يوم اللغة العربية 18 كانون الثاني/ديسمبر!
الطاهر المعز
قررت الأمم المتحدة يوم الثامن عشر من كانون الأول/ديسمبر 1973 اعتماد اللغة العربية لغة رسمية في الأمم المتحدة، وكان الرئيس الجزائري الراحل، هواري بومدين أول من خَطَب باللغة العربية في الأمم المتحدة ( نيسان/ابريل 1974) دفاعًا عن نظام اقتصادي عالمي جديد يُضيّق الهُوّة بين الدّول الرأسمالية المتطورة والبلدان الواقعة تحت هيمنة الإمبريالية، وأصبح يوم الثامن عشر من كانون الأول/ديسمبر من كل عام يومًا للإحتفاء باللغة العربية، واللغة في الواقع ليست وسيلة تخاطب واتصال فحسب بل هي وعاء ثقافي وحضاري وتعبير عن الهوية ورمز للإستقلال…
اللغة العربية هي إحدى اللّغات السّامية والأفروآسيوية كما العبرية والآرامية والكردية والبربرية، وأصبحت لُغَةً مُستقلّة حوالي الألفية الثانية قبل الميلاد في شبه الجزيرة العربية،، وبدأ التحدث باللغة العربية في جنوب الشام وشمال شرق شبه الجزيرة العربية أوائل الألفية الأولى قبل الميلاد، ويمكن تصنيف اللهجات العربية القديمة شمالية، وحجازية… نشأت الأبجدية العربيَّة وتطوَّرت من الأبجدية الآراميَّة، وانتقلت إلى شبه الجزيرة العربيَّة عبر اللغة النبطيَّة في جنوب الشام، ويعود تاريخ أول نص مكتوب بالعربية عثر عليه علماء الآثار إلى حوالي خمسمائة سنة قبل الإسلام.
يُعَدُّ أبو الأسود الدُّؤَلي ( توفق سنة 688 ميلادي) أوّل من ضبط قواعد النحو (الفاعل والمفعول به والمضاف وحروف الرّفْع والنصب والجرّ والجزم، وكانت إسهاماته في تأسيس وتَبْوِيب أساسيات علم النحو، مع تلمِيذَيْه نصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز، وقاموا بتنقيط القرآن الكريم ( كانت الحروف تُكتَبُ بلا نقاط ولا حركات) وضبط كلماته، ثم تابع أبو بشر عمرو بن عثمان بن قَنبْر ( سيبويه) الجهد حتى وفاته في الخامسة والثلاثين من عمره، سنة 180 هجرية ( 796 ميلادية)، وهو فارسي الأصل، هاجرت أُسْرَتُهُ إلى مدينة البصرة بالعراق، وهو كذلك تلميد الخليل بن أحمد الفراهيدي ( واضع العروض وأوزان الشعر العربي) ويُعتبر “الكتاب” لسيبويه أهم مؤلفات أُسُس علم النّحو
نشَر الخليل بن أحمد الفراهيدي أول معجم للُّغَة العربية ( معجم العَيْن) سنة 170 هجري ( 786 ميلادي) يُقدّر عدد المتكلمين بالعربية بنحو 470 مليون شخص في العالم، في الوطن العربي، والعديد من البلدان الإسلامية، وشمال مالي وتشاد والنيجر والسنغال والعديد من المناطق الأخرى…
الفُصحى أم العامّيّة – صراع زائف
منذ الأيام الأولى لاحتلال الجزائر هدم الجيش الفرنسي المدارس والزوايا التي كانت تُدرّس اللغة والأدب إلى جانب الفِقْه، وحَصَرَ الإستعمار الإستيطاني الفرنسي تعليم اللغة العربية في المدارس القرآنية لتعليم القرآن حَصْرِيًّا، وفرض اللغة الفرنسية في الإدارة والقضاء وكافة مجالات الحياة، وفي المقابل شجّع تدريس اللغة البربرية وعين لاحقًا موظفا (بلقاسم بن سديرة – 1844 – 1901 ) يخضع لوزارة الحرب وليس لوزارة التّعليم، للإشراف على نشر اللهجة العامية الجزائرية وتأسيس أكاديمية بربرية بداية من 1886، كما كلف الإستعمار الفرنسي أستاذًا جامعيا فرنسيا – متعاونًا مع الإستخبارات العسكرية – لتأليف معجم يترجم الألفاظ والعبارات الجزائرية الدّارجة إلى الفرنسية، بالإضافة إلى جهود أخرى عديدة للقضاء على اللغة والهوية والثقافة العربية، ولا تزال السلطات الفرنسية تُطارد العربيية وكل ما يمتُّ بصلة إلى العُرُوبة…
أنتج الأُدباء العرب نصوصًا مسرحية وأشعارًا رائعة باللهجات المحلية، وارتقت أشعار بلقاسم اليعقوبي وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمان الأبنودي وأحمد رامي ومظفّر النّواب إلى مستوى الإبداع وخصوصًا القصائد الغنائية والمُوشّحات التي ترنّم بها بعض الفنّنين، كما أدْمَج العديد من كُتّاب الرّواية والقصة القصيرة حوارات باللهجات المحلية كشكل من “الواقعية” ضمن سياق الرواية: الطاهر وَطّار وعلي الدّوعاجي والطّيب صالح ونجيب محفوظ وحنّا مينة وغيرهم، لكن يكتب العديد من التقدّميّين العرب منشورات سياسية أو تعليقات على الأحداث باللهجات المحلية ( الدّارجة أو العامِّيّة) في وسائل التواصل المُسمّى “اجتماعي” بدلاً من الفُصحى بذريعة توجّههم إلى عامة الشعب، فخلقت هذه العادة غير الحميدة مَسْخًا للُّغة وللسّياسة، لأن اللّهجات المحلية محدودة الإنتشار بطبيعتها، وهي حجّة باطلة لأن من يعرف تفكيك الحروف والكلمات، ويحسن القراءة والكتابة لا يحتاج إلى غير اللغة الأم لفهم النّصوص والأفكار المَعْرُوضَة، ويُعتَبَر استخدام اللهجات المَحَلِّيّة من أدْنى درجات الشوفينية والإقليمية والإنغلاق، فيما تُعتبر الكتابة باللغة العربية ( الفُصْحى) خطوةً نحو الأُمَمِيّة، فهي تَوْسِيع لنطاق التّواصل بين البشر، ونطاق نَشْر وتبادل الفكر والمعرفة والخبرات والتجارب…
ينطبق على هؤلاء قَول الشاعر حافظ إبراهيم ( 1872 – 1932 ) الذي يُفنّدُ زَعْم “ضُعف” اللغة العربية في زمن التقدّم العلمي والتكنولوجيا، ويُؤكّد إن ضُعْف اللغة من ضُعْف أبنائها:
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني…. عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي!
وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِدْ لِعَرائِسي…. رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدتُ بَناتي!
أنا البحر في أحشائه الدُّرًّ كامنٌ…. فهل ساءلوا الغوَّاص عن صدفاتي؟!
انتشرت اللغة العربية حتى القرن الخامس عشر لأنها كانت لغة القُرآن الذي نَشَرَ الإسلام من الأندلس إلى الصّين ونَشَر معه اللغة والثقافة العربية، كما كانت العربية لُغَةَ العلوم والثقافة زمن القوة السياسية والعسكرية للعرب فكانت وسيلة لنقل العُلُوم والمعارف إلى مختلف مناطق العالم، وضعُفت بسقوط بغداد والأندلس، وبحلول زمن الإنكشارية والإحتلال العُثماني لمعظم البلدان العربية ومنطقة البلقان، باسم الإسلام، قبل تسليم جميع هذه المناطق المحتلة إلى الإمبريالية الأوروبية التي فَرَضَت لُغتها وثقافتها بالقُوّة…
وصفت بعض النّسوِيّات اللغة العربية بأنها أكْثَرُ “ذُكُورية” من اللغات الأخرى، وفي الواقع فإن اللغة العربية لغة اشْتِقَاقِيّة تسمح بكل يُسْرٍ اشتقاق إسم أو صفة من الفعل الثلاثي ( أو من المَصْدَر) وتسمح بتأنيث الأسماء والصّفات والأفعال والمِهَن على سبيل المثال ( عاملة أو فَلاّحة أو مُديرة أو طبيبة أو وزيرة…) خلافًا للغات لاتينية مثل الفرنسية أو الإسبانية، وهي من اللغات القليلة التي تُفْرد للمؤنّث ضمائر خاصة ( أنْتِ – هِيَ – هُنّ…) وبدل التركيز على شكل الجُملة أو العبارة، يمكن التّركيز على الإرتقاء بالوعي الجَمْعي في مجتمعاتنا بهدف إرساء معايير وقِيَم احترام كرامة الإنسان، والمساواة في الحقوق والمُمارَسَة…
لنجْعَلْ من اللغة والثقافة العربية عاملاً يُساعدنا على مُقاومة الإستعمار والإمبريالية ومقاومة الإضطهاد والإستغلال، وكذلك مقاومة منظمات الإسلام السياسي التي تدين بالولاء إلى تركيا أو قَطَر، وتريد جعل العربية تابعة للإسلام، وليس العكس، فاللغة العربية – وكذلك الهوِيّة – أقدم من الدّين الإسلامي بقرون، وساهم نشر الإسلام في نشر العربية لأن القرآن عربيٌّ…
أهملت الأنظمة العربية اللغة والهوية والثقافة العربية وهَمّشتها ونفّرت الجمهور من قراءة الكُتُب، رغم كثْرة مؤسسات التعليم العالي، فاللغة والثقافة لا تتطور بدون تعميمها في مؤسسات التعليم والبحث العِلْمي وفي الفضاء الإعلامي والثقافي، ولذلك فإن الدّفاع عن اللغة والثقافة والحضارة العربية هو فِعْل مُقاوَمة ولنجعل من العربية لغة التواصل والإعلام والتعليم والعلوم والتكنولوجيا ولغة استشراف المستقبل…
2025-12-18