اوروبا وآسيا يعزز مركزية روسيا ويجعلها جاذبة للاطماع الخارجية، بينما وسع التيار الليبرالي الروسي الحديث(روغوزين) المنظور ليجعل من هذه المركزية محورا لا لتكون مجرد رابط بين القارتين بل ان تكون احد مراكز العولمة ، واستنادا لكل هذا التراث الفكري تكرست فكرة مواجهة الغرب لدى التيار الروسي القومي المتشدد الذي يقف الكسندر دوغين على رأسه.
ما سبق شكل لروسيا منظورها الاستراتيجي القائم على متطلبات الجيواستراتيجي وهي:
1- خصوصية روسيا كقلب اوراسيا ،وهذه الخصوصية من الضروري منع شرذمتها.
2- الاندماج الروسي في اوروبا سيساهم في تذويب تلك الهوية الروسية التاريخية.
3- ان اعتبار روسيا القوى البرية الاولى عالميا يتضمن “تباينا” مع القوى البحرية الاولى عالميا التي لم تنفك تسعى لشرذمة روسيا.
نتيجة لما سبق استخلص دوغين تصوره برفض احادية القطب والتبني التام للتعددية القطبية التي تكون روسيا احد اقطابه، بل ذهب الى حد تكريس منظور “بري جيوبولتيكي” يقوم به محور موسكو برلين طهران، وهو امر لا يبدو بعيدا عن تصورات وخبرة الرئيس بوتين.
فإذا اتجهنا للتيار الليبرالي الروسي سنجده يولي الموقع الجغرافي الاهمية الكبرى لروسيا لتكون عقدة تجارية وطاقوية وتكنولوجية للعالم .
يشير العرض السريع السابق الى انه من الواضح ان الادارة الاوكرانية الحالية لم تدرك ان منظورها الجيواستراتيجي لروسيا لم يضع في اعتباره الأساس الجيوبولتيكي لروسيا، ففي الفترة الاولى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي( 1991—1994 وهي فترة ليونيد كرافتشوك) تم حل مشكلة الاسلحة النووية لكن علق الطرفان في موضوع اسطول البحر الاسود وشبه جزيرة القرم التي استأجرتها بداية روسيا، وفي العشرية اللاحقة لذلك وحتى 2005 (فترة ليونيد كوتشما) ساد المنظور البراغماتي بمحاولة التوازن بين روسيا واوروبا، لكن هذه السياسة افرزت تشرذما اوكرانيا داخليا- برزت ملامحه منذ عام 2000 بين من يرجح الكفة الروسية وبين من يشده الحنين لأوروبا، وهو ما انتهى الى “الثورة البرتقالية وحسم التوجه لصالح الغرب على حساب العلاقة مع روسيا” مع فيكتور يوشتشينكو الذي كان تواقا للانضمام الى الناتو والاتحاد الاوروبي ، واتسعت الشقة بمناصرة اوكرانيا لجورجيا (في الحرب الروسية الجورجية 2008)، لكن الروس مع وصول بترو بوروشنكو للسلطة حتى عام 2019 ،ونتيجة لضم روسيا للقرم(2014) واندلاع الصراع في دونباس(حيث الغالبية الروسية في اوكرانيا ) وفرض تاشيرات دخول على الروس لأوكرانيا ، تعمق الخلاف والعداء، واصبح الانضمام الاوكراني الى الاتحاد الاوروبي والناتو هو الشعار الاوكراني الاول ببطولة زيلينسكي حيث تقدمت دولته بطلب للعضوية في الناتو عام 2022، وكانت تلك مقدمة للمعركة الحالية.
ان الخطأ الذي ارتكبته اوكرانيا هو التعامي عن مقتضيات ادراك الدرس التاريخي للجيوبولتيك الروسي، ولاهمية المجال الحيوي الروسي وللمنافسة البرية البحرية ولاهمية الهوية القومية ولكن بفهم معاصر يقوم على الروابط العضوية مثلما لا يتنكر للروابط الآلية.
كانت نتائج سياسات زيلينسكي ما يلي:
اولا: خسارة حوالي 110 آلاف كم مربع من بلاده.
ثانيا : استمرار التوسع الروسي بمعدل 435 كم مربع شهريا.
ثالثا: تفكك الموقف الأوروبي الى دول مساندة وأخرى مترددة وأخرى بعيدة عن موقف زيلينسكي.
رابعا: لم يعد الانضمام للناتو خيارا محتملا.
خامسا: تراخي متزايد للموقف الامريكي.
سادسا: الخسائر الاوكرانية:
-العسكرية بين 70 و 75 الف قتيل.
-الاقتصادية: 175 مليار دولار
-التهجير الداخلي والخارجي حوالي 35% من السكان.
ما الدرس المستخلص للمنطقة العربية:
لن اتوجه بتصوراتي للنخب العربية الحاكمة بحكم قصورنا المعرفي امامهم، ولكني اتوجه للباحثين على امل تكريس فهم البعد الجيوبولتيكي العربي ومقومات بناء جيواستراتجي عربي ، فهل نحن:
1- موقع جيوبولتيكي هام جدا ام هام ام متوسط او ضعيف؟وما هي مقومات الجيواستراتيجي العربي؟
2- ما هو المجال الحيوي العربي ،وكيف نصنف سُلَّم هذا المجال؟
3- هل هناك مركز للجيوبولتيك العربي ام يتغير أم هناك مراكز متعددة بتعدد النظم الاقليمية الفرعية العربية
4- ما تاثير اسرائيل على كل ما سبق.
5- هل ستبقى القيمة الجيوبولتيكية العربية على حالها خلال العقود الثلاثة القادمة بغض النظر عن التطور التقني وتنامي العولمة وتراجع نصيب النفط من مصادر الطاقة.
6- هل يمكن لدولة عربية واحدة او عدد محدود من مواجهة كل ملابسات هذا المشهد الذي عرضناه؟ فهل يفرض ذلك اعادة النظر في كل مسلماتنا؟
7- هل من تشابه بين المنظور الجيوبولتيكي الروسي والجيوبولتيك العربي؟
الامر معقد، لكن البعض لديه القدرة على الاجابة على كل ذلك وبشكل قاطع وفي بضعة سطور، اما أنا فسأظل برفقة “ربما”.
2025-11-09